أفكار وآراء

أمريكا لا تريدها حربا مع روسيا من أجل سوريا

14 أبريل 2018
14 أبريل 2018

د. عبدالعاطي محمد -

بحسابات المكسب والخسارة قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو رجل لا يعرف سوى لغة المال أن يسحب القوات الأمريكية من سوريا قريبا. وبعد نقاش حاد مع مستشاريه العسكريين تراجع وقال إن هذا سيحدث بعد فترة قصيرة، وأيا كان الأمر فالرسالة واضحة وهي أن الإدارة الأمريكية الحالية قررت أن تتجنب الحرب مع روسيا في سوريا، وأن تنتظر نتائج «الغموض البناء» حيث يكون وقتها لكل حادث حديث.

لأول وهلة لا يبدو تردد ترامب أو ميله لسحب القوات الأمريكية مفاجئا،استنادا إلى ما أصبح معتادا منه حيث التغير من حال إلى حال بين عشية وضحاها، واضعا العالم ومن حوله من مساعديه في ما يسمى بالغموض البناء، أي تعمد تسخين المشهد سياسيا وعسكريا لتعقيده، انتظارا لظهور متغيرات جديدة مفيدة لصالح السياسة الأمريكية. فعندما أعلن الرئيس الروسي منذ بضعة شهور نجاح مهمة قواته في سوريا وبناء عليه قرر سحب هذه القوات، قلل المسؤولون العسكريون الأمريكيون من حقيقة هذا النجاح ووجهوا اللوم للقرار الروسي ووصفوه بأنه متعجل وسابق لأوانه، وبرروا ذلك بأن تنظيم «داعش» لا يزال له بقاياه في سوريا، ومن ثم لم تنته بعد مهمة القضاء على التنظيم أو الإرهاب. ووقتها قالت الولايات المتحدة إن قواتها باقية هناك ولا تفكر في الانسحاب، وذلك حتى تستكمل مهمة القضاء تماما على «داعش». والتزم ترامب الصمت بما يعنى أنه كان موافقا على هذا التقدير للموقف. ولكنه في لقاء جديد تم مؤخرا مع عسكريين فاجأهم صراحة بأنه يريد العودة قريبا بقواته إلى البلاد، وبعد أخذ ورد عدل موقفه ليكون الانسحاب بعد فترة قصيرة وليس قريبا.

واقع الأمر وبعيدا عن الانطباع العام عن شخصية ترامب، فإن التطورات الجديدة على الأرض في المشهد السوري تفسر إلى حد كبير التحولات الاستراتيجية في الملف السوري التي دفعت الرئيس الأمريكي إلى إعلان موقف خطير كهذا دون القلق من حرج المساءلة المحتمل على الأقل من الكونجرس. فالحرب، أية حرب، اندلاعها واستمرارها مرتبط بما تريد تحقيقه من أهداف سياسية، وحجم تكلفتها الاقتصادية، وما يترتب عليها من خسائر بشرية.

كانت الحرب في سوريا قد اندلعت بهدف إسقاط نظام بشار الأسد وإنجاح المعارضة سياسية كانت أم مسلحة، وتدفقت الأموال من جانب كل الأطراف التي ساندت هذا الهدف، وساد الانطباع في البداية بأن التكلفة البشرية لن تكون عائقا لاستمرار الحرب. وفي كل ذلك تشكل تحالف دولي من 60 دولة قادته الولايات المتحدة للقيام بالمهمة الكبرى، أي إسقاط النظام وإنجاح الثورة السورية. ولكن النتائج على الأرض عاما بعد الآخر وصولا بالأزمة إلى بداية عامها الثامن، لم تمض كما كان مقدرا لها، بل على العكس انتقلت من سيء إلى أسوأ لصالح النظام. وكان دخول روسيا طرفا في الحرب قبل عامين عاملا حاسما في تغيير المعادلة لصالح النظام الذي وجد أيضا دعما قويا من إيران، وصولا إلى أن وجدت تركيا أيضا نفسها طرفا مباشرا في الحرب بعد أن كانت تنأى بنفسها عسكريا.

ومنذ البدايات الأولى للأزمة شعرت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الأوروبية بأن الحالة السورية معقدة وليست بالسهولة مقارنة بما جرى في ليبيا واليمن، ولذلك لم تتحمس للانخراط فيها، وتحديدا من الناحية العسكرية ولم تتحرك فعليا إلا عندما استشعرت خطر ظهور «داعش» عام 2014 أي بعد اندلاع الأزمة بثلاث سنوات!. ومع ذلك غلب على مواقفها كلها العمل على إيجاد حل سياسي، لا الانخراط في حرب صريحة. وأوكلت مهمة الحل السياسي للأمم المتحدة مع مساندة دبلوماسية لها، كما غلب على مواقفها الغموض فيما يتعلق بمساندة المعارضة سياسية كانت أم مسلحة. وقد جرى كل ذلك في عهد إدارة أوباما التي كانت متخوفة إلى حد كبير من أن يؤدي الانخراط الشديد في المشهد السوري إلى تكرار الأخطاء التي وقعت فيها إدارة جورج بوش الابن في العراق.

بحسابات النتائج لا المقدمات، انتهى المشهد السوري بعد 7 سنوات عرف فيها ألوانا شتى من التحركات السياسية والمعارك المسلحة، إلى أربع نتائج معاكسة تماما للغرض الذي من أجله اندلعت الحرب، هي أولا عدم الثقة في النتائج السياسية التي كانت منتظرة منها، وثانيا وجود تكلفة اقتصادية كبيرة أضرت بكل الأطراف التي انخرطت في الأزمة، وثالثا وجود تكلفة بشرية ضخمة على جانب الشعب السوري. ورابعا انخراط روسيا وتركيا وإيران في المشهد بكل جوانبه إلى حد إمكانية وقوع المواجهة المسلحة بين أي منهم أو مجتمعين، وبين الولايات المتحدة.

لا يعجز المراقب البسيط عن إدراك أن النتائج السياسية لم تتحقق، كما أنه يدرك جيدا حجم الخسائر البشرية التي لحقت بالشعب السوري. ومع أن الأرقام تتباين حسب الجهة التي تصدرها، إلا أن التقديرات الأقرب إلى الصواب تشير إلى ما بين 350 ألفا و500 ألف شخص لقوا مصرعهم في الحرب، وتشرد ما يقرب من نصف الشعب السوري، ما بين نزوح داخلي وخارجي. وتتباين أيضا التكلفة الاقتصادية التي تقدرها الأطراف المنخرطة في الأزمة، وإن كانت الأرقام تشير إلى الكلفة المالية فقط، مع ملاحظة أن الكلفة الاقتصادية أوسع نطاقا من ذلك بكثير. ووفقا لما جاء على لسان ترامب وهو يحاول إقناع مستمعيه بضرورة الخروج سريعا من سوريا، فقد أنفقت الولايات المتحدة 70مليار دولار في سوريا (قال أيضا إن بلاده أنفقت نحو 7 تريليونات دولار أخرى في الشرق الأوسط على مدى السنوات الماضية). وأما روسيا فوفقا لما جاء على لسان بوتين نفسه وقت خروج قواته عام 2016، كان إنفاقها العسكري يوميا 2.87 مليون دولار لفترة 167 يوما أي إجمالا حتى وقت الانسحاب 550 مليون دولار، ومع أنه يبدو رقما صغيرا قياسا بما أنفقته الولايات المتحدة، إلا أنه مهم في الجزء الخاص بالتدريبات والمناورات الذي كان مخصصا في الموازنة الروسية عام 2015. وإذا أضيف لكل ذلك حجم الأموال التي تكبدتها الأطراف الأخرى - وهي غير معلنة بالطبع- فإن الكلفة المالية لهذه الحرب باهظة بكل تأكيد. والمعنى هنا أنه كلما تفاقمت كلفة أية حرب فإن احتمال استمرارها يصبح محدودا، لأن أضرارها تصبح أكبر من منافعها. لم نسمع أن ترامب كان قلقا يوما ما من المأساة الإنسانية التي ترتبت على هذه الحرب، ولكنه كان معنيا حقا بالكلفة المالية إلى حد كبير. وليس سرا أنه طلب صراحة من الأطراف المعنية بالأزمة منذ اليوم الأول لحكمه أن يتحملوا الجزء الأكبر من النفقات، لو أرادوا للولايات المتحدة أن تستمر في سوريا.

مع أهمية كل هذه الاعتبارات في حسابات ترامب والتي جعلته يقتنع بضرورة سحب القوات الأمريكية من سوريا, وأخذا في الاعتبار أيضا تأكيده على أن بلاده ذهبت إلى هناك أساسا للقضاء على «داعش» وهو ما تحقق حيث لم يتبق إلا القليل جدا من التنظيم، إلا أن قلقه من الدخول بقواته في معارك مسلحة مع روسيا من أجل إسقاط نظام الأسد كان هو العامل الأكثر حسما في اقتناعه بعدم جدوى القوات هناك. هو يعلم جيدا أن هناك دورا إيرانيا في المشهد السوري، وأن هذا الدور داعم بقوة للرئيس الأسد ويقاتل إلى جانبه، ولكنه لا يريد لقواته أن تصطدم عسكريا بإيران على الأرض السورية حتى لا يتكرر مشهد الحرب الفيتنامية، ولأن مواجهة كهذه يمكن أن تؤجل المعركة الأهم بالنسبة له وهي إلغاء أو تعديل الاتفاق النووي الذي كانت إدارة أوباما قد وقعته مع طهران. ومع أنه يدعم القوات الديمقراطية الكردية في شمال سوريا بما أغضب أنقره، إلا أنه لا يريد أيضا الصدام معها عسكريا لأنها إحدى حلفاء الولايات المتحدة وتستضيف حلف الناتو. ما يخشاه ترامب حقا هو الصدام إلى حد الحرب مع روسيا بسبب الخلاف في الملف السوري، وذلك لأن الأخيرة تمكنت من وضع أقدامها العسكرية هناك وامتد نفوذها إلى البحر الأبيض المتوسط ولن تقبل بسهولة التفريط في هذه المكاسب. وشاءت التطورات أن تجتمع كل من روسيا وتركيا وإيران في قمة ثلاثية استضافتها أنقرة مؤخرا حملت رسالة واضحة بأن الثلاثة متحالفون في تطورات الملف السوري بما في ذلك بالنسبة لمجريات الأوضاع العسكرية، وبمفهوم المخالفة هم بذلك ضد التحركات الأمريكية لو فكرت واشنطن في تصعيد الخلافات إلى حد الحرب. هكذا بنى ترامب تقديره للموقف الراهن بأن يعجل من سحب قواته تجنبا للحرب مع الدب الروسي على أن يظل الملف السوري ساخنا انتظارا لجديد الأحداث.