صحافة

الأيام : شاهدتُ الفقرَ يمشي في غزة!

27 أبريل 2018
27 أبريل 2018

في زاوية آراء كتب توفيق أبو شومر مقالا بعنوان: شاهدتُ الفقرَ يمشي في غزة!، جاء فيه:

رأيتُ الفقرَ يمشي في طُرقها وأزقتها، يستعرضُ بجحافل جيشه سطوتَه على المتجولين والباعة وعلى الشوارع والأسواق، يفرضُ على الباعةِ رفع الصوت لإغراء بعض مَن يملكون في جيوبهم ثمنَ البضاعة، طرَدَ الفقرُ كثيرين مِن مدمني التسوق، الذين خَشَوا عواقبَ شهواتهم، وطلباتِ أبنائهم، بعضُهم خرقَ الحصار، يُغازلون البضائعَ عن بعد، يشتهونها في قرارة أنفسهم، ولكنهم يُشيحون بوجوههم عنها، وفق مقولة الزاهدين الحكماء، من سلالة الفلاسفة الكلبيين، الرُواقيين الذين كانوا يفتخرون بحكمتهم الخالدة، وهم يجولون في الأسواق يقولون بفخرٍ واعتزاز: «ما أكثر الأشياء التي لا نحتاجها!!»

اصطادني صاحبُ دكانٍ، في منتصف النهار، وأقسم أنني زبونه الأول لهذا اليوم، جلستُ على مقعدٍ غير وثيرٍ، في دكانٍه المختصِّ بتنظيف الدجاج، في أكثرِ أسواقِ غزة ازدحاما، قبل أن يُداهمه الفقرُ بجحافله، ويطرد منه المشترين.

ألجأ الفقرُ الغزيين إلى الحدائق العامة، هروباً من عيونِ أبنائهم، يُنشدون فيها أشهى الأشعار، هجاء الفقر وجحافله، يتبادلون قصص الذين سجنهم الفقرُ، في سجونِ غزة الممتلئة بالغارمين، يحكون قصص حالات الطلاق والانفصال، بسبب أسافين جحافل الفقر.

اتَّخذ الفقرُ من السوق الرئيس مقراً لجحافله الجرَّارة، باعتبارِه السوقَ المركزي الرئيس، طردَ منه زبائنَه، وأبعدَ زائريه. لم يَعُد صرَّافُ النقود، الذي يجلسُ على كرسيٍ صغير وسط السوق يمسكُ برُزَمِ النقودِ بين يديه كعادته في يوم العُطلة، أخفى بقايا نقوده في جيبه.

بينما كنتُ أراقبُ الشارعَ الفارغَ، ظهرَ رجلٌ في الخمسين مِن عمرِه، يلبس لباسا جيدا مهندما، يحمل في إحدى يديه كيسا من النايلون الأسود.

أحسستُ بأن لي رفيقا في السوق، لم يُطبق الفقرُ على خِناقه بعدُ، ابتسمتُ وأنا أتابعه، تجاوزني، دون أن ينظر إلى وجهي، أو يطرح السلام، أبعدَ قدميَّ عن الطريق الضيق بجسمه النحيل، تسلَّلَ بخِفَّةٍ إلى حيثُ يقوم صاحب المحل بتنظيف دجاجتي!. كنتُ أتابعُه حينَ فتحَ كيسَ النايلون الأسود لصاحب المحل، همسَ له بكلمات، لم أسمعْها، قال له صاحبُ المحل بصوتٍ مسموع، وهو يبتسم بمرارة:

انظرْ إلى الأقفاص، فهي مملوءة، أشار بيده إليَّ وقال: إنه الزبون الوحيد طوال اليوم، ها هو اليوم يوشكُ أن ينتهيَ! طأطأ الرجلُ رأسَه بسرعة، خرج يستحثُّ الخُطى بعيدا، سألتُ صاحبَ المحل: ماذا كان يُريد منك؟

قال بكلماتٍ يملؤها الأسى: أعرفُهُ فهو زبونٌ دائمٌ لي، إنه موظَّفٌ لم يتلقَ راتِبَه هذا الشهر، جاء هذا اليوم، لا ليشتريَ كعادتِه، بل ليبيعني زوجا من فراخ الحمام، اعتاد أن يُربيه فوق سطح بيته، ليأكلَه هو وأفراد أسرته، يريد بيعه، واستبداله بالنقود ليُنفقَ على أسرتِه المكونة من سبعة.

أفسدَتْ صورةُ الرجل الذي يحمل في يده كيسا أسودَ شهيَّتي للطعام، بعد أن استوطنَ الفقرُ في لحم دجاجتي!

أما قصةُ الشاب اليافع، الذي لم يبلغ الثلاثين، تابعْتُه عن بُعد، وهو يُخفِي نصفه الأعلى في حاويةِ القمامة، يقف على أطراف أصابعه، عثرَ هذا الشابُ على شيء في حاوية القمامة، أخرج نصفَه المُختفي من الحاوية، رأيته يبتسم، وكأنه قد وجد شيئا ثمينا.

ثم، شرعَ يبحث عن حجرين، يكسر بهما بذرةَ لوزٍ، ظفرَ بها من أحد الأكياس، وضعها في فمه وابتسم!

أما القصة الثالثة، فهي قصةُ فتاةٍ أجبرتها سلطاتُ الفقر أن تلبس النقابَ والحجاب الكامل الأسود، لأنها لا تملك شراءَ ملابس جديدة، تستطيع بها أن تُجاري ألبسة الفتيات الجامعيات من مُجايلاتها، ادَّعتْ أمام زميلاتها، اللاتي استغربنَ نِقابها المفاجئ، بأنها اقتنعتْ بتغيير أسلوبها في الحياة، وفق طلب أخيها الذي ينتمي إلى تيارٍ سلفي.

غزة هي المدينة الوحيدة في العالم، التي جرَّبت كل أصناف المآسي، وهي الوحيدة أيضا التي خرجتْ من كلِّ مأساة قويةً صُلبة، وهي فريدة بين مدن العالم، لأنها رفعتْ شعارا يقول: «النارُ تحرقُ الخشبَ، ولكنها تُقوِّي الحديد، تُحوِّلُهُ من حديدٍ مُطاوعٍ، إلى حديدٍ صُلبٍ»!