1299009
1299009
إشراقات

ضعف الروابط الأسرية .. الأسـبــاب والحلــول

05 أبريل 2018
05 أبريل 2018

المسؤولية مشتركة -

د.محمد عبد الرحيم الزيني -

أستاذ الفلسفة الإسلامية ـ كلية العلوم الشرعية -

«من المهم بمكان أن نشير إلى دور أجهزة الإعلام العصرية وما يعرض فيها من أفلام العنف والسرقة والرعب والخلاعة والتعبيرات المكشوفة وصور الجنس، ويصبح معيار البطولة هو الاعتداء والسرقة والنفاق والانتهازية ونشر القيم السلبية والأفكار المنحرفة مع عدم وجود رقابة من الأبوين، وضعف الوازع الديني، فهذا كله يؤدي إلى تشتت ذهن الأبناء ويبلبل خواطرهم ويدفعهم إلى السلوك الخاطئ والتصرفات الشاذة. والمسؤولية مشتركة، وكل طرف من الأطراف عليه أن يتحمل قدرا من الواجب والأمانة المنوطة به، وتتوزع المسؤولية على الأبوين أولا، وعلماء الدين ثانيا، وأجهزة الإعلام ثالثا، وكل أفراد المجتمع كل في موقعه وموضعه عليه واجب».

اشتهرت الأسرة العربية على مر التاريخ القديمة والمعاصرة بقوة التماسك الاجتماعي والرابطة الوجدانية، ووحدة الهدف، وفضيلة العمل المشترك، وصلابة الموقف، والتضحية من أجل الأسرة وتحمل الابن الأكبر التكاليف الاجتماعية والنهوض بأعباء الأسرة في حالة وفاة الأب، كما نلحظ ذلك في مجتمعاتنا، ولعل قصة «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ (ت 2011) فيها تصوير لهذا الواقع الاجتماعي حينما ضحى الابن الأكبر بالتوقف عن الدراسة والرضا بالمؤهل المتوسط للإنفاق على أسرته والقيام بأعبائها وتعليم إخوته.

وكانت الأسرة العربية قديما مكونة من الأب والأم والأبناء، والأحفاد، وتمثل المكون الرئيس للمجتمع الكبير، ويمثل الأب السلطة الاجتماعية والاقتصادية على الجميع، وهو مصدر السلطات، وكانت العادة أن الأبناء بعد أن يكبروا يتزوجون ويعيشون داخل البيت الكبير الذي يتسع حضنه للجميع، وهذا ما كان يطلق عليه اسم «العائلة». ومن جملة العائلات تتكون «وحدة القبيلة» التي يربطها وحدة الجنس والمكان والعادات المتجانسة والأهداف المشتركة. وكانت هذه العادات والتقاليد لها سلطة حاكمة ينصاع إليها الجميع، ولا يشذ عنها فرد من الأفراد إلا للضرورة القصوى، وإلا يقابل بقدر كبير من الاستهجان والنفور والسخط لأنه خرج على تقاليد الأسرة بخاصة والمجتمع بعامة. ولما كان الطابع الغالب على المجتمعات العربية قديما الاشتغال بالرعي والزراعة والحرف التقليدية؛ لذلك نرى أن هذا المجتمع كان يتميز بكثير من السمات الإيجابية والصفات الطيبة وكريم الأخلاق نلخصها في العناصر الآتية:

ـ قوة الرابطة، وهذا يفضي إلى الامتثال للأوامر الصادرة من السلطة العليا للأسرة أو القبيلة. وكان الأب هو الذي يمثل السلطة النافذة ومصدر الدستور، وكان في الغالب هو المرجعية الاجتماعية والفكرية والعسكرية وصاحب الخبرة العميقة الذي تقلب في تجارب الحياة، علاوة على إصدار الأوامر الصارمة والجميع ينصاع إليها بمن فيهم الأم، ولعل « أحمد عبد الجواد» في قصة قصر الشوق لنجيب محفوظ يمثل ذلك أفضل تمثيل وأصدقه. ويعبر عن مرحلة في تطور العلاقات الأسرية.

ـــ وحدة المكان والتشبث به لدرجة العبادة والحب العميق، والتعاطف الوجداني والتماسك الاجتماعي، وتعاون أفراد المجتمع فيما بينهم، ومساعدة كل منهم الآخر والعمل الجماعي المشترك؛ لأن طبيعة العمل لا يستطيع أن ينهض بها فرد واحد، ومن ثمَ كانت صفة التعاون لازمة ضرورية وحاجة ملحة لحركة المجتمع ولاستمرارية وجوده. وهذه الوحدة المكانية والاستقرار في المكان تنتج عنها شبكة علاقات اجتماعية حميمية ووشائج طيبة وأواصر قوية تتمثل في النوايا الحسنة والعواطف الجياشة الصادقة أي المودة والرحمة والمسارعة في نجدة الملهوف ونصرة المظلوم، والاحتفاء بالضيوف والكرم الزائد، ويتجلى أعظم ما يكون التجلي في بيوت القرية العربية القديمة تجدها متماسكة مترابطة كأنها بنيان واحد مرصوص يشد بعضه بعضا أي وحدة عضوية مثل قصائد الشعراء المعاصرين، وأفرادها كل متماسك كأنهم جسم واحد وقلب واحد ورأي واحد، ولعل قصص محمد عبد الحليم عبدالله (ت 1970) مثل «الجنة العذراء والضفيرة السوداء ولقيطة وشجرة اللبلاب» تصور هذه السمات أصدق تصوير وأروعه، وكذلك قصة الطريق الطويل لنجيب الكيلاني.

ــ عدم وجود طرائق للترفيه، أو سبل للترويح باستثناء بعض المنشدين الذين يحفظون أدعية دينية ومحفوظات تاريخية شعبية وبعض الابتهالات يقدمونها في الاحتفالات الدينية، أو الوطنية؛ لذلك كان الجد والجدة يقومان بدور المؤرخ والقصاص الذي يجمع الأبناء والأحفاد حولهم ويسردون عليهم قصة ميلاد الرسول أو الإسراء والمعراج، وكذلك قصص الأنبياء، ولا جدال أن هذا يرسخ عملية الترابط الاجتماعي ويقوى من عوامل التآلف والوحدة والانسجام والتفاهم المشترك بين أفراد الأسرة. على أن الواقع المعاش الذي تعيشه الأسرة في مجتمعاتنا العربية لا تعبر عما ذكرناه، إذ حدثت تغيرات في بنية الأسرة، وهجمت عليها عادات وافدة معظمها غربية مترعة بالنزعة المادية والانعزالية وأحيانا النرجسية والفردية التي لا تراعي مصالح الآخرين، وبعيدة عن أخلاقياتنا، وتناوشتها قيم تصادم قيمنا الإسلامية المستمدة من معطيات قرآننا وأوامر رسولنا، وتراثنا الذي هو جزء من شخصية الأسرة وينبوعها الثري الذي يعد أهم محددات شخصيتها وهويتها؛ ولذلك ظهرت العديد من المشكلات التي ألمت بالأسرة، وأدت إلى كثير من الصفات السلبية وعوامل الهدم، ويجدر بنا أن نلم بأهم العوامل التي أفضت إلى هذه التغيرات الاجتماعية.

ولا شك أن التطور الاجتماعي والحضاري الذي عم المجتمعات العربية أثر على الأسرة وأهمها انتشار التعليم، والتوسع في قاعدته، ومن هنا كان على الطالب أن يغادر محضن الأسرة والعُش الذي درج فيه، وينفصل عن أسرته ويعيش وحيدا سواء داخل الوطن أو خارجه، وهذا أدى إلى خلخلة الترابط الاجتماعي وانفراط عقد الأسرة، ثم إن هذا المتعلم بعد تخرجه يعمل عادة في المدينة حيث فرص العمل، مما أدى إلى اتساع الهوة بينه وبين أسرته ووهن الصلات وفتور المشاعر مع مرور الزمن وتباعد المسافات، وربما اكتسب من المحيط الاجتماعي صفات الانتهازية وتشبع بالأنانية وتجافيه عن مبادئ الإسلام والقيم الأخلاقية، كما نرى في التحول القيمي والسلوكي عند «محجوب عبد الدايم» في القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ.

كما أن انتشار وسائل الترفيه واجتياحها كل المجتمعات الريفية والحضرية مثل السينما والمسرح والتلفاز، وظهور الكتب الدينية المطبوعة والقصص المسلية العاطفية والتاريخية، كل هذا التطور الحضاري أدى خطوة بعد أخرى إلى تباعد المسافات بين الآباء والأبناء، ثم جاءت الطامة الكبرى التي عبر عنها «بالمحمول» وأعوانه من المخترعات الموازية التي انتشرت بين الأطفال فأقامت حواجز عديدة وصلبة بين أفراد الأسرة الواحدة وانفرط عقدها وأصبحوا مثل الشظايا المتناثرة، فكل فرد كأنه حارة مغلقة الأبواب وبلا نوافذ، أو قلعة من الفردانية المنغلقة على ذاتها.

هذه الظواهر السابقة ساعدت في ظهور العديد من المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالأسرة، ومن الممكن أن نلخص أسباب تدهور العلاقات الأسرية في نقاط محددة :

ـــ عدم الانسجام والتكيف الاجتماعي بين الأب والأم والمشاحنات اليومية والمشاجرات الدائمة الناتجة عن عدم الكفاءة الشخصية أو فارق السن أو المؤهل العلمي أو تنافر الطباع وفقدان جسر التفاهم والحوار السليم، ولا جدال أن هذه المشاحنات التي تصل أحيانا إلى التشابك بالأيدي لها مردود سلبي ينعكس أثره على نفسية الأطفال وعلى سلوكهم ويؤدي إلى انحرافهم، وتشردهم وهروبهم من البيت إلى الشارع. (وهذا ما صوره الدكتور مصطفى محمود في كتابه 55 مشكلة حب، وعبد الوهاب مطاوع في كتابه: «هتاف المعذبين».

وأيضا انتشار ظاهرة الطلاق وتفسخ الأسرة وتفكك بنيانها، فتصبح الضريبة باهظة من مستقبل الأبناء الذين يدفعون ثمنا غاليا ويصبحون هم الضحية، فينحرفون إلى السرقة والتشرد والتعرف على الأولاد المنحرفين. وشرب المخدرات وتعاطي الخمور.

وتسلط الأب في بعض الأسر، وظهوره بمظهر الديكتاتور الأوحد، وكأنه فرعون العصر ولا رأي إلا رأيه، مما يمحو شخصية الأبناء، وقد يكون غير متدين ولا يقوم بواجبه تجاه أولاده من التربية الدينية والتوجيه القيمي، والسلوك الراشد، فهذه العوامل لا غرو أن تدمر وجودهم فيتمردوا على أوامره نظرا لوسائل الإعلام وأصدقاء السوء والانفتاح والتعليم ويسبب في النهاية التفكك الأسري. ولعل شخصية «ياسين» المنحرفة أخلاقيا وسلوكيا وتنكبه الطريق المستقيم وكذلك أخوه «كمال» الذي فشل في إثبات وجوده وتردده الشديد وعدم حسم أمره في قضايا الحياة وعاش هكذا هائما على وجهه تعبيرا حقيقيا عن تسلط والده أحمد عبد الجواد (في ثلاثية نجيب محفوظ) الذي كان يتسم بالصرامة في الواقع، وهو سكير عربيد في الباطن لا سيما بعد أن اكتشف أولاده حقيقة ترديه في حمأة الرذيلة، وكشف ستره.

ومن المهم بمكان أن نشير أيضا إلى دور أجهزة الإعلام العصرية وما يعرض فيها من أفلام العنف والسرقة والرعب والخلاعة والتعبيرات المكشوفة وصور الجنس، ويصبح معيار البطولة هو الاعتداء والسرقة والنفاق والانتهازية، ونشر القيم السلبية والأفكار المنحرفة، مع عدم وجود رقابة من الأبوين، وضعف الوازع الديني، هذا كله يؤدي إلى تشتت ذهن الأبناء ويبلبل خواطرهم ويدفعهم إلى السلوك الخاطئ والتصرفات الشاذة.

ـ كيف نحمي العلاقات الأسرية من التدهور والتفكك؟

غني عن البيان أن المسؤولية مشتركة، وكل طرف من الأطراف عليه أن يتحمل قدرا من الواجب والأمانة المنوطة به، وتتوزع المسؤولية على الأبوين أولا، وعلماء الدين ثانيا، وأجهزة الإعلام ثالثا، وكل أفراد المجتمع كل في موقعه وموضعه عليه واجب. فعلى الأبوين إقامة علاقات المودة والمحبة فيما بينهما أولا. يقول المولى (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ومن خلال التربية والتوجيه توفير فضاء من الأمان والإيمان لأولادهم وقدر لا بأس من فضيلة الحرية وإدارة حوار عائلي يتسم بالشورى واحترام الرأي، وتنمية شخصية أبنائهم وغرس الثقة بأنفسهم.

ولا أحد يستطيع أن يقلل من دور الوازع الديني، وبناء محكمة الضمير، وتنمية مشاعر المودة والمحبة، وهذا واجب علماء الدين في كل عصر فهم المنارة الهادية للطريق المستقيم والمرشد المرجعي لأبنائنا في شرح الآداب الإسلامية والتربية الخلقية من خلال القدوة الحسنة وأعلاها رسولنا الكريم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).

أضف إلى ما سبق أنهم السد المنيع في مواجهة الأفكار المتطرفة والمنحرفة والسياج المنيع للحفاظ على قيم المجتمع وموروثه الثقافي، وصبغ المجتمع بصبغته الإسلامية ــ أما أجهزة الإعلام فعليها مسؤولية عظيمة مزدوجة، أولا: في تنقية موادها العلمية من أي نوع من الثقافة التحريضية أو التعصب الأعمى أو أي لون من ألوان المادة الإعلامية التي تساعد على انتشار الفجور والرذيلة، وثانيا: عليها بانتقاء موادها التي تحض على الفضيلة وتنمي الثقة في نفوس الأفراد ونشر القيم الإيجابية مثل الحض على العمل وإتقانه، والاعتزاز بفضيلة الانتماء إلى الوطن وبذل الغالي والرخيص في الدفاع عنه. وكل هذا يفضي إلى وحدة المجتمع وتماسكه.

وخلاصة القول أنه على كل فرد من أفراد المجتمع أن يقدم القدوة الصالحة والنموذج المثالي في موقعه وفي عمله، وكل منا يستشعر المسؤولية الكاملة ويقوم بالرسالة المنوطة به، وهكذا يظل الصراع بين الفضيلة والرذيلة والخير والشر، على أنه من المؤكد انتصار الحق والعدل والخير والسلام . (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).