الملف السياسي

تحرك تكتيكي مؤثر ..ولكنه غير كاف !!

09 أبريل 2018
09 أبريل 2018

د. عبد الحميد الموافي -

بعد أحداث غزة ، خاصة إذا استمرت سلمية حتى منتصف الشهر القادم ، فإن فرص إعلان صفقة القرن تتضاءل بالفعل ، كما أنه لن يكون هناك طرف فلسطيني ولا عربي يمكنه التعامل معها لاعتبارات كثيرة . وبذلك يكون قد تم قلب الطاولة بالفعل، وهو ما يجب العمل على الاستفادة منه فلسطينيا وعربيا أيضا خاصة وان المسيرات وحدها لن تكفي وينبغي تعزيزها بوسائل سلمية أخرى ، كما انه لا وقت للمناكفات والمماحكات والاتهامات المتبادلة بين فتح وحماس والأفضل دوما هو التعاون بينهما .

بالرغم من صدمة إعلان الإدارة الأمريكية اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ، ثم الإعلان عن افتتاح مقر مؤقت للسفارة الأمريكية في القدس بالتزامن مع احتفالات إسرائيل بمرور سبعين عاما على إنشائها ، أي في منتصف مايو القادم، إلا أن ذلك لم يكف لإطلاق انتفاضة فلسطينية ردا ورفضا لهذه الخطوات غير المسبوقة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية . ويبدو ان ردود الفعل الفلسطينية والعربية ، برغم نغمة الشجب والإدانة العالية إعلاميا، والمنخفضة الى حد التلاشي تقريبا على المستوى العملي والإجرائي، قد شجع إدارة ترامب على الدفع بما اسمته صفقة القرن، وذلك من خلال التبشير به ، والإعلان عن انه سيتم طرحها قريبا ، من اجل فرض حل أمريكي على الفلسطينيين والعرب ، بفرض ان الموقف الأمريكي الآن يتماهى تماما مع الموقف الإسرائيلي ، بل والمطامع الإسرائيلية .

وفي الوقت الذي تواصلت فيه ، خلال الفترة الماضية ، المناكفات والخلافات والمماحكات بين فتح وحماس، لتعويق إتمام المصالحة الفلسطينية ، وظهور درجة عميقة من عدم الثقة المتبادلة بين اكبر فصيلين فلسطينيين، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج سلبية بالنسبة للشعب والقضية الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس الفلسطيني من ان يصل الى نهاية الشوط ، إدراكا منه انه لا أمل في موقف أمريكي اقل انحيازا الى إسرائيل، وانه لا أمل أيضا في إمكان التوصل الى تسوية تصون الحقوق الفلسطينية المشروعة، ومن منطلق اليأس من إمكانية تحقق ذلك، اعلن الرئيس عباس موقفه المعارض للمواقف الأمريكية بوجه عام والرافض بشدة لما أسماه « صفعة القرن « بوجه خاص ، بما في ذلك وقف الاتصالات مع الإدارة الأمريكية ، ومناشدة الأمم المتحدة من خلال خطابه أمام مجلس الأمن الدولي البحث عن صيغة أخرى لا تتيح لواشنطن التحكم في عملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، واقترح صيغة مؤتمر دولي للسلام وإشراف متعدد الأطراف حتى لا تتحكم واشنطن في خطوات التسوية ، وبلغ الأمر حده ألأفضي في سب الرئيس الفلسطيني العلني للسفير الأمريكي في إسرائيل بسبب موقفه من الاستيطان الإسرائيلي، وكانت هذه بمثابة خطوات تنفيسية ، تعبر عن شدة الغضب ، ولكنها لا تملك الكثير من التأثير على دولة بحجم الولايات المتحدة ، وهو ما ردت عليه واشنطن عبر خطواتها العقابية ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها ، وضد منظمة التحرير الفلسطينية، وضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وأمام هذا الموقف غير المتوازن ، والمأزق الشديد الذي وجد الفلسطينيون انفسهم فيه ، خاصة في ظل اتجاه الإدارة الأمريكية بشكل اكبر نحو سيطرة الاتجاهات اليمينية الأكثر تشددا عليها ، بعد الإطاحة بوزير الخارجية الأمريكية تيلرسون ومستشار الأمن القومي الجنرال ماكماستر، وتعيين مايك بومبيو رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق وزيرا للخارجية ، وتعيين جون بولتون المعروف بمواقفه العدائية حيال الشرق الأوسط في منصب مستشار ترامب للأمن القومي ، كان لا بد من قلب الطاولة بأي شكل من الأشكال ، ليس فقط لمحاولة عرقلة « صفقة القرن « ، أو على الأقل إثارة عقبات في طريقها ، ولكن أيضا لمحاولة وقف حالة التدهور الفلسطينية الشديدة والمستمرة ، سواء بين فتح وحماس حول شروط المصالحة بين الطرفين ، أو على مستوى الأوضاع المتدهورة اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا في قطاع غزة ، وكان الفشل في تحريك الشارع الفلسطيني ، في شكل انتفاضة أخرى ، أمرا بالغ الوضوح والدلالة ، وشمل كل التنظيمات الفلسطينية ، التي اتضح ان المسافة بينها وبين الشارع الفلسطيني تتسع في الواقع ، بما يعنيه ذلك من تآكل التأييد الشعبي لها بشكل أو بآخر. و أمام هذا الموقف الفلسطيني المتأزم ، داخليا ، وإقليميا ودوليا ، كان ضروريا إيجاد مخرج ما يمكنه قلب هذه الصفحة على أي نحو. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

*اولا : انه مع التأكيد على استمرار سيطرة حركة حماس الفلسطينية على قطاع غزة ، وتأكيد هذه السيطرة عبر التعامل السريع مع التنظيمات التي تلجأ أحيانا الى إطلاق صواريخ ضد المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة ، والقلق الشديد من فقدان السيطرة الأمنية على القطاع ، وهو ما أظهرته الخلافات حول سيطرة حكومة رامي الحمد الله رئيس الحكومة الفلسطينية على قطاع غزة ، واشتراط حركة حماس الحفاظ على سيطرتها الأمنية والحفاظ على سلاحها وتعيين المنتسبين إليها ( عشرين ألف مدني ونحو ثلاثين ألف عسكري) ضمن العاملين الفلسطينيين في القطاع وصرف مرتباتهم من جانب الحكومة ، وعلى الجانب الآخر اشتراط الرئيس عباس تسليم حماس قطاع غزة بالكامل، أي فوق الأرض وتحت الأرض - الأنفاق - لحكومة الحمد الله ، بما في ذلك الأمن والقضاء ، وتمكينها بشكل حقيقي من ممارسة دورها عمليا على الأرض.

وفي ظل هذا الوضع الفلسطيني المأساوي ، الذي عرقل بالفعل أية خطوات للسير على طريق المصالحة ، والذي يصاحبه تغول إسرائيلي متواصل على حساب الحقوق الفلسطينية ، في القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية ، واستهانة أمريكية بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ، جرت محاولة اغتيال رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله خلال دخوله الى قطاع غزة ، برفقة رئيس المخابرات العامة الفلسطينية اللواء ماجد فرج ، وذلك يوم 13 مارس الماضي ، وهو ما أثار قلقا وتساؤلا كبيرا حول الجهة التي تقف وراء مثل هذا العمل ، الذي وقع في قطاع غزة ، حيث تسيطر حماس على الأوضاع الأمنية ، وهي سيطرة ليست مشكوكا فيها لاعتبارات كثيرة .

وبينما أكدت حركة حماس ان محاولة الاغتيال تمثل محاولة لإحراجها وتوريطها في خلاف اشد مع السلطة الفلسطينية في رام الله ، و أكدت تعاونها أيضا في تتبع خيوط الحادث والكشف عن مرتكبيه ومحاكمتهم ، فإنه لم تمض أيام قليلة حتى اتهمت السلطة الفلسطينية حركة حماس بالوقوف وراء الحادث ، وردت حماس على ذلك باتهام جماعة سلفية بالتورط في الحادث بإيعاز وتوجيه من احد الأجهزة الأمنية في رام الله ، وبالتالي اشتعلت الخلافات والاتهامات بين فتح وحماس ووصلت الى درجة أعلى في التراشق والانتقادات المتبادلة ، وحاولت القاهرة التدخل لتهدئة الموقف ، ومنع تفاقمه بين غزة ورام الله . ولكن الموقف لم يكن قابلا للسيطرة بسهولة ، خاصة بعد تبادل الاتهامات بين فتح وحماس على ألسنة مسؤولين كبارا في كل منهما . وخلال الفترة بين 13 مارس وبين 30 مارس الذي يمثل ذكرى يوم الارض ، الذي يحتفل به الفلسطينيون كتعبير عن تمسكهم بأرضهم، كانت قد تبلورت فكرة تحويل مناسبة يوم الارض - 30 مارس - الى مناسبة لتحريك الشارع الفلسطيني على اكبر نطاق ممكن ، ليس فقط لأن المناسبة تدغدغ حلم العودة لدى الأشقاء الفلسطينيين ، وانه يمكن من هذا المدخل الدفع بمجموعات شبابية يمكنها تحريك قطاعات فلسطينية جماهيرية اوسع ، وربما تتحول الى بداية انتفاضة فلسطينية ، ولكن أيضا لإظهار وتأكيد الرفض الشعبي الفلسطيني لـ «صفقة القرن « أو « صفعة القرن « كما اسماها الرئيس عباس . وتتمثل أهمية هذا التحرك الجماهيري الرافض في انه يدعم موقف القيادة الفلسطينية ، ويجعل موقفها الرافض للصفقة ، وتعاملها الغاضب مع واشنطن تعبيرا عن موقف جماهيري فلسطيني ، وليس مجرد موقف قيادة يمكن ان يتغير إذا تغيرت هذه القيادة بشكل أو بآخر . هذا فضلا عن ان هذا الموقف يمكن ان يقلب الطاولة بالفعل بالنسبة لصفقة القرن ويقطع الطريق أمامها الى حد كبير .

على الجانب الآخر، وبغض النظر عن اتجاهات التحقيق في حادث محاولة اغتيال رئيس الوزراء الفلسطيني ، ومحاولة كل طرف تكييف الأمر بما يخدم مزاعمه في اتهام الطرف الآخر ، فإنه من الطبيعي ان تتحمس حركة حماس لفكرة تحويل يوم الارض الى « مسيرة العودة الكبرى « ليس فقط لأنها تخدم تمسك حركة حماس بحق العودة ، من حيث المبدأ ، وأنها تتيح لها فرصة تأكيد قدرتها على تحريك الشارع في غزة بشكل ما ، والاهم ان هذا التحرك سيقلب الصفحة بالفعل بالنسبة لحادث الاغتيال ، ويدفع به الى خلف الاهتمامات الفلسطينية .

ولعل مما له دلالة في هذا المجال، أن الفصائل الفلسطينية جميعها ، قد توافقت على ان يكون التحرك في إطار « مسيرة العودة الكبرى « تحركا فلسطينيا جامعا ، بمعنى انه لا يتم رفع أعلام أية فصائل أو منظمات ، وان العلم الفلسطيني وحده هو الذي يتم رفعه ، وهو ما حدث بالفعل ، والأكثر من ذلك أن يقول « يحيى السنوار « رئيس حماس في قطاع غزة انه يسير على طريق الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ، وذلك في محاولة لاجتذاب مزيد من المشاركة في فعاليات التحرك الفلسطيني .

*ثانيا : انه في الوقت الذي اجتذبت فيه الدعوة لمسيرة العودة الكبرى أعدادا غير قليلة بلغت عدة آلاف من الفلسطينيين ، وتم تنظيم وتحديد مناطق التجمع والتحرك، وهي خمسة مواقع بامتداد حاجز الفصل بين غزة وإسرائيل الممتد بطول أربعين كيلومترا تقريبا ، فإنه من الواضح ، والمفيد أيضا ان تلك الفعاليات غطت سريعا على تفاعلات الخلافات بين فتح وحماس ، خاصة وأنها تفاعلات تسيء الى كلا الطرفين في النهاية ، فإنه من المؤكد ان هذه الفعاليات التي تتم كل يوم جمعة ، والمستمرة حتى منتصف شهر مايو القادم ، ذكرى قيام إسرائيل ، تثير قلقا شديدا لإسرائيل ، وهو ما عبر عن نفسه في الاستعدادات العسكرية المتزايدة من جانب اسرائيل لمواجهة أية تطورات ، ولجوء إسرائيل الى استخدام القوة المفرطة والرصاص الحي ضد كل من يقترب من السياج الفاصل بمسافة تتراوح بين مائة وخمسمائة متر تقريبا ، مع التهديد بقصف عمق قطاع غزة إذا تم المساس بالبنية الأساسية الأمنية للحاجز الحدودي ، مع إقامة مزيد من الأسلاك الشائكة ، وبارتفاع اكبر على الجانب الإسرائيلي من الحدود وتكثيف الرقابة المباشرة على مدار الساعة خوفا من أية اختراقات ، أو محاولات للقيام بأية عملية تسلل أوالقيام بأية أعمال عسكرية ضد المستوطنات .

وخلال جمعتين متتاليتين ، 30 مارس و6 أبريل خرجت جموع الفلسطينيين للتظاهر السلمي أمام الحاجز الحدودي . ورغم استخدام إسرائيل الرصاص الحي ، حيث استشهد اكثر من 35 فلسطينيا وجرح ما يزيد على ألفين وثلاثمائة فلسطيني خلال الجمعتين المشار إليهما ، الا ان الفلسطينيين يحرصون على الحفاظ على سلمية الاحتجاجات ، التي تقتصر على حرق إطارات السيارات ، للحد من مجال الرؤية أمام الجنود الإسرائيليين ، واستخدام المرايا لعكس أشعة الشمس ومضايقة الجنود الإسرائيليين ومنعهم من استهداف الشباب الفلسطيني ، وإزاء ارتفاع الخسائر الفلسطينية في الأرواح فان الأمم المتحدة ممثلة في أمينها العام انتقدت ذلك ودعت الى ضبط النفس ، وبالطبع فشل مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار إدانة لإسرائيل ، أو حتى بيان رئاسي يستنكر الهمجية الإسرائيلية، وذلك بسبب الموقف الأمريكي المدافع عن الممارسات الإسرائيلية. وبغض النظر عما إذا تم نقل المسألة الى الجمعية العامة ، وهو ما يطالب به الفلسطينيون والعرب ، فان الإدانة الدولية للممارسات الاسرائيلية تتسع وتتزايد على امتداد العالم ، وهو ما سيستمر طالما استمرت الاحتجاجات سلمية، أما اذا تمت عسكرتها ، تحت أية ظروف فإن ذلك يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى . ثالثا : انه مع الوضع في الاعتبار ان « مسيرة العودة الكبرى « لن تعني اجتياح الجدار الحاجز بين غزة وإسرائيل ، نظرا لصعوبة وخطورة ذلك بالنسبة للفلسطينيين ، وما يمكن ان يترتب عليه من خسائر فادحة في الارواح والجرحى ، خاصة وان ذلك لن يؤدي الى استعادة الأرض المحتلة ، فإنه من المؤكد ان هذا التحرك الفلسطيني قد عزز موقف القيادة الفلسطينية ، في رفضها صفقة القرن ، وفي تمسكها بالحقوق الفلسطينية بما في ذلك تمسكها بحل الدولتين وبالقدس الشرقية عاصمة لها ، وفي حين يتجاوز هذا التحرك الفلسطيني ، الأحداث التي سبقته ، أي محاولة الاغتيال، فإنه من المهم والضروري الانطلاق من ذلك الى تحقيق تكامل اكبر واوسع في أساليب المقاومة الفلسطينية الرسمية والشعبية والسلمية ايضا ، لتجريد اسرائيل من ميزة تفوقها العسكري وللحفاظ على الدماء الفلسطينية ، ولكن ذلك لن يتم بشكل فعال إلا إذا تمت المصالحة الفلسطينية بشكل حقيقي وعملي على الأرض ، وهو ما لم يتحقق حتى الآن على الأقل. من جانب آخر فإنه من الواضح ان التحرك الفلسطيني أجهض ما يسميه الرئيس الفلسطيني « صفعة القرن « ، فبعد أحداث غزة ، خاصة إذا استمرت سلمية حتى منتصف الشهر القادم ، فإن فرص إعلان صفقة القرن تتضاءل بالفعل ، كما انه لن يكون هناك طرف فلسطيني ولا عربي يمكنه التعامل معها لاعتبارات كثيرة .

وبذلك يكون قد تم قلب الطاولة بالفعل ، وهو ما يجب العمل على الاستفادة منه فلسطينيا وعربيا ايضا خاصة وان المسيرات وحدها لن تكفي وينبغي تعزيزها بوسائل سلمية أخرى ، كما انه لا وقت للمناكفات والمماحكات والاتهامات المتبادلة بين فتح وحماس والأفضل دوما هو التعاون بينهما .