أفكار وآراء

الموازنات العامة والعدالة الاجتماعية

25 أبريل 2018
25 أبريل 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

هذا هو موسم مناقشة الموازنات العامة في الدول التي تبدأ سنتها المالية اول يوليو من كل عام . وفي مواسم الموازنة هذه لا صوت يعلو في النقاش العام فوق صوت البنود الخاصة بتحقيق الحماية الاجتماعية او برامج العدالة الاجتماعية في الموازنة. والمناقشات ألوان منها ما هو عملي لا يذهب الى ابعد من المطالبة ببعض الزيادات هنا أو هناك أو في هذا البند او ذاك من بنود الإنفاق العام التي تهم أوسع جماهير ممكنة ، ومنها ما هو تثقيفي لا يهدف الى اكثر من تعريف المواطنين بكيفية مناقشة الموازنة مع السلطات العامة ومنها ما هو فكري أكاديمي يبحث ويقارن بين بنود الإيرادات والإنفاق في الدول المختلفة ويتفحص السياسات المالية القائمة خلف كل رقم، وأخيرا هناك الحالمون أي الذين يريدون وضع مؤشرات جديدة تماما لقياس تحيزات الموازنة أو قياس مستوى العدالة الاجتماعية فيها رغم ان العلماء او الساسة او الخبراء لم يتفقوا بعد على معناها رغم عشرات السنوات من البحث والحوار والجدل . من بين هؤلاء احد اشهر أساتذة الإحصاء العرب وهو الدكتور ماجد عثمان والذي استمعت اليه منذ ايام وهو يعرض في المركز المصري للدراسات الاقتصادية اول محاولة لقياس العدالة الاجتماعية في مصر وهي تصلح بعد تكييفها للقياس في أي بلد بطبيعة الحال لأنها هي بذاتها قامت ايضا على الإفادة من مؤشرات الآخرين. لم يكن هناك مناص من ان يعد المؤشر الذي وضعه للقياس مبدئيا فهو يحتاج لمزيد من التطوير حتى يعبر عن الواقع

بدقة اكثر. وفي ظني انه بعد التطوير سيظل ايضا في حاجة الى التطوير وهذا هو الدرس الاول، ففي العلوم الاجتماعية ولا اقول في كل العلوم يبقى الباب مفتوحا دائما لما هو اوسع تعبيرا او اكثر شمولا او عمقا وتحديدا وهكذا. ومع العدالة الاجتماعية بصفة خاصة ولأنها وكما قال المتحدث نفسه تشمل فضلا عن طبيعتها المعقدة، عوامل يستحيل قياسها كميا بدقة مثل الرضا والثقة، ولذلك فانني ارى ان الاسهل نسبيا خاصة ببلادنا هو تحديد المظالم الاجتماعية القائمة مثل الحرمان من التعليم الجيد او الرعاية الصحية او الدخل الذي يلبي الحد الأدنى من المتطلبات او خدمات المياه النقية والصرف الصحي وهكذا كمدخل انجع لعمل نقلة في السياسات وحياة المواطنين الى ان يتفق العلماء والساسة معا على معايير لقياس العدالة ناهيك عن تطبيبها.

ومع ما تقدم تبقى هناك دروس مستفادة وقابلة للتعميم من اي نقاش جاد حول العدالة اهميتها واولها بتقديري التأكيد على انه لا يجب اختزال العدالة الاجتماعية في مفهوم العدالة الاقتصادية فقط، وأهمية القياس الدوري للمؤشرات التي تقيس الفجوات الاجتماعية بين الاجيال او بين الفئات المختلفة او بين مواقع جغرافية وبين اخرى  او بين الرجال والنساء او بين الاصحاء وذوي القدرات الخاصة، فالقياس الدوري يصطدم كثيرا بعدم توافر البيانات، وبالتالي يجب التجهيز له حتى تستند الجهات المسؤولة بثقة عند صياغة السياسات العامة الى مثل تلك القياسات . مما قيل ايضا إن العدالة الاجتماعية في تعريفها الشامل لا تقتصر على الإجراءات المسكنة مثل توزيع سلع بأسعار مخفضة على الفقراء، ولكنها تتحقق عندما تتوافر فرص متكافئة للحراك الاجتماعي يستطيع بمقتضاها أي فرد من أفراد المجتمع الارتقاء إلى مرتبة اقتصادية أو اجتماعية أعلى بناء على معايير الجدارة، ويتلاشى التمييز ضد أي من أفراد المجتمع بسبب النوع الاجتماعي أوالدين أو العرق أو الطبقة أو العمر أو المهنة أو لون البشرة، وبالطبع لا تصل العدالة الاجتماعية إلى أقصاها الا عندما يرتبط الحراك الاجتماعي بدرجة كاملة بالجدارة والاستحقاق.

نشير ايضا الى ان البعض يبالغ فى التفكير بأن تحقيق العدالة الاجتماعية يحتاج إلى موارد ضخمة لتحقيقها، في الوقت الذي قد لايكون المطلوب هو فقط تعديل الاولويات او زيادة كفاءة الانفاق.

وكما اقترح الدكتور ماجد فإنه لقياس العدالة الاجتماعية يلزم وجود مجموعة مؤشرات رئيسية تنقسم إلى قسمين أولهما رأس مال بشري، ورأس مال اجتماعي، ويتضمن القسم الأول الوصول إلى التعليم، والصحة، والثقافة، والتشغيل، والمعلومات، حيث يتضمن القسم الثاني تحقيق العدالة، والمشاركة، والرضا، والثقة، والأمان. لكن الباب مفتوح لما هو اكثر.

ان العدالة الاجتماعية ليست فقط موقفا أخلاقيا نتبناه عندما نستطيع ولكن هو ضرورة اجتماعية وتنموية وقد قام المركز المصري للدراسات الاقتصادية نفسه بعمل إضافات على مؤشر الدكتور ماجد ، تتعلق بإضافة 3 أبعاد قياس جديدة في جانب رأس المال الاجتماعي والثقافي هي: الدين العام الإجمالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالى والبحوث والتطوير والبيئة.

وأعرب الجميع عن القلق من تأثير تزايد حجم الدين على العدالة الاجتماعية، خاصة وأن خدمة هذا الدين تحمل عبئا على الاجيال المقبلة لم يكن لها يد فيه.

وأشارت الدكتورة هانياشلقامي الأستاذ المشارك بمركز الأبحاث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية إلى مصطلح جديد على الاذهان هو ما يسمى بالـ”الدين العام البيئي”، والذي يعني أننا نستلف من المستقبل لاستهلاك الموارد المتاحة حاليا.

وأكد الدكتور راجي أسعد أستاذ السياسات العامة بجامعة مينيسوتا الأمريكية، أن من الهام جدا عمل مقارنات دولية لنعرف موقعنا من العالم في هذا الاتجاه لأنه دائما ما نأتي في ترتيب متراجع بالمؤشرات الدولية.

وقال أسعد إن الناحية الاقتصادية غير ممثلة في المؤشر بالقدر الكافي، مشددا على أهمية عنصر الدخل ومستوى المعيشة، والوصول إلى الخدمات الأساسية مثل المياه والغاز الطبيعي أو الطاقة والصرف الصحي، كما أن عنصر السكن غير موجود بالمؤشر ويحتاج لإضافته.

وأوضح أستاذ السياسات العامة أن المؤشرات الخاصة بالآراء الشخصية غير قابلة للقياس غالبا ما تظهر عكس الحقيقة، ضاربا المثل بحالة الفقراء الذين لديهم حالة أكبر من الرضا والثقة نتيجة انخفاض تطلعاتهم، بعكس ذوي الدخول الأعلى حيث تكون تطلعاتهم أكبر، وبالتالي مستوى الرضا أقل.

الطريف ان مجموعة من الحاضرين توقعت قبل بدء النقاش ان يحدث جدل حول هل العدالة هي عدالة توزيع الثروة ام عدالة توزيع الفرص وقد حدث بالفعل ولم تكن هي المرة الاولى ولن تكون فهذا السؤال جوهري في كل المناقشات التي تتناول مفاهيم واسس ومنطلقات العدالة الاجتماعية وقد أشار عالم مصري كبير من علماء السياسة هو الدكتور مصطفي كامل السيد الى انه يعرف ان هناك من يرى ان تركز الثروة ضروري لقيام رأسمالية تستطيع ان تقود الاقتصاد وان توفر الوظائف ورغم انه ينتمي الى مدرسة اخرى تلح على اهمية تقريب الفوارق عبر اتباع سياسات ضريبية مناسبة اضافة الى تكافؤ الفرص ولكنه مع كل ذلك يدعو الى استمرار الحوار العقلاني بين الجميع لصالح البشرية كلها في النهاية.

لقد شهدت الفترة منذ مطلع الثمانينات في القرن الماضي مناقشات غاية في العمق حول العدالة اطرافها اهل اليمين واليسار والوسط من العرب او الاجانب وكانت الخلافات فيها بين وجهات النظر من الحدة بمكان بيد ان نقاش الكبار كان كبيرا أيضا في سموه وكل ما نأمله الآن هو ان يستمر الحوار الرصين والمهموم حول كل القضايا الاجتماعية والاقتصادية حتى نحقق لبلداننا كل الرفاهية والاستقرار .