أعمدة

نوافذ: الرقيم القياسي .. وعقلية الندرة

03 أبريل 2018
03 أبريل 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ندرك جميعنا أن المسألة العقلية (هذا عقله كبير؛ وهذا عقله صغير)، وإن تساوى الاثنان في العمر، والنشأة، وتجربة الحياة، تبقى هذه مسألة فطرية، ليس للإنسان فيها دور، ولذا لا يجب أن يستولي على أحدنا العجب، عندما نرى فردين من أسرة واحدة كلاهما مر بتجربة حياة تكاد تكون طبق الأصل بين أحضان أسرتهما، ومع ذلك فبينهما فروق كثيرة، تعكسها تصرفاتهما في الحياة العامة، وفي اكتسابهما للمعارف وخبرات الحياة، فذلك مرجعه إلى عدد من العوامل الذاتية لكل منهما، ويستحيل أصلا أن تتشابه سلوكيات الأفراد تشابها طبق الأصل، وإن احتوتهما تربية «مثالية» في كنف أسرتهما التي حاولت فيهم غرس القيم السلوكية والتربوية والمعرفية لفترة من الزمن عادة ما تصل إلى (18) عاما على أقل تقدير.

ولذلك يكون المجتمع ظالما بدرجة كبيرة عندما يطالب فردا ما من أفراد أسرة تفاوت فيها أبناؤها في حجم مكتسباتهم من الحياة، ومطالبته من الجميع أن يحققوا مكاسب «قياسية» بصورة متساوية انطلاقا إما من تاريخ الأسرة المنجز في مجالات الحياة المختلفة، وإما من أن أحد أفراد الأسرة، أو أكثر من واحد، يكون له موطئ قدم في الحياة العامة؛ لأن في ذلك تجاوزا لمنطق الأشياء، وقبول حقيقة الواقع الذي يتفاوت فيه الناس في المكتسب والسلوك، ولذلك فعندما تظهر الـ«وفرة» فإنها تظهر عند فرد دون آخر، والآخر تتوفر عنده في شأن آخر غير الذي عند الأول، ومن هنا يحدث التفاوت بين الناس.

الأرقام القياسية للمنجز تحتاج إلى كثير من المقومات، وأغلبها مقومات ذاتية، فقد يحمل أحد الأفراد أكبر الشهادات العلمية، وتتحقق عند آخر أكثر الخبرات الحياتية، وعند ثالث أكثر الفرص المتاحة، وعند رابع أكبر البيئات المحفزة للإنتاج، ومع ذلك لا تكون النتائج المتحصلة معبرة عن حقيقة هذه المناخات التي تتوفر للأول دون أن تتوفر للثاني؛ لأن هناك «ندرة» في أمر ما، إما ضعفا في الاستيعاب، وإما ضعفا في الإمكانيات والقدرات، وإما عدم اهتمام، أو عدم اكتراث، يظهره الفرد تجاه المسؤوليات الملقاة عليه، وتذهب كل الجهود المبذولة لتقويمه «أدراج الرياح»؛ لأنه يعاني من «ندرة» في إعطاء الاهتمام لما أوكل إليه من مسؤوليات. ولذلك فهذه النوعية من الأفراد عبثا تقويمهم وإصلاحهم، ومطالبتهم بالأرقام القياسية في الإنتاج؛ حيث يكون نوعا من الظلم، أو ضربا من الخيال، وليس المقصود بالإنتاج هنا هو الإنتاج المؤسسي فقط، وإنما أي منتج مطالب به الفرد في موقعه الذي يكون حتى ولو هو جالس في المنزل، فمجموعة الأفكار التي يتداولها مع أفراد أسرته هي إنتاج بلا منازع، وآراؤه وتعاطيه مع أفراد مجتمعه الذي يعيش فيه هو إنتاج كبير، ويقاس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة.

والقصة التراثية التي قرأناها كثيرا عن جحا، ووجوده بين مجموعة من الناس يتأهبون للذهاب إلى رحلة، واستعداد كل منهم للمساهمة في هذه الرحلة، وعندما نظروا إلى جحا لأنه لم يبادر بشيء، قال: «وعلي لعنة الله إن تركت صحبتكم» فيها شيء من البديهة في معالجة الموقف، وهذه البديهة هي أحد المكونات الشخصية المهمة في حياة الفرد، وتعتبر رقما قياسيا لا يخلو صاحبه من الـ«وفرة» في الذكاء والفطنة. ومن منطق الأشياء أيضا أنه ليس يسيرا أن يطالب الجميع بأن يحققوا أرقاما قياسية في أمر ما مشترك بين المجموعة الواحدة؛ لأنه قد تتحقق الـ«وفرة» لذات الأمر في شخص ما، أو مجموعة أشخاص، وتكون الـ«ندرة» عند آخرين، ويحدث العكس في شأن آخر من شؤون الحياة، وهذه من أجل حكم الله في خلقه، حيث يظل التكامل في أدوار الحياة قائما بين بني البشر، ويبقى فقط سوء التقدير من قبل البشر بعضهم لبعض، وسوء التقدير هذا يجر إلى كثير من المظالم بين الناس.