أعمدة

نوافـذ :نطلق عليه.. «زمن الطيبين»

06 أبريل 2018
06 أبريل 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يعمد كثير منا – بما أتاحته لهم وسائل التواصل الاجتماعي - إلى نشر صور قديمة مرت عليها عشرات السنين، إما أن تكون صور ما قبل المدرسة بين أحضان قراهم التي عايشت طفولتهم الأولى، أو صورا لأيام الدراسة في المراحل المختلفة، وخاصة للتجمعات الطلابية التي ضمتها الأقسام الداخلية، والتي شهدت تجمعات طلابية من مختلف ولايات السلطنة، في الفترة الزمنية من منتصف السبعينات؛ مرورا بفترة الثمانينات وصولا إلى أواخر التسعينات، حيث تكاثرت المدارس؛ وأصبح كل طلبة المدارس يتلقون التعليم في قراهم.

هذه الصور في مجملها تقيم على أنها إحدى اللحظات الهاربة من أعمارنا، وبالتالي متى رغبنا في استرجاع هذه اللحظات كان ذلك من خلال نشر هذه اللقطات العابرة مع الزمن، وبقدر فرحتنا؛ في لحظة اكتحال العين بها؛ حيث جمعتنا بإخوة أعزاء؛ إلا أنها تترك وخزا مؤلما في القلب، لأن الوجوه غير الوجوه، والأنفس غير الأنفس، فالزمن ـ كعادته - يقوض الأشياء الجميلة، ولم تبق إلا الذكرى، وهناك الكثير ممن احتضنتهم حيواتهم الخاصة، ولم نعد نراهم، ولا حتى نعرف عنهم شيئا، هذا بخلاف الأنفس التي فارقت الحياة؛ حيث غيبها الموت، ونسأل الله تعالى أن يكونوا من الذين قال الله تعالى عنهم: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) اللهم آمين.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا نصف ذلك الزمن بـ «زمن الطيبين» أَيَخلو الزمن الذي نعيشه من الـ «طيبين» ولا نرى فيه الجمال، حتى نذهب إلى ذلك الزمن البعيد، الذي لم يعد منه شيء إلا ما تختزنه الذاكرة؟ أم ترى أننا مسكونون دائما بالماضي، من أثر ترديد المقولة: «من ليس له ماض، ليس له حاضر» وإلى أي درجة يؤسس الماضي لحياة الحاضر، وهل الانفصال عن الماضي يعد نكرانا للجميل، وألم يُقَل إن الماضي به من القيود ما يعطل حركة الحياة لدى أفراد المجتمع في الحاضر، أم إن المسألة فقط مربوطة بـ «ثيمة» البكاء على الأطلال، كما قال الشاعر العربي قيس بن الملوح:

«أمر على الديار ديار ليلى: أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي: ولكن حب من سكن الديار»

عندما ندلف إلى سكك الحارات القديمة، التي وثقت كل حركاتنا وشقاوتنا، جدنا وهزلنا، ضحكاتنا وتشنجاتنا، تنزلق عواطفنا سريعا إلى حد البكاء «أحيانا» ونحس فعلا بوقع الألم الصارخ بين دهاليز أنفسنا، نستجدي الزمن لأن يوقف دورته المتسارعة بسرعة البرق، لأننا نريد ان نتنفس قليلا بوحي المكان، وبترانيمه التي كانت تصدح بين جدرانه الطينية التي تخضبت بها أياد حملت كفنها اليوم إلى حيث النهاية، ولكن لا فائدة، وتقبيلنا للجدر؛ التي لا تزال تعلن انتصارها على قساوة الزمن؛ يظل عبثا لأن ما ذهب لن يعود.

أسجل هنا شيئا من الذكرى، وأشفق على أبنائي اليوم، وأتساءل عن ذكرياتهم التي سوف يعودون إليها بعد نيف من السنين، نحن كانت لنا حارات بسككها المتداخلة والمتقاطعة، وكانت لنا حقول بسواقيها المغذية عبر جداول مياه الأفلاج، وكانت لنا انزلاقات طفولية بين أحضان البساتين، وعلى سفوح الجبال والتلال؛ حيث تعثرت الجباه بالطين وذرات التراب، وما بين تخوم الأودية تزداد الشقاوة أكثر، فماذا بقي لجيل اليوم الذي يصحو وينام على أجهزة الآيباد والهواتف النقالة، ولا يكاد يخطو خطوة واحدة ما بين فراشه الوثير، وطاولة طعامه؟

هذا هو الزمن الذي نعزف عليه وتر الشجن، وهو شجن مضن على درجة قياس تصل إلى (100) درجة مئوية، وما دام الأمر كذلك علينا أن نبقي لأنفسنا مساحة حاضرة نتنفس من خلالها، ولا نسلم أنفسنا للماضي مطلقا، فالماضي بزمنه الذي ولى يكون أحيانا قاسيا لا تتحمله أنفسنا المتعبة.