أفكار وآراء

«مسيرة العودة ».. صفعة فلسطينية في وجه الاحتلال

07 أبريل 2018
07 أبريل 2018

د. عبد العاطي محمد -

لا يملك أي منصف في عالمنا العربي إلا أن يرفع القبعة لأبناء غزة الذين قادوا «مسيرة العودة الكبرى» إلى الحواجز والحدود مع الاحتلال الإسرائيلي. فقد أعادوا عقارب الساعة إلى حيث بدأت النكبة قبل 70 عاما، ليقدموا درسا عمليا قويا للداخل والخارج بأن الحقوق الفلسطينية الثابتة لا تسقط أبدا وأقوى من كل مظاهر القوة والغطرسة الإسرائيلية، وأن هناك أجيالا وراء أجيال لن تتوقف عن استعادة هذه الحقوق مهما كانت قوة الضغوط.

ما لا تغفله العين على مدى هذا الزمن الطويل وخصوصا في الآونة الأخيرة، أن الضغوط الإسرائيلية والأمريكية لإلغاء الأوراق الأساسية في القضية الفلسطينية باتت واضحة وضوح الشمس، ويجرى العمل نهارا جهارا على إزالتها من تاريخ القضية في انتهاك سافر لكل القرارات والمواثيق والاتفاقيات التي عرفناها منذ 1948. وتزامنت هذه الضغوط مع حملات إعلامية ودبلوماسية إسرائيلية وأمريكية تروج لما معناه أن الأمر أصبح منتهيا ويتوقف فقط على إيجاد القيادة الفلسطينية وكذلك العربية التي تجلس على المائدة وتوقع وثائق الاستسلام.

لن نتحدث عن كل ما طرحته الحكومات الإسرائيلية وصولا إلى حكومة نتانياهو، بالإصرار على ضرورة أن يعترف الفلسطينيون بيهودية الدولة الإسرائيلية أولا، وأن يستمر الاستيطان ويتوسع كل يوم بما يعني استبعاد قضايا القدس واللاجئين والحدود، حيث لا معنى في هذه الحالة من الحديث عن دولة فلسطينية. وتطوع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، وقرر وقف المساعدات الأمريكية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وسربت وسائل الإعلام الأمريكية بعضا مما سمي بصفقة القرن أو التسوية التي تعتزم الولايات المتحدة تطبيقها لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ومن بين هذا البعض استبعاد قضية اللاجئين تماما أي إسقاط حق العودة.

ولا يحتاج تفنيد كل ذلك إلى قدر ولو بسيط من العناء، لأن كل القرارات الدولية الصادرة من مجلس الأمن والجمعية العامة منذ 70 عاما وعقب مؤتمر مدريد للسلام 1991 تدحض كل هذه الافتراءات بوضوح شديد, سواء ما تعلق بالقدس في قرار التقسيم 181 لعام 1947 أو حق العودة في القرار 194 لعام 1948 الذي يدعو صراحة إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين في أقرب وقت لقراهم وبلداتهم.

انتفض الفلسطينيون ومعهم العرب والمسلمين جميعا ضد قرار ترامب ولم يعترفوا به وعلى إثره أعلنت السلطة الفلسطينية أن الولايات المتحدة أخرجت نفسها بهذا القرار من كونها الوسيط النزيه، ووقعت مواجهة دبلوماسية سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة منيت فيها الولايات المتحدة بالهزيمة حتى من حلفائها الأوروبيين. ومع ذلك أصر ترامب على موقفه وتردد أن السفارة الجديدة سيتم افتتاحها بالقدس 15 مايو المقبل أي في ذكرى قيام دولة إسرائيل، وذلك إمعانا في التحدي الأمريكي.

وحينما حلت الذكرى 42 ليوم الأرض في 30 مارس الماضي قرر الفلسطينيون أن يفعلوا شيئا جديدا تماما يؤكد العزيمة التي لا تقهر على رفض كل ما تقوله إسرائيل والولايات المتحدة عن إسقاط حق العودة. وللتذكير فإن يوم الأرض هو المناسبة التي قتلت فيها القوات الإسرائيلية بالرصاص 6 فلسطينيين في 30 مارس 1976 خلال مواجهات عنيفة ضد مصادرة أراضى فلسطينية.

ومنذ ذلك الوقت حول الفلسطينيون الواقعة إلى ملحمة سنوية للمقاومة وإحياء القضية الفلسطينية لتذكير العالم بأن الحقوق المشروعة لهم لا تسقط بالتقادم مطلقا وستظل تجد الأجيال التي تدافع عنها وتتناقل رايات المقاومة بين بعضها البعض. ولكن هذه المرة جاء المشهد مختلفا متأثرا بما سبقت الإشارة إليه من تحركات لإلغاء حق العودة قسرا. فجاء مشهدا إبداعيا من حيث الرمزية والمعنى السياسي مما أفزع إسرائيل وجعلها تتأهب لمواجهات مسلحة مع أبناء القطاع وتطلق إنذارات التحذير من القيام بخطوة كهذه، واعتبرتها مسيرة استفزاز وعنف. ووصل القلق الإسرايلي إلى حد أن صحيفة يديعوت أحرونوت نشرت مقالا باللغة العربية لكبير كتابها يرجو فيه أهل غزة إلا يقوموا بهذه المسيرة وأن يتجهوا إلى المصالحة والاعتراف المتبادل، مذكرا لهم بأنهم كثيرا ما قاموا بأعمال كهذه في الماضي ولم تجد نفعا!.

المسيرة تمت بالفعل برغم كل التحذيرات الإسرائيلية وشاركت فيها أعداد غفيرة، وحدثت المواجهة كما كان متوقعا، حيث سقط مع الساعات الأولى 16شهيدا وأصيب 1400 فلسطيني، فشكلت بمشهدها المؤثر صفعة قوية في وجه الاحتلال. اعتاد الفلسطينيون على دفع الثمن غاليا من الأرواح, ولكن الجديد هذه المرة هو الهدف والأسلوب.

الهدف كان معروفا بالطبع، وهو التأكيد على تمسك الفلسطينيين بحق العودة. وأما الأسلوب فهو الذي يستحق وقفة للتأمل لأنه يعكس تكتيكا جديدا في مقاومة المخططات الإسرائيلية والأمريكية ويحمل رسالة للعالم الخارجي لا يملك سوى احترامها ومن ثم عدم اعترافه بهذه المخططات مهما كانت قوة العلاقات بين إسرائيل وأصدقائها في الخارج.

المنظمون لها أكدوا أنها سلمية أي أن الزاحفين إلى الحدود لا يرغبون في وقوع مواجهات عنف مع قوات الاحتلال، وأنها جماهيرية شعبية لا تمثل فصائل بعينها وإنما جموع الشعب الفلسطيني في غزة ومطلوب من كل فلسطيني أن يشارك فيها بعيدا عن انتمائه السياسي لأنها قضية وطنية بالأساس، وأنها مفتوحة لكل صور الإبداع الوطني فنيا وثقافيا وسياسيا، وهكذا تم نصب خيام صغيرة على بعد مئات الأمتار من الحدود للاعتصام وللتعبير عن مختلف صور الصمود والتلاحم، ولم تأت قاصرة على أبناء غزة وحدهم بل تمت دعوة اللاجئين في لبنان والأردن وسوريا للمشاركة كل في موقعه. هذا فضلا عن كونها مسيرة قانونية حقوقية لأنها تستند إلى القرار191 الخاص باللاجئين.

ووفقا لما تم تداوله من معلومات فالمسيرة لا تقف عند يوم واحد وإنما مفتوحة زمنيا حتى يوم 15 مايو ذكرى النكبة واليوم المفترض لافتتاح السفارة الأمريكية في القدس.

رمزية المسيرة لها تأثيرها من حيث كونها موقفا شعبيا متمسكا للنهاية بحق العودة، فالزاحفون إلى الحدود كانوا يحملون معهم أحلامهم المشروعة بالعودة إلى بلداتهم وبلدات أجدادهم وهم ينظرون إليها من خلف الأسلاك الشائكة.هنا العزيمة والشحن المعنوي مهمان للإبقاء على جذوة الاهتمام بالقضية مهما كانت قوة التحديات والضغوط. ولكن المعاني السياسية للمسيرة أكثر أهمية.

فمن ناحية هي تعبير عن موقف وطني بعيدا عن المسار السياسي العام للقضية ككل، فما من شعب على وجه الأرض إلا وهو مرتبط بالأرض التي نشأ عليها هو وآباؤه وأجداده. هذا الارتباط لا يخضع للمساومة ولا يتلاشى مع الزمن، ولنا في تجارب شعوب عديدة أخرى المثل والعبرة.

ومن ناحية أخرى هي رسالة لكل العالم بأن يحترم تعهداته وقراراته، والمقصود هنا حق العودة، ولا يصح التراجع عن هذه القرارات تحت أية مبررات، وإلا فالبديل هو فرض الواقع الظالم الذي لن يقود في المستقبل إلا إلى استعادة الحق بالقوة.

ومن ناحية ثالثة فإن المسيرة تضيف شرعية جديدة للمشروع الفلسطيني والعربي الذي يقوم على السلام الكامل مع إسرائيل في مقابل الوفاء الكامل بكل الحقوق الفلسطينية، وأي مجالات أخرى غير ذلك لا تستطيع أية سلطة فلسطينية أو عربية أن تقبلها لأنها بذلك تخالف مطلبا شعبيا فلسطينيا. وهكذا إذا ما تمكنت واشنطن مثلا من تفعيل نقل السفارة فهذا أمر يخص علاقاتها بإسرائيل ولا يلزم الفلسطينيين ولا العرب، وعلى الجانب الآخر فإن التفكير في إسقاط حق العودة لا يمكن تفعيله عمليا لا من إسرائيل ولا من الولايات المتحدة لأنه من سلطة أصحاب الشأن الأصليين وهم الفلسطينيون وهؤلاء لا يقبلون بإسقاطه، وها هي مسيرة العودة الكبرى شاهد على ذلك.

في زمن غير الزمان الذي نعيش فيه كان من الممكن أن نجد مشهد مسيرة العودة ممتدا تلقائيا من غزة إلى بقية عالمنا العربي لا أن يكتفي الرأي العام العربي بمتابعة الحدث عبر شاشات التلفزيون. ولكن الحدث فرض نفسه وحقق هدفه، وهو أن جموع الشعب الفلسطيني بعيدا عن الانتماءات السياسية وبرغم الانقسام وعدم تحقق المصالحة لديها شعور وموقف واحد هو التمسك بحق العودة. بغير هذا الحق فإنه لا معنى ولا أصل للقضية الفلسطينية. ولأن الفلسطينيين واعون بهذه الحقيقة سيظلون متمسكين بهذا الحق، ويبدعون في وسائل التعبير عنه مهما كانت قوة الضغوط والتحديات. لقد وصلت الرسالة إلى العالم أجمع بأسلوب حضاري سلمي، ونال الاحتلال صفعة جديدة على الوجه وأدرك أن سياسات فرض الأمر الواقع لتغيير كل عناصر القضية لن تجبر الفلسطينيين على الاستسلام بل تزيدهم إصرارا على المقاومة وصولا إلى الوفاء بحقوقهم المشروعة غير القابلة للتغيير.