أفكار وآراء

فرنسا وتقييد حق «الفيتو».. الفرص والتحديات

21 أبريل 2018
21 أبريل 2018

د. عبد العاطى محمد -

منذ ما يقرب من ربع قرن والمحاولات لم تتوقف لإصلاح مجلس الأمن الدولي ، وفي القلب من ذلك، العمل على تقييد حق النقض أو «الفيتو»، بالنظر إلى أنه مسؤول إلى حد كبير عن تعثر المجلس في القيام بمهمته في حفظ السلم والأمن الدوليين على عكس ما كان مرتجى منه عند النص عليه في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945. وتعد المبادرة الفرنسية لتقييده هي أحدث المحاولات، وبرغم ما تحمله من وجاهة ودعم من بعض الدول الأوروبية، إلا أنها تواجه تحديات تكاد تجعلها أمرا بالغ الصعوبة.

جوهر هذه المبادرة الفرنسية الممتدة منذ 5 سنوات وحتى الآن، هو منع استخدام الفيتو من جانب الدول دائمة العضوية في الأزمات التي تشكل فظائع على نطاق واسع وانتهاك صريح لحقوق الإنسان. ولا تلغي المبادرة حق النقض أصلا ولا تمنع استخدامه في الحفاظ على المصالح الوطنية ولا تتطرق إلى تغيير ميثاق المنظمة الدولية، وتعتبر التخلي عن هذا الحق في حالة الفظائع الإنسانية (المجازر والاعتداء على المدنيين والتهجير القسري والإبادة الجماعية) أمرا طوعيا من جانب الدول دائمة العضوية بما يعنى أنه لا يعد تخليا عن حقها الأصيل الذي تقرر لها عند وضع الميثاق. والمنطق في هذا أن مثل هذه الحالات لا يجب أن يكون هناك خلاف حولها من كافة الدول في عالمنا المعاصر، والبت فيها باتخاذ إجراءات فورية لا يحتمل الانتظار بل يجب أن يكون القرار عاجلا وحاسما ومتفقا عليه بكل الرضا من كافة الدول.

وكانت آخر المناقشات لهذه المبادرة في أواخر العام الماضي. وجاء التصعيد الأخير في الأزمة السورية على خلفية اتهام النظام السوري من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا باستخدامه أسلحة كيماوية في دوما بالغوطة الشرقية، ليجدد الحديث عن أهمية المبادرة الفرنسية باعتبار الواقعة تمثل حجة تدعم موقف فرنسا الذي يدعو إلى تقييد حق النقض، بالنظر إلى أن مجلس الأمن وقف عاجزا مجددا عن التوصل إلى قرار يقضي بفرض عقوبات أو شن الحرب (استخدام القوة المسلحة) في سوريا مثلا من منطلق الاتهام في هذه الواقعة . وعندما سئل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس عن موقفه من عجز مجلس الأمن عن التعامل مع هذه الواقعة بسبب استخدام روسيا لحق النقض، أشار إلى المبادرة الفرنسية بأنها مطروحة كأحد الحلول لإصلاح مجلس الأمن، ولكنه لم يذكر ما إذا كانت تحظى بفرص في المستقبل القريب على الأقل.

والملفت أن حكومة الرئيس ماكرون في فرنسا كانت قد انتهت إلى قناعة ليس فقط بأنه لا حل عسكري للأزمة السورية، بل لم تعد تهتم ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة مما مثل تحولا جوهريا في موقف عديد الدول الأوروبية في الأزمة السورية صب في اتجاه القبول بالأمر الواقع الذي يشير إلى نجاح النظام السوري وفشل المعارضة سياسية كانت أم مسلحة. ولكن هذا الموقف تغير 180 درجة مع مناقشة مجلس الأمن الأزمة السورية مجددا على خلفية الاتهامات باستخدام الأسلحة الكيماوية حيث انحازت فرنسا بوضوح لموقف الولايات المتحدة الذي اتهم النظام السوري باستخدام أسلحة كيماوية في دوما، وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة عليها معاقبته بشن هجوم عسكري كبير على أهداف سورية حيوية، وهو ما حدث بالفعل (هجوم ثلاثي ضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا). ومثلما قالت واشنطن أن لديها معلومات تؤكد الاتهام، قالت باريس نفس الشيء. وفي هذا الإطار بدت فرنسا متسقة مع نفسها في التحول من موقف إلى نقيضه، لأن الأمر في هذه الحالة يتعلق بجوهر المبادرة الفرنسية، وهو البحث عن مخرج لمجلس الأمن عندما يناقش مشكلة تمثل فظائع إنسانية، وذلك بالعمل على تقييد حق النقض في هذه الحالات.

من حيث الفرص فإن المبادرة الفرنسية تعتمد على تراكم الوقائع التي تؤكد عجز مجلس الأمن في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة ، مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، عن القيام بمهامه الموكولة له بحكم الميثاق في حفظ السلم والأمن الدوليين ، بدءًا من حرب البوسنة والهرسك وصولا إلى الأزمة السورية مرورا بالأوضاع في أفغانستان والعراق والبلدان العربية الأخرى (بجانب سوريا) التي تعرضت لرياح التغيير وحملت معها الحروب الأهلية الدموية، بالإضافة إلى العجز المستمر لعقود من جانب المجلس عن وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وعن المساهمة من جانبه في التوصل إلى إحلال السلام وإقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بسبب استخدام الولايات المتحدة للفيتو لصالح إسرائيل.

ولا شك أن استخدام حق النقض من جانب كل من روسيا والولايات المتحدة في أي من هذه القضايا، كل وفقا لمصالحه ورؤيته السياسية، قد حال فعلا دون قيام المجلس بمهامه. ولذلك فإن فكرة تقييد حق النقض تحظى بقدر من التأييد الدولي من حيث المبدأ.

كما تناصر بريطانيا المبادرة الفرنسية، حيث ذكر مندوبها في الاجتماع الذي عقد العام الماضي والمشار إليه سلفا، أن بلاده لم تستخدم الفيتو منذ 25 عاما بما يعني أنها لم تعد ترى لوجوده فائدة أصلا بل أصبح عقبة على عكس ما كان مرتجى منه وقت قيام المنظمة الدولية (تحقيق التوازن عند اتخاذ القرار). وأشار المندوب إلى أن هناك مجموعة داعمة لتقييد حق النقض في الحالات التي ذكرتها المبادرة الفرنسية، وأن بلاده هي من هذه المجموعة الداعية إلى ضمان مسؤولية وشفافية مجلس الأمن، والحد من استخدام الفيتو في حالة النظر إلى اتخاذ إجراءات ردا على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وغيرها من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.

يضاف إلى ما سبق من فرص، أن المبادرة تأتى كنوع من الحلول الوسط الجزئية لإصلاح مجلس الأمن، فلا تندرج ضمن التوجه الأكبر بتوسيع العضوية، ولا تطالب بتغيير الميثاق لأنها لا تغير هذا الحق بل تبقى عليه، فقط تريد التقييد في حالات الفظائع الإنسانية، وتنظر للتقييد على أنه اختيار طوعي وليس تخليا عن هذا الحق. والمفترض أن كل ذلك يجعل بقية الدول دائمة العضوية لا تتخوف من المبادرة الفرنسية.

ولكن بالمقابل هناك تحديات تواجه هذه المبادرة، تصل إلى حد العقبات الصعبة، مما يقلل من فرص نجاحها. فمع أن هناك جهودا تبذل بالفعل في اتجاه توسيع عضوية مجلس الأمن على أساس أن التوسيع مطلب طبيعي مع ازدياد عدد أعضاء الأمم المتحدة حتى وصل إلى 193 دولة. علما أن وقت قيام المنظمة كان العدد 51 دولة، وكان عدد أعضاء المجلس 7 دول بينهم 5 دائمين، ثم أصبح عدد الأعضاء 11 دولة، إلى أن أصبح 15 دولة الآن، منهم 5 دائمين و10 غير دائمين يتم انتخابهم من الجمعية العامة لمدة سنتين لكل منهم، وهذا الرقم الأخير لا يناسب الزيادة الكبيرة في أعضاء المنظمة. وقد اقتصرت العضوية الدائمة على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بينما اليابان وألمانيا أصبحتا اليوم من أكبر الدول الصناعية، أي أن التمثيل الدائم لا يعكس حقيقة توازن القوى الجديد.

ومن ناحية أخرى فإن مطلب الفيتو نفسه كان ضروريا آنذاك حتى توافق الدول المنتصرة على قيام المنظمة، ومن دونه ما كانت قد نشأت، حيث تم النظر إليه على أنه ضمانة تمنع تغول إحدى الدول المنتصرة على الآخرين. وجاء الإصرار عليه من جانب الاتحاد السوفيتي وقتها لأنه كان يرى أن الغرب يريد منظمة يسيطر عليها ويقاوم بها الاتحاد السوفيتي. والآن وبعد أن ورثت روسيا هذه الدولة العظمى القديمة، وبعد صعودها بقوة في المجتمع الدولي لا يزال هاجسها هو أن تتحول المنظمة إلى جبهة مضادة لتحجيم نفوذها، ولذلك فإنها تؤيد زيادة عدد أعضاء المجلس ليضم دولا نامية صاعدة لتقلل من نفوذ الدول الغربية في المجلس، ولكنها ترفض أي تغيير في عدد الدول الدائمة وفي حق الفيتو أيضا بوصف ذلك مكتسبا تاريخيا وسياسيا لا يمكن التفريط فيه. وعلى الجانب الآخر تذهب الولايات المتحدة في نفس الاتجاه فيما يتعلق بعدد الدول الدائمة والفيتو. وترد الدول الرافضة لتوسيع العدد بأن التمثيل لا يكفي وحده لتبرير توسيع العدد، وإنما يجب أن يقترن بالفاعلية، أي القدرة على تحمل التبعات وتنفيذ القرارات، وهو ما لا يتوفر في غير الدائمين الحاليين الخمسة.

ومن جهة أخرى لا يوجد في الحقيقة حتى الآن اتفاق على العدد المقترح لزيادة عدد الدول الأعضاء، وإن حدث تكون الزيادة فقط في عدد الدول غير الدائمة. وفي وقت من الأوقات كان هناك اقتراح بأن يصبح عدد الدائمين 9 دول أي بإضافة 4 دول على ألا يكون لهم حق الفيتو، ويصبح عدد غير الدائمين 15 دولة. وبينما تصر دول مثل اليابان والهند وألمانيا والبرازيل على طلب العضوية الدائمة، لا يوجد أيضا اتفاق على تحديد الزيادة فيهم وحدهم، ولا على الكيفية التي تتم بها الزيادة عموما، حيث تتنافس دول صاعدة كثيرة على التمثيل. والنتيجة غياب الاتفاق على فكرة التوسيع. وأما مطلب تقييد الفيتو فالدول المطالبة باستمراره تستند إلى أنه الضمانة لتحقيق التوازن في المناقشة واتخاذ القرار في مجلس الأمن، وغيابه يرجح كفة من هو أقوى فقط.

وفي حالة المبادرة الفرنسية فإن الدول الكبرى الرافضة للتخلي عن الفيتو، ومنها الولايات المتحدة وروسيا والصين، تخشى أن تكون المبادرة خطوة لإلغائه مستقبلا ومدخلا لفرض تصورات بعينها على المجتمع الدولي. ولذلك تعتبرها الصين مثلا خطوة غير ناضجة، خاصة أنه سيستحيل الاتفاق على توصيف مشكلة ما على أنها تدخل في نطاق الفظائع لأن مصالح ورؤى الدول الكبرى متباينة سياسيا إلى حد كبير.

ما يحدث الآن في ظل الشكوك المتبادلة والخلافات الدولية وتعقد الأزمات هو أنه في حالة عدم تمكن المجلس من اتخاذ قرار بسبب الفيتو، تتجه الدول الكبرى دائمة العضوية إلى العمل المنفرد خارج الإجماع والقواعد التي قامت عليها المنظمة الدولية مستندة إلى أنها فعلت أقصى ما تفعله داخل المجلس وبات واضحا أمام المجتمع الدولي أن المشكلة موضع الخلاف تمثل ما يسمى بالفظائع، ولذلك لا حرج عليها عندما تلجأ للعمل المنفرد الذي يتزعم ائتلافا دوليا ويخوض المواجهة إلى درجة شن الحرب.

ولأن فرنسا تدرك صعوبة تمرير مبادرتها، فإنها تصطف سريعا مع التوجه إلى العمل المنفرد. وهكذا واقعيا يصبح العالم أمام شلل تام في مجلس الأمن من ناحية، وازدياد في حدة الأزمات الدولية واتساع في عدد أطرافها من ناحية أخرى.