الملف السياسي

كيف ستنعكس مفاجآت كيم الثالث على مستقبل الأزمة ؟!

30 أبريل 2018
30 أبريل 2018

د. بشير عبد الفتاح -

,, تنطوي السوابق التاريخية الكورية الشمالية في إدارة ملفها النووي مع الغرب على تجارب وخبرات لا تبعث على التفاؤل بقرار كيم الثالث الأخير فيما يخص وقف التجارب النووية والصاروخية تمهيدا لمباحثاته مع الرئيس الأمريكي ,,

لقد باغت الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون العالمين، حينما أعلن خلال لقاء للجنة المركزية لحزب العمال الحاكم قبل أيام، أنه سيغلق موقعا مهما للاختبارات النووية في شمال البلاد كما سيجمد التجارب النووية واختبارات إطلاق الصواريخ البالستية العابرة للقارات بدءًا من يوم 21 أبريل الماضي، الأمر الذي استقبله نظيراه الأمريكي والكوري الجنوبي بالترحيب، فيما اعتبره العالم بشارة لانفراجة وشيكة في الأزمة الكورية.

وجاء إعلان كيم الثالث في سياق حزمة من التطورات الإيجابية التي تبعث على أمل بانفراجه في الأزمة الكورية، أولها قيام السياسي الكوري الجنوبي تشونج وي يونج بزيارة كوريا الشمالية مطلع شهر مارس الماضي على رأس وفد سياسي كوري جنوبي، وإشارته عقب مباحثاته هناك إلى تأكيد بيونج يانج على عدم حاجتها للإبقاء على برنامجها النووي ما دامت لا تتعرض لتهديد عسكري وطالما ظل نظامها في أمان، لافتة إلى استعداها للحديث مع الولايات المتحدة بشأن نزع السلاح النووي وتطبيع العلاقات مع واشنطن وحلفائها في المنطقة.

وتجلى ثانيها في لقاء القمة للرئيس الكوري الشمالي مع نظيره الكوري الجنوبي في السابع والعشرين من الشهر الحالي، والذي يعد الأول من نوعه منذ عشر سنوات، فيما يأتي عقب تخصيص خط هاتفي ساخن بين الرئيس كيم ونظيره الكوري الجنوبي مون جي بغية تذويب الخلافات وتقريب وجهات النظر وتبديد التحديات التي قد تعرقل انعقاد القمة أو تعوق التقارب الحاصل بين الكوريتين.

أما ثالثها، فيتمثل في اللقاء التاريخي المنتظر وغير المسبوق بين الرئيس كيم الثالث ونظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال الأسابيع المقبلة، ورابعها زيارة سرّية قام بها لبيونج يانج مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إي) وزير الخارجية الأمريكية الحالي مايك بومبيو أحد صقور الإدارة في ما يخص الموضوع الإيراني.

أما خامسها فتمثل في وقف الجيش الكوري الجنوبي مكبّرات الصوت الضخمة التي كانت تُذيع رسائل للجنود الكوريين الشماليين المنتشرين على الحدود الفاصلة بين البلدين، تحرضهم على الانشقاق على نظام كيم الثالث، في خطوة اعتبرتها وزارة الخارجية الكورية الجنوبية بادرة مصالحة لتخفيف التوترات العسكرية وخلق مناخ سلام، قبل أيام قلائل من القمة التي عقدت بالفعل قبل أيام بين رئيسي الكوريتين.

بيد أن القراءة المتأنية والتحليل المتعمق لإعلان الرئيس كيم جونج أون وقف التجارب النووية والصاروخية، تستوجب التريث قبل الإفراط في التفاؤل بشأن هكذا إعلان، وذلك استنادا إلى اعتبارات ومعطيات شتى، أهمها: أن الرجل لم يتحدث صراحة عن تفكيك أو نزع أسلحة بلاده النووية والصاروخية البالستية، وإنما يعرض تجميدا طوعيا للتجارب التي يتم إجراؤها بشكل دوري بقصد تطوير تلك الأسلحة واختبار كفاءتها، وإغلاق الموقع الذي تتم فيها تلك التجارب، كما لم يبرر كيم الثالث قراره المفاجئ والمثير في آن بتجاوبه مع الضغوط الأمريكية وامتثاله لمقررات الشرعية الدولية، أو حتى قناعته بأهمية نزع الأسلحة الاستراتيجية، وإنما أرجعه، حسب بيان رسمي نقلته عنه وكالة الأنباء الرسمية، إلى أن بلاده لم تعد بحاجة إلى إجراء تجارب نووية أو اختبارات لصواريخ بالستية عابرة للقارات لأنها استكملت بالفعل تسليح نفسها بالأسلحة النووية، والصواريخ البالستية الاستراتيجية متعددة المهام والمديات.

يبقى هذا التجميد للتجارب النووية والصاروخية قرارا لحظيا مرتبطا بأجواء الانفتاح والتقارب التي تخيم على الأزمة الكورية منذ مشاركة الشطر الشمالي في دورة الألعاب الشتوية التي استضافتها سول خلال شهر فبراير الماضي، ومن ثم يسهل التراجع عنه في أي وقت خصوصا إذا ما ولى الدفء العارض أو التقارب اللحظي بين بيونج يانج وكل من سول وواشنطن، ولم تسفر القمم بين كيم الثالث ونظيريه الكوري الجنوبي وبينه وبين الرئيس الأمريكي ترامب عن أية نتائج إيجابية ملموسة.

إن وقف التجارب النووية والصاروخية، وإن اعتبر بمثابة بادرة إيجابية يمكن أن تأتى في سياق إجراءات بناء الثقة، كما يمكن الانطلاق منها باتجاه مباحثات نزع الأسلحة الاستراتيجية الكورية الشمالية، إلا أنه لا يعنى بالضرورة تقويض تلك الأسلحة أو أنها ستفضي إلى بلوغ الغاية المستعصية، ذلك أن كل من الهند وباكستان كانت قد أجرت ست تجارب نووية، بحلول عام 1998، والتحقتا على إثرها بالنادي النووي دون الحاجة إلى إجراء مزيد من التجارب النووية لاحقا.

ومن ثم سيكون بمقدور كوريا الشمالية، وبعد مرور اثني عشر عاما على إجراء أولى تجاربها النووية التي تؤشر لامتلاكها سلاحا نوويا، التوقف عن إجراء مزيد من التجارب النووية والصاروخية بعد تجاربها النووية الست التي أجرتها طيلة الفترة من العام 2006 وحتى العام 2017، والتي تؤكد وفقا لما أعلنت وكالة الأنباء الرسمية الكورية الشمالية، قدرة بيونج يانج على إنتاج حصيلة عظيمة وقوية من الأسلحة النووية، فيما أفصحت التجربة الخامسة عام 2016 عن قنبلة نووية معيارية ومضغوطة يمكن تركيبها على الأنواع المختلفة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى والصواريخ البالستية عابرة القارات، كما يعادل الإنتاج المتوقع من هذه القنابل ضعفين أو ثلاثة أضعاف القوة التفجيرية التي استخدمتها الولايات المتحدة ضد مدينة ناجازاكي اليابانية، في نهاية الحرب العالمية الثانية.

علاوة على ما سبق، تنطوي السوابق التاريخية الكورية الشمالية في هذا الصدد المتعلق بإدارة ملفها النووي مع الغرب على تجارب وخبرات لا تبعث على التفاؤل بقرار كيم الثالث فيما يخص وقف التجارب النووية والصاروخية، فلطالما أفضت عدم صدقية واشنطن، التي لا تخشى فقط من قدرة أسلحة بيونج يانج الاستراتيجية على تهديد جيرانها وبلوغ الأراضي الأمريكية، وإنما أيضا من إمكانية إقدام الكوريين الشماليين على نقل التكنولوجيا الخاصة بتلك الأسلحة إلى دول أخرى أو منظمات إرهابية، في حوافزها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي سبق وأن عرضتها على بيونج يانج لوقف أنشطتها النووية والصاروخية، إلى إفشال كل مساعي التسوية السلمية للأزمة الكورية منذ العام 1994.

وتأسيسا على ما ذكر آنفا، يتعين على مختلف الأطراف المعنية بالأزمة الكورية، إذا ما أرادت معالجة تحقيق اختراق إيجابي وبناء في الأزمة الكورية، أن تتصدى لأزمة الثقة التي تلقى بظلالها المقيتة عليها منذ ما يزيد على ستة عقود خلت من الزمن، وعلى الرئيس الكوري الشمالي إلا يحنث بتعهداته التي يمكن أن تمهد لمفاوضات تقود إلى نزع أسلحته النووية والصاروخية، فيما يلتزم نظيره الأمريكي في المقابل بتنفيذ ما سيعرضه من حوافز سياسية واقتصادية وأمنية، حتى لا تتكرر المأساة وتتراجع بيونج يانج عن وعودها وتعود مجددا لتطوير قدراتها التسليحية غير التقليدية، ولكن هذه المرة بوتيرة أسرع وأشد وطأة.