randa2
randa2
أعمدة

عطر : قرف التفاصيل

04 أبريل 2018
04 أبريل 2018

رندة صادق -

[email protected] -

من سرق لمعة العين وصفاء النظرة؟ من اختلس نبض الأمل في تفاصيل وجهها الصغير؟ من استولى على ابتسامتها النضرة واختزل لحن الحياة في حركتها؟ من خبأ الغد عنها حتى أضاعت قبلتها وجلست كصنم متقن الصنع بارد الملمس أزلي النظرة، جامد كأنه لحظة سقطت من الزمن وانتهت صلاحيتها؟. حين التقيتها تراقصت وتسابقت الأسئلة التي عاندتني ترغب أن أنطق بها لأعرف حالها واكتشف بفضول ملح ماذا فعلت الحياة بشبابها؟ ولعل السؤال الأكثر إلحاحا علي كان: كم تشبهني تلك الحالة التي بدت عليها تلك الفتاة؟.

من السهل دائما أن نجد سبلا للتواصل والتعمق في التعارف، لكن ليس من السهل أن نبلغ عمق الحوار لنتمكن من اكتشافهم، فهناك حواجز كثيرة علينا أن نزيلها لنصل إلى القلب، مفتاح العبور الآمن والسلام في أي تواصل، ولكن رغم الصعوبة الكبيرة قد تتكفل ابتسامة صادقة في تحطيم كل الحواجز لأنها تزرع الثقة وتقفز فوق التردد والخوف، وكأن هذه الابتسامة حملت لهفتي وقلقي عليها فبدأت هي بالكلام: العمر الصغير لا يعني فرحا أكيدا، وصمتت ظننا منها أنها أجابت على نظراتي التي سرّت لها بتساؤلاتي، ورغم قصر الجواب أدركت أن الأسوار سقطت واني قريبة جدا من نيل مبتغاي في اكتشاف من حول شابة صغيرة إلى صنم في مشهد مسرحي أقرب ما يكون إلى مشهد من كوميديا سوداء؟، يبدو أن روحها قررت التدفق كسيل ماء يسير بحرية في شقوق الأرض اليابسة ليروي جفافها: سيدتي أعاني من قرف التفاصيل الذي هو بالنسبة لي وبأي إنساني، حيث تستهلكني بروتينها وتكرارها هذا ما يجعلني أفقد وقودي، وأبحث عن طاقة بديلة لأشحن فيها آمالي وأحلامي، فالورد لو أدرك أن نهايته على يد من اعتنى به وسقاه وشذبه ليقطفه حين يزهر ويهديه لحبيب أو لمريض كان تخلى عن التربة ومات بلا ألوان أو عطر، ولكن تقاطعنا مع إرادات ترغب أن ننحني وننزوي أو أن نكون الشموع لدروبها المظلمة نحترق ببطء فنستسلم لأسرها، إنها التفاصيل اليومية والأحكام المسبقة، وصرير الأبواب المغلقة والنوافذ التي تقابلها أسوار بناها أناس مثلنا، يبدأون يومهم بأمل التغيير ويعيشون في حالة ترقب دائم لجديد يحمله الغيب، قد يمنحنا عدالة ما أو فرح ما، باختصار تعلمت، تخرجت وانتظر عملا وزوجا وحلما، أترقب المجهول الذي تحمله التفاصيل لغيري، أما أنا فعلي أن أجيب على نفس الأسئلة: توظفتِ؟ تزوجتِ؟ أحببتِ؟

أسكن الخيبات أو أصنعها هذا ما يحيرني، لقد بات هناك مفهوم آخر يتحدث عن التنصيب لا النصيب وعن الواسطة لا عن الكفاءة، وعن الدلع لا عن الوقار وعن الإغراء لا عن الحشمة، اختلطت علي المفاهيم والقيم، حتى سكنتني حالة القرف من التفاصيل التي سيطرت على يومياتي، وبهتت ابتسامتي وتصحرت أحلامي وغفت نظرتي على دمعة أكابر كي لا تسقط مني، أريد أن أخرج أنا وكل جيلي من عملية تضليل ثقافي حولت أمثالنا إلى أناس يقضون نهارهم في الدفاع عن أحلامهم وقناعاتهم ويناضلون، ولكن هل هناك حقا من يهتم؟.

صدمني فيضها الحزين وأدركت ان جيلي أيضا مثل جيلها، وقع في قرف التفاصيل التي أماتت أحلام الشباب فحاول دائما استبدالها بقناعات جديدة تتلاءم مع الواقع الذي يتغير بلا مقدمات، القتال من أجل البقاء أول هزيمة نعيها لأننا ندرك أننا لا يمكن أن نستسلم إلى استراحة حقيقة، إنها منظومة صنعناها بأنفسنا ومع هذا لا نتوقف عن لومها ونقدها، وفي جوهر الأمر هي وقفة تشريحية لا نصل فيها إلى أسباب موت الحياة في نظرة شابة.