أفكار وآراء

التمكين الإعـلامـي والتنمية الوطنية

01 أبريل 2018
01 أبريل 2018

أ.د. حسني نصر -

خطت سلطنة عمان طوال سنوات النهضة المباركة خطوات واسعة في التنمية الوطنية بجميع مساراتها البشرية والمادية، ونجحت في ظل قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- في تقديم نموذج تنموي متفرد استطاعت من خلاله تسخير كافة الإمكانات للوصول بثمار النهضة وعائدات التنمية إلى جميع قطاعات الشعب ومختلف المحافظات والولايات.

ومع استمرار وتواصل الجهود التنموية التي تقوم بها حكومة صاحب الجلالة، فان الأسئلة التي يجب أن نبدأ في البحث عن إجابات مبكرة لها هي: ماذا بعد التنمية وكيف يمكن ضمان استدامتها؟ في هذا الاطار يمكن القول إن العالم بمدارسه الفكرية المختلفة وصل إلى قناعة بأن التنمية وحدها لم تعد تكفي لتحقيق مجتمع الرفاه التي كانت كل خطط التنمية تستهدف الوصول له في دول العالم الثالث. وبلغ الأمر ببعض المفكرين إلى الادعاء بانتهاء نظريات التنمية، وضرورة البحث عن نظريات أخرى، تبنى على ما تحقق من نهضة، وتحافظ على استدامتها، وتصل بعائداتها إلى كل فئات المجتمع.

ولعل من أهم النظريات الجديدة التي ينبغي علينا التفكير فيها، ومن ثم السعي إلى تطبيقها في الواقع التنموي خاصة على الصعيد الإعلامي هي نظرية التمكين. والواقع أن المصطلح لا يبدو غريبا علينا فقد سمعنا منذ سنوات عن تمكين المرأة بمعنى منحها القدرة على الوصول إلى الوظائف العليا في الدولة والاستفادة من مختلف الموارد المتاحة في المجتمع. ومع ذلك فان الأمر يبدو اكبر من ذلك، إذ يمثل التمكين مرتكزا أساسيا في عملية التنمية، وتقوم فكرته الأساسية على حقيقة افتقاد القطاعات الدنيا في المجتمعات النامية للقوة السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمكنها من المشاركة بفعالية في التنمية الوطنية. ومن هنا ظهرت دعوات عالمية جديدة تسعى إلى تمكين هذه القطاعات من خلال منحهم القدرة على الوصول إلى موارد البلاد ومنها الموارد والثروات الإعلامية.

وتنطلق فكرة التمكين من حقيقة أن عمليات التنمية التي شهدتها دول العالم الثالث خضعت لسيطرة النخب الحضرية المسيطرة في العواصم والمدن الكبرى، إلى جانب وكالات التنمية الدولية. وبفضل هذه السيطرة أبقت مجموعات صغيرة من النخب الحضرية المتعلمة كثيرا من مصادر الثروة الاقتصادية والتعليمية والإعلامية بين أيديها. ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الأغلبية في معظم الدول النامية نقصا حادا ومزمنا في الخدمات الإعلامية.

وتستند نظرية التمكين إلى فرضية تطالب بإعادة تشكيل حقل الإعلام التنموي من خلال وضع موارده وخطابه وممارساته تحت تصرف جميع فئات المجتمع، وليس النخب فقط. ويرتبط بذلك تمكين جميع أفراد المجتمع من المشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية على جميع مستويات العمل الإعلامي، حتى يستطيع الناس التحكم في نتائج تلك القرارات، من منطلق أن التمكين يعني التأكد من أن الناس قادرون على مساعدة أنفسهم وأن عدم المساواة في القوة هي المشكلة المركزية التي يجب التركيز عليها في التنمية. فالتمكين في حقل الإعلام على سبيل المثال يركز على حق الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمع في التعبير عن نفسها وعن مصالحها، والتمتع بالثروة الاتصالية المتاحة.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كيف نوظف نظرية التمكين في مجال الإعلام، للانتقال من مرحلة الإعلام التنموي إلى مرحلة ما بعد الإعلام التنموي، أو إعلام التمكين، الذي يواكب في تقديري التطورات الكبيرة التي شهدها ويشهدها الإعلام العُماني بجميع وسائلة التقليدية والجديدة؟

الواقع أن هناك خمسة مستويات أساسية يمكن من خلالها تعزيز دور الإعلام في المجتمع العُماني الذي وصل لمعدلات عالية من التنمية تمكنه من النظر إلى ما هو أبعد من التنمية. المستوى الأول يتمثل في ضرورة أن تنطلق مبادرات التنمية الجديدة من المجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني، وليس فقط من جانب الحكومة التي سيكون عليها الحفاظ علي عائدات التنمية وضمان استدامتها. وهنا تعتقد نظرية التمكين أن اللاعب الرئيس في عملية التنمية هي منظمات المجتمع المدني المحلية التي من حقها أن تصنع نظامها الاتصالي والإعلامي الخاص والمستقل. وللاستفادة من طاقة التنمية التي تكون لدى أفراد تلك المنظمات فانه يجب السماح لها بتحديد برامجها الاتصالية والقضايا التي تتعامل معها وكيفية تنفيذها وتقييمها. والتعامل المثالي مع هذه المنظمات يتمثل في دعم مبادراتها التنموية ومساعدتها في أن تتحول إلى منظمات غير حكومية تدار من قبل المستفيدين منها وتخضع مع الوقت لسيطرة المجتمع المحلي ورقابة الحكومة. هذه المنظمات المحلية يجب أن تُمكن من الحصول على المعلومات التي تحتاجها، وان ترتبط بالوسائل الإعلامية التي يمكن أن تمدها بالمعلومات والمصادر التي تحتاج لها. وفي هذا الإطار فان خدمات هذه المنظمات تخضع للمحاسبة والتقويم في مقابل أن تحصل على اعتراف ودعم الحكومة والهيئات المعنية بالتنمية.

ويتمثل المستوى الثاني في تحويل البنية الاتصالية والإعلامية إلى بنية تشاركية، بمعنى تطوير نظام اتصالي وإعلامي يقوم على تشجيع إنشاء وسائل الإعلام الصغيرة التي يتم التحكم فيها وإدارتها من جانب المجتمعات المحلية والمنظمات الاجتماعية. ويتيح هذا النظام لهذه المنظمات تطوير هويتها وفلسفتها واختيار المعلومات المهمة لها وتقديم صورة إيجابية عنها في المجتمع. ويمكن لهذه المنظمات تقديم وسائل إعلام خاصة بها وهو ما يمنحها القدرة على التأثير في سياسات وسائل الإعلام الوطنية الأكبر. وفي المستوى الثالث ينبغي التركيز على مبدأ الاعتماد على الذات. ويعني هذا إنهاء علاقة التبعية بمقدمي موارد التنمية، خاصة إنهاء الاعتماد في التخطيط والإرشاد على الحكومة أو الشركاء الأكثر قوة، وذلك من خلال التركيز على تحديد احتياجاتها الأساسية وتدبير هذه الاحتياجات بقدر الإمكان من مصادرها الذاتية المستدامة. وعلى هذا فان الحصول على مساعدة من الخارج يجب أن تكون في أضيق الحدود، وأن تمثل إضافة لما لدى المنظمة.

ويتمثل المستوى الرابع في تحقيق اللامركزية، التي تعني ألا تكون الدولة مرهونة دائما بمركز حضري كبير، ولكن بعدد من المراكز المحلية والإقليمية. وفي هذا الإطار فان الحكومات المحلية أو وحدات الإدارة المحلية يجب أن تُمنح قدرا كبيرا من الاستقلال والمسؤولية وهو ما يؤدي إلى ثراء وسائل الإعلام الإقليمية، ويخفض بالتالي سيطرة النخب القومية على عمليات التنمية، ويحد من تركيز الثروة والسلطة في العواصم والمدن الكبرى. أما المستوى الخامس والأخير من مستويات التمكين فيركز على تعدد نماذج التنمية التي تقوم على المبادرات المحلية والاعتماد على الذات، بما يعني أن كل وحدة في وحدات التنمية سوف يكون لها نموذجها الخاص في التنمية، وبالتالي تتعدد مسارات التنمية في المجتمع.

لقد أصبح واضحا أن نجاح واستدامة التنمية الوطنية تبدأ من الفرد، وعلى هذا الأساس فإن التشاركية في الثروة الإعلامية المتاحة وإدماج الفئات المهمشة في برامج التنمية الإعلامية يصبح أمرا ضروريا لنجاح برامج التنمية الوطنية عبر سياسات واضحة لتمكين الأفراد ومنظمات المجتمع المحلي من الوصول إلى مبتغاها واستخدام كل وسائل الإعلام المتاحة.