أفكار وآراء

واشنطن – بكين... حرب تجارية أم سياسية؟

06 أبريل 2018
06 أبريل 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ما الذي جرى بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في الأسابيع القليلة الماضية وهل الأمر صراع تجاري أم صراع سياسي على من يتسيد العالم؟

قبل الجواب على علامة الاستفهام المتقدمة ربما يتحتم علينا الإشارة إلى أمر مهم نذكر به القارئ، وهوانه أثناء فترة الحملة الانتخابية الرئاسية قبل نحو عامين كان دونالد ترامب ينظر إلى الصين بوصفها العدو الأكبر لبلاده، اقتصادياً على الأقل، وتكلم كثيراً جداً عن اللاعدالة في التعاملات التجارية بين واشنطن وبكين.

والمؤكد أن المواقف من الصين باتت اليوم أكثر عنتاً وتشدداً سيما بعد اعتلاء صقور المحافظين الجدد سدة المناصب الكبرى في أمريكا وفي المقدمة منهم «جون بولتون» مستشار الأمن القومي، و«مايك بومبيو» مدير الاستخبارات المركزية الذي ارتقى سلم وزارة الخارجية في الأسابيع القليلة الماضية، وباتت موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه مسألة وقت، وغني عن القول أن كليهما من عتاة اليمين الأمريكي المناهض للصين.

لكن الصين في كل الأحوال تمثل ركناً فاعلاً في الافتصاد الأمريكي سيما وأنها تستثمر فوائضها المالية في سندات الخزانة الأمريكية وهي دائنة للأمريكيين بأكثر من 2 تريليون دولار وهو مبلغ كبير جداً.

وفي الوقت نفسه يبدو السوق الأمريكي مجالاً خصباً وكبيراً، بل أكبر الأسواق العالمية المتبادلة بين الطرفين، ما يعني أن أحدهما لا غني له عن الآخر.

لكن حالة من الشكوك الأمريكية تجاه الصين تبقى قائمة فقد درجت الصين على سرقة الأفكار الأمريكية وتقليدها، وهي بارعة في هذا السياق بحسب الاتهام الأمريكي لبكين، وهو ما تنفيه الصين دوما .

ومع وصول ترامب إلى سدة الحكم ورفعه شعار أمريكا أولاً بات وكأن الرئيس القادم من خلفية «صانع الصفقات العقارية» مهتم بالمواجهة الاقتصادية بأكثر من أي مواجهة أخرى حتى وإن كانت سياسية أو عسكرية بالنسبة للصين، على عكس الموقف المحتدم مع روسيا حيث الصراع السياسي والعسكري يأتي في الدرجة الأولى.

في هذا السياق كان الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية «روبرت لايتيزر» يقدم مجموعة جديدة من المقترحات لفرض رسوم على المنتجات المستوردة من الصين، هذه الرسوم تكلف الصينيين نحو 30 مليار دولار سنوياً.

على أن المثير في المشهد أيضاً هو أن الرئيس ترامب لم يكتف بمثل هذا المبلغ، بل طالب بمضاعفة حجم الضرر الواقع على الصين، وقد أوردت وكالة «رويترز للأنباء عن مصادرها أن ترامب أمر بإعداد أمر يفرض رسوما على البضائع من الصين تصل إلى 50 مليار دولار سنوياً.

يعن لنا هنا التساؤل: «ما الذي تريده أمريكا- ترامب من الصين هل وقف نموها الاقتصادي أم قطع طريق نهضتها السياسية الواعدة؟

المؤكد أن الامبراطوريات الكبرى لم يكن لها أن تقوى وأن يشتد عودها دون وجود قاعدة اقتصادية قوية جداً تكون وراء قيام نهضة صناعية عسكرية تكفل للدولة أن تتحول إلى امبراطورية، ولاحقاً تضحي المؤسسة العسكرية للامبراطورية الحارس الأمين على أمنها القومي والاقتصادي والسهر على حضورها المالي حول العالم، وهكذا يتم تبادل الأدوار.

وفي إطار هذه الرؤية يمكن للمرء فهم لماذا تريد واشنطن أن تقطع الطريق على التنين الصيني الذي بات يشكل تهديداً للتواجد الاقتصادي الأمريكي حول العالم، وللصينيين في واقع الأمر ميزة كبرى في هذا السياق، ذلك أن جل ما يهمهم هو الحصول على المواد الخام وبعيدا عن مزايدات حقوق الإنسان أو أوضاع الديمقراطية، وبقية المتطلبات الأمريكية.

لا يمكن أن نفضل في حاضرات أيامنا بين الانتصارات السياسية والصراعات التجارية والمالية، ويبدو أن الأمريكيين يشعرون بقلق شديد من تحركات الصين في الأعوام الأخيرة، ذلك أن نموها الاقتصادي غير المسبوق، قد كفل لها أن تمول مشاريع في 68 دولة بمبالغ تصل إلى 8 تريليونات دولار، والعهدة هنا على «المنظمة الأمريكية غير الربحية»، والتي قرعت أجراس الخطر لساكن البيت الأبيض معتبرة ان الاستثمارات والقروض الصينية لبقية دول العالم تمثل أذرع أخطبوطية تمتد من جنوب شرق آسيا في «لاوس» إلى شرق أفريقيا حيث «جيبوتي»، ومن باكستان في إطار المحيط الهندي، إلى آسيا الوسطى حيث تقاطع طرق النقل والتجارة الهامة المعروفة تاريخياً باسم طريق الحرير حيث «قرغيزستان وطاجيكستان، وكذا منغولياً، وتصل الخيوط والخطوط حتى الجبل الأسود في أوروبا.

يدرك الأمريكيون أن الصينيين يعتبرون الاستثمارات المالية أدوات سياسية للضغط تضمن أن تدور الدول المستثمرة فيها أموال الصينيين وكذا القروض المقدمة لدول بعينها في فلك الصين السياسي والاقتصادي وبالضرورة العسكري، فعلى سبيل المثال وبفضل القروض الصينية يرجح الأمريكيون أن تزيد ديون «قرغيزستان» من 62 إلى 78% من الناتج الإجمالي المحلي، وسوف تتضاعف حصة الصين في ذلك السوق لتصل تقريباً من 37 إلى 71%.

في تقرير أخير مثير لها تشير صحيفة «الفاينانشيال تايمز» إلى أن الحاجة إلى إبقاء أسواق الغرب مفتوحة قيدت الموجات الجيوسياسية لصعود الصين، غير انه وفي ضوء تصاعد النزعة الوطنية في أمريكا، حكماً ستتغير حسابات الصين، وهناك احتمالية هائلة لان تكون التعرفات التي فرضها ترامب ليست سوى البداية في حرب تجارية وشيكة.

كفلت الأرباح الصينية من تجارتها المزدهرة مع العالم كله أرقاماً وفوائض مالية هائلة دفعتها لان تثق في نفسها بأكبر قدر، ما عزز تحديها وتصديها الايديولوجي والجيوسياسي لواشنطن، ولهذا في ظل حكم «شي بينج» باشرت الصين برنامجاً طموحاً «لبناء الجزيرة» في بحر الصين الجنوبي لاعادة فرض مطالبها الإقليمية والبحرية، وقد كان ولايزال الهدف الأوسع من هذه الخطوة هو إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على غرب المحيط الهادئ الذي يعد أهم الطرق البحرية التجارية في العالم.

لكن ما الذي يقوم به الصينيون وهل هو داع لخوف وهلع أمريكيين في الحال والاستقبال؟

في أعقاب إعادة انتخابه رئيساً للبلاد وموافقة البرلمان على تعيينه رئيساً مدى الحياة أعلن الرئيس الصيني «شي جين بينغ» أن الصين لا تسعي للهيمنة أو التوسع ولا تهدد الدول الأخري، ومضيفاً «يظهر الشعب الصيني رغبة صادقة ويتخذ إجراءات حقيقية للإسهام في الحفاظ على السلام وتنمية البشرية جمعاء، وأن الصين لا تنوي فرض إرادتها على الآخرين، ولكنها لن تتسامح مع فرض الآخرين إرادتهم عليها، وستدافع عن سيادتها وعن سلامة أراضيها ومصالح شعبها».... هل في مثل هذه التصريحات ما يقلق الأمريكيين؟

ربما ينبغي أن نشير في هذه القراءة إلى جزئية مهمة وهي أن المجلس الوطني لنواب الشعوب الصيني، الذي انتخب مؤخراً «شي جين بينغ» لمنصب رئيس الصين لفترة أخرى مدتها خمس سنوات، وأعاد انتخاب «بينغ» لمنصب رئيس المجلس العسكري المركزي في البلاد، كما أعلن إلغاء التقيد بعدد ولايات معين، قد بعث برسالة للعالم كله عامة وللامريكيين خاصة تفيد بقوة ومتانة الصف الصيني الداخلي، وترابط النسيج الاجتماعي للشعب الصيني حول وحدة وهدف ما بعينه.

هذا المشهد في واقع الحال مزعج أيما إزعاج للأمريكيين الذين باتوا مفككين، وبات نسيجهم الوطني اليوم مهدد بأكثر من تهديد خاصة من جهة تنامي التيارات العنصرية الأمريكية اليمينية التي لا تقبل الآخر بالمرة وتسعى في طريق عزله وإقصاءه إن قدر لها ذلك.

يدرك القائمون على مراكز الأفكار في واشنطن اليوم أن الصين مقبلة لا محالة على تغييرات جوهرية وفي عهد «بينغ» بنوع خاص سيما وان الكثير من التوقعات الأمريكية وتنظيرات المنظرين للسياسة الأمريكية الخارجية قد فشلت في التنبؤ بأبعاد المشهد الصيني، فلم تضحي الصين الدولة الأكثر ديمقراطية رغم انفتاحها على العالم، وخابت كافة النظريات الليبرالية التي توقعت انطلاقة سلمية للصين، إذ لم تعد بكين مستعدة للعيش بهدوء في ظل نظام عالمي وضعته الولايات المتحدة وسيطرت عليه.

وعلى الجانب الأخر يجد المرء للصينيين وجهة نظر تحترم وتستحق النقاش، فهم يدركون تمام الإدراك أن الأمريكيين ومنذ نهاية تسعينات القرن الماضي يسعون سعياً حثيثاً للهيمنة على مقدرات العالم، وصبغ القرن الحادي والعشرين برمته بصبغة أمريكية، ومع العام الأول من العقد الثاني من القرن الحالي، كانوا يبلورون رؤية استراتيجية أطلق عليها «الاستدارة نحو آسيا»، وقد فهم الآسيويون عموماً، والصينيين خصوصاً انها تعني إنهاء طموحات الصين في أن تضحي إمبراطورية دولية في العقود القادمة.

غير ان ما يجري في الصين اليوم سياسيا واقتصادياً إنما يعكس إحساساً متنامياً بالقوة الوطنية داخل الصين، التي أعطت الأولوية للأفكار والمفكرين الجدد، في عصر ما قبل حكم «بينغ» فقد شدد القادة والأكاديميون الصينيون كثيراً على الاعتماد المتبادل بين بلدهم والولايات المتحدة، وكانت الحجة التقليدية هي أن التطور السريع للصين كان يحدث في سياق الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية، وبالتالي يمكن ان يكون هناك مجال كبير لتتحدى الصين أمريكا. لكن هذه النظرة الصينية للعالم تغيرت، ولم يعد لها وجود شائع أو ذائع في بكين، ففي الآونة الأخيرة بدأ المفكرون الصينيون يجادلون بان: «النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لم يعد ملائماً للأوضاع الحالية، على حد قول «فو بينغ» رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس الوطني لنواب الشعب.

هل سيستسلم الصينيون للمعركة التجارية التي يسعي الرئيس ترامب لفرضها عليهم؟

مؤكد أن أحفاد «كونفوشيوس» لن يقبلوا بذلك بحال من الأحوال وها هم يعدون لضربة قد تكون قاتلة للعملة الأمريكية الدولار التي تعتبر الحاكم الحقيقي للاقتصاد العالمي، من خلال إطلاق الصين بورصة لعقود النفط الآجلة مقومة بعملتها المحلية «اليوان» في مسعى منها للحد من سيطرة الدولار الأمريكي على تسعيرة النفط الخام في العالم، وتملك العقود الصينية الفرصة لأن تصبح مرجعاً لسوق النفط، وخاصة أن الصين تعتبر اكبر مستورد للنفط الخام، وسيدفع ذلك العملة الصينية لاحتلال مراكز قيادية بين العملات العالمية، كما أن إطلاق مثل هذه البورصة حتماً سيضعف آليات الحظر الأمريكي التي تعتمد على الدولار.

المواجهة في بداياتها والمخاض من واشنطن إلى بكين طويل والسؤال الأهم ما هي تداعيات تلك الحرب التجارية – السياسية على العالم؟