أفكار وآراء

أمن الطاقة وأهميته البالغة

02 مايو 2018
02 مايو 2018

كان أحد أبرز العناوين التي تحدثت عن زيارة ميركل إلى أمريكا والتي تمت بالفعل منذ نحو عشرة أيام أنها “ تتوجه إلى واشنطن ويدها على قلبها ! “ . كانت سيدة ألمانيا تعرف مسبقا صعوبة التفاوض مع رجل مثل ترامب ، بطبيعته الفردانية، وتوجهاته السياسية، وأفكاره الخاصة جدا عن “ أمريكا أولا “ ، والجمهور الأمريكي الذي يتحمس له ويقف وراءه، كما أنها علمت قبل زيارتها - كما علم الكافة - ما الذي لقيه أو قدمه رئيس فرنسا في واشنطن قبل زيارتها بأيام ... وكيف كانت لغة ماكرون قبل وأثناء وبعد الزيارة وما تعرض له من إحراج في كثير من الملفات الشخصية والعامة سواء بسواء.

تعرف ميركل حساسية العلاقات بين إيران والغرب في عمومه، والتشدد الذي تبديه قيادات أمريكا الحالية ( ترامب - بولتون - بومبيو ) في هذا الجانب ، وتعرف في نفس الوقت أهمية الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران ، كأمر تؤيده أيضا الصين ورسيا الى جانب دول كبيرة في أوروبا ذاتها ، ولديها موقفها - أي ميركل - المعارض للقرار الأمريكي الخاص بالقيود التجارية الأمريكية على الصادرات الأوروبية إلى أمريكا وفي مقدمتها الصلب وألواح الألمنيوم ، وألمانيا هي أكبر دولة تصديرية في أوروبا ، وفي نفس الوقت تدرك أن أوراقها ليست ناجعة في تجميد اندفاعات ترامب في الحمائية الجديدة التي يريد فرضها.

ثم إن العلاقات المتردية بين روسيا - القريبة جدا من ألمانيا - وبين أمريكا  تزيد من تعقيد أي حوار حول العقوبات التي فرضتها والتي تريد أن تفرضها أمريكا على روسيا وتريد من أوروبا أن تتبعها بلا تعقيب رغم أن ذلك يلحق أضرارا شديدة بشركاء أوروبيين لروسيا على رأسهم ألمانيا وشركاتها الكبرى ، ومن الواضح أن ألمانيا قدمت عرضا مفصلا لما يمكن أن تخسره تلك الشركات جراء التوسع في العقوبات على روسيا إضافة إلى أن ألمانيا /‏‏‏ ميركل وأن اتخذت مواقف غير مريحة لبوتين طوال السنوات الماضية ، لا يريدون للقطيعة مع روسيا أن تذهب بعيدا ليس لأسباب تجارية فحسب ولكن أيضا استراتيجية وجيواستراتيجية .

كانت سيدة ألمانيا تدرك أيضا أن ترامب سيضغط بشدة عليها من أجل زيادة المخصص الألماني لتمويل حلف الناتو كنسبة من الناتج المحلي الألماني ويبدو أنها ارتأت انه لا مجال للرفض الكلي الذي أبدته ألمانيا من قبل ومع رجل عنيد مثل ترامب وحيث لا مفر من بعض التنازل.

برزت في الحوارات أيضا قضايا الهجرة ومخاطر ما يدور في سوريا ولبنان وليبيا وتصرفات تركيا- عضو حلف الناتو وحليف أمريكا كما يفترض - المرهقة للأوربيين على كل الأصعدة .

في كل تلك المشاكل والتحديات والأزمات كان يتعين على الزائرة أن تقدم مرونات بما يرضي ترامب على هذا النحو أو ذاك، وظني انه حدث ذلك بالفعل بغض النظر عن وزن أو مقدار التنازل الألماني أو طبيعته ، بيد أن ما استعصى على ترامب أن يشد ميركل إليه هو تقديم أي تنازل فيما يخص إيقاف تعاون ألمانيا مع روسيا في استكمال خط غاز السيل الشمالي 2 الذي سيعبر البلطيق إلى ألمانيا وغيرها حاملا الغاز الروسي .

من أجل ذلك بخاصة كتبت هذا المقال ولمعاودة التأكيد على أن واجبنا ألا يغيب عنا طوال الوقت عنصر أمن الطاقة والأبعاد التي يشملها وآفاقها المستقبلية  ... وان ندرك إلى أي حد يشكل امن الطاقة كسلامة نقل وإنتاج واستدامة توريد واستقرار أسواق أهمية قصوى للدول الصناعية وبدرجة أو أخرى لغيرها. كانت ميركل على استعداد لإبداء مرونة وتفهم وان تتغاضى أو تكف لسانها أو تومئ بلا نطق أو تشير ولا تصرح أو. أو . أو تبدو غير مكترثة أو تقدم وتؤخر إلا فيما يخص امن الطاقة.

وحين نقرأ أن خط أنابيب “السيل الشمالي-2” المقرر لتوريد الغاز الروسي إلى ألمانيا، غاب عن تصريحات ترامب وميركل الصحفية، يجب أن نعرف أن معنى ذلك بوضوح أن ميركل ترفض أي تنازل حوله وان ترامب لم يفلح في تحريك موقفها وبالتالي فانه من الأكرم للطرفين إلا يأتيا عليه عند إصدار البيانات الصحفية .

والمعروف أنه قبل أيام من الزيارة رفضت برلين التحذيرات الأمريكية من أن “السيل الشمالي” سيعزز تبعية ألمانيا الاقتصادية لروسيا “أو أنه سيشكل تهديدا لأمن الطاقة لأوروبا “، مشيرة إلى أن ما تعرضه واشنطن من غاز مسال الأمريكي كبديل في المستقبل، لا يمكن له أن يحل محل الغاز الروسي. العجيب أن الأمريكيين يعرفون جيدا أن قبول أوروبا شراء الغاز الأمريكي بتكلفته العالية بسبب طول مسافة النقل يعد من قبيل الدعم ألماني الذي تدفعه أوروبا إلى أمريكا في الوقت الذي يرفض فيه ترامب أن يكون هناك أي شيء مجاني فيما تقدمه أمريكا حتى لأوثق حلفائها.

وفي الوقت الراهن تبذل روسيا وعلى أعلى مستوى سياسي كل جهدها لإتمام الحصول على كل التراخيص اللازمة لاستكمال التحضيرات لبدء أعمال “السيل الشمالي 2”، قبل أن ينتهي عام 2018 ولكنها تلقى مقاومة بأشكال متنوعة وحين يصل الأمر الى بولندا فان رفضها للخط جذري وهي تتماهى مع الموقف الأمريكي في هذا السبيل وحجتها هي أن الخط سيشكل تهديدا كبيرا للأوضاع الجيوستراتيجية في أوروبا حسب قول مسؤولين هناك . وبطبيعة الحال فان أوكرانيا وبعض مناصريها يخشون ان يؤثر السيل الشمالي على الخط الذي يتم من خلاله تمرير الغاز الروسي الى أوروبا عبر أوكرانيا ويفقد الأخيرة عوائد مهمة تجنيها من هذا الخط على ما بينها وبين روسيا من عداءات ، وقد رد الروس على ذلك بأن خط أوكرانيا سيستمر في العمل بعد نهاية التعاقد الحالي في 2019 ما دامت الأسس الاقتصادية سليمة وهي إجابة بها قدر من المراوغة .

وترى روسيا أن المشكلة الأساسية هي تسييس الأمريكان لمشروع السيل رغم انه مشروع تجاري بقولهم . ويرد الأمريكان وبعض الأوروبيين بأن الخطر من الغاز الروسي هو تسييس الإمدادات الذي تقوم به روسيا بما يجعل من الصعب ضمان الإمداد والالتزام بالعقود . فأي الطرفين نصدق؟ . من الواضح تماما أن ميركل مالت إلى تصديق الروس أو بمعنى أدق ترى أن وجود السيل الشمالي يزيد من قدرة بلدها على المناورة وضمان افضل للإمدادات في كل الظروف ومهما تغيرت التحالفات أو العلاقات الدولية .

يبقى أن “السيل الشمالي -2” يتضمن مد أنبوبين بسعة نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من روسيا إلى ألمانيا مباشرة عبر قاع بحر البلطيق وسيقام بموازاة خط الأنابيب “السيل الشمالي”. وشأن كل الأعمال التي يمكن أن يقال إنها مسيسة في عالمنا الراهن فإن الحصص في المشروع موزعة بشكل “ سياسي “ مثلما أن روس اتوم - عملاق الطاقة الروسي -  وزعت حصصا في ملكيتها لشركات بريطانية وقطرية ، ومثل “ اينى”  في مشروع مثل “ ظهر “ في عمق المتوسط وهكذا . انه شكل من أشكال التأمين لكيلا يقوم أحد اللاعبين بإعاقة سير العجلات.

وعليه تبلغ حصة شركة “غازبروم” في المشروع 50%، ويملك كونسورتيوم مكوّن من 5 شركات طاقة أوروبية الـ 50% الأخرى في المشروع، بواقع 10% لكل منها. وتبلغ كلفة المشروع نحو 8 مليارات يورو .

ويعتمد الاتحاد الأوروبي، في ثلث وارداته على الغاز الروسي، ويمر نصف هذه الكمية حاليا عبر الأراضي الأوكرانية .

هل انتهى الدرس أم بالكاد يبدأ مرة أخرى؟.