أفكار وآراء

فوز بوتين... التبعات والاستحقاقات

30 مارس 2018
30 مارس 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ها قد فعلها فلاديمير بوتين لفوزه بفترة رئاسية جديدة لروسيا ، العائدة من جديد إلى الملعب العالمي لتنهي بذلك آمال وأحلام الولايات المتحدة الأمريكية في أن تبقى القطب الوحيد المهيمن على مقدرات العالم.

على أن هذا الفوز يستدعى الكثير من الأسئلة وفي مقدمها كيف فعلها بوتين؟ وكيف قدر له أن يفوز بولاية رابعة؟ وهل الأمر مرده إلى خصائص بوتين نفسه أم إلى عوامل أخرى دفعت الروس لزخمه ورفعه مرة جديدة ووضعه على كرسيه في الكرملين .

بداية لكل من قرأ السيرة الذاتية لرجل الكرملين الأشهر يدرك انه لم يكن هناك في موسكو من يعرف بوجود مشروع زعيم اسمه «فلاديمير بوتين»، بل لم يكن ثمة من يتوقع أن يصل هذا الشاب المتوسط القامة، النحيف الجسد الصموت الغامض صاحب الوجه جامد القسمات، إلى قيادة الكرملين .

حتى فلاديمير بوتين نفسه لم يكن يحلم بما وصل إليه، وهو الذي اعترف بان أقصى أحلامه لم يكن يتعدى الالتحاق بجهاز الكي جي بي بعد أفكار راودته حول الالتحاق بكلية الطيران المدني.

لكن القدر شاء أن يكون بوتين المنقذ والمخلص للروس مما لحق بهم خلال رئاسة جورباتشوف ويلتسين وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق . لكن فات الأوربيين والأمريكيين بنفس القدر أن هناك ما لا قبل لهم به، إرادة الشعب الروسي نفسه، تلك التي لم تقهرها جحافل نابليون، ولا استطاعت جيوش هتلر أن تفت في عضدها.

بعد الفوز الكبير الذي أحرزه بوتين في الانتخابات الرئاسية مؤخراً تساءل البعض هل فاز بوتين بالرئاسة الرابعة بعدما أدرك الروس أن هناك مؤامرة جديدة تستهدف صحوتهم وعودتهم إلى آفاق الحياة السياسية الدولية؟

قبل الجواب وفي اختصار غير مخل يمكننا أن نشير إلى أن إنجازات بوتين تتحدث عن نفسها، فمن دولة مفككة الأوصال استطاع تجميع أجزاء نسيجها الاجتماعي سواء تعلق الأمر بالروس أو بعدد آخر من القوميات التي تعيش في فلك روسيا الاتحادية، وربما كان هذا هو الإنجاز الأهم . حين تسلم بوتين عام 2000 رئاسة الدولة كان الاقتصاد الروسي في أسفل القاع، والتضخم في أعلى درجاته، والوظائف غائبة، واليوم يشهد اقتصاد روسيا نهضة قوية، رغم انخفاض أسعار النفط.

أما عن النهضة بل المعجزة العسكرية الروسية فحدث ولا حرج وقد كان «خطاب الأمة» في الأول من مارس الجاري دليلا على الدرجة التي بلغتها الصناعات العسكرية الروسية من تقدم مخيف للأمريكيين.

ماذا أيضا عن إنجازات بوتين؟

لا يمكن للمتابع المحقق والمدقق للشأن الروسي أن يغفل المبادأة السياسية بل والعسكرية للرجل، بمعنى أنه أضحى يلعب دور الفاعل في الساحة الدولية، والدليل على صدقية هذا الحديث ما جرى في سوريا عبر السنوات المنصرمة، فقد أدرك الرجل أن هناك مؤامرة كبرى لتصعيد الأصوليات القاتلة إلى عنان السماء في العالم العربي، ولاحقا ابتعاثها لتكون أداة سيئة لتخريب المقدرات الروسية ولهذا بادر بالمجيء إلى سوريا لكي يلاقي الدواعش والقاعدة والجهاديين وبقية علامات الشر في أماكن تموضعهم وقبل أن يتسببوا بالفعل في إلحاق الأذى بالامبراطورية الروسية الوليدة من جديد.

على أن بعض المتغيرات وتتعلق بالسؤال الذي توقفنا من حوله، فقد كانت سببا مباشرا في فوز بوتين هذه المرة، ومنها الحملة الضارية التي تشنها بريطانيا ضد روسيا، واتهامها لبوتين ونظامه بانهما كانا وراء تسميم «سكريبال» الجاسوس الروسي السابق وابنته بغاز الأعصاب في العاصمة البريطانية لندن.

في تصريح مثير له يقول «أندريه كوندراشوف» المتحدث باسم حملة بوتين: «تعرضنا للضغوط في اللحظة عينها التي كنا بحاجة فيها لحشد المصوتين، وكلما اتهمت روسيا بشيء عشوائيا ودون أي دليل، اتحد الشعب الروسي حول مركز السلطة، ومركز السلطة بالتأكيد بوتين».

والمؤكد أن فوز بوتين بولاية رابعة قد أثار مخاوف عند الأوربيين والأمريكيين معا لجهة البقاء في السلطة إلى الأبد، وهي في غالب الأمر تهويمات دعائية غربية بأكثر منها حقائق، سيما وأن بوتين لم يخرق الدستور الروسي الذي ينص على فترتين رئاسيتين متتاليتين فقط، فبعد انتهاء فترتيه الأولى والثانية تبادل الأدوار مع رئيس وزرائه «ميدفيديف»، ولا يتوقع أن يفعلها تاليا ذلك لأنه يبلغ الآن من العمر 65 عاما، ومعنى ذلك انه حين ينهي ولايته الرابعة سيكون قد تجاوز الحادية والسبعين ليضحى بذلك ثاني أطول حاكم روسي عمرا بعد جوزيف ستالين.... مما يخاف الغرب بالفعل من بوتين؟ هل من صواريخه فوق الصوتية أم من استنهاض قوة الشعب الروسي؟ وإذا لم يكن من صحوة روسيا بد، فأيهما أهم أو أفعل محاربة الحقائق أم التعامل معها؟

الشاهد أننا لا يمكن ان نقدم جوابا عقلانيا من دون أن نعيد تحليل خطاب النصر الذي ألقاه بوتين بعد فوزه الأخير وفيه قال: «من المهم جداً أن نحافظ على وحدة شعبنا، وأن نفكر في مستقبل وطننا العظيم»، ومن بعدها رددت الجماهير خلفه هتاف «روسيا... روسيا»، وان أبلغ أنصاره بعد ذلك انه يتوقع أوقاتا صعبة لكن روسيا وعلى حد قوله كذلك لديها فرصة لتحقيق انفراجة... ما الذي يعنيه بوتين بهذا التحذير؟

تلقى تصريحات «بوتين» بظلالها على العلاقات الأمريكية – الروسية بنوع خاص، والأمر يتجاوز حدود وإمكانات الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» والذي دلف إلى البيت الأبيض وفي معيته مشروعاً إيديولوجيا للتصالح والتسامح مع روسيا وبداية صفحة جديدة في العلاقات مع موسكو.

غير أن هذا الطرح قوبل برفض شامل وكامل من الفعلة الحقيقيين في الجانب الأمريكي، وبنوع خاص من قبل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي أولئك الذين لهم مصلحة كبرى في أن تبقى المواجهات قائمة صباح مساء مع روسيا، الأمر الذي يحقق لهم أكبر قدر من الأرباح عبر دوران عجلة الصناعات الحربية.

في هذا السياق لابد لنا من مساءلة بوتين وهل ينوي المضي قدما في سباق تسلح مهلك من جديد؟

المؤكد وغير المشكوك فيه أن بوتين الرئيس القادم من عالم الاستخبارات، يختلف كثيراً جداً في دهائه وقدرته على المناورة مع الغرب لاسيما واشنطن عن القيادات السياسية السابقة للاتحاد السوفيتي تلك التي تكلست في مواقعها.

بوتين وفي اليوم التالي لفوزه كان يجتمع مع منافسيه، عطفا على بقية أركان الدولة الروسية محدثا إياهم بانه لن ينجر في سباق تسلح يستنزف قدرات بلاده، مثل ذلك الذي عاشته الامبراطورية السوفيتية، بل سيهتم بمجالات حيوية تهم المواطن الروسي وفي مقدمتها الصحة والتعليم والقضايا الاجتماعية وكل ما من شأنه تحسين أحوال المواطن الروسي.

لكن هل يعني ذلك انه سيهمل مسألة التسلح والاستعداد الدائم والمستمر لمواجهة برامج الولايات المتحدة العسكرية التي تعد خصيصا له؟

في الثالث عشر من مارس الجاري وخلال خطابة أمام مشاة البحرية في قاعدة ميرامار الجوية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية تحدث الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» عن إمكانية إنشاء قوات فضاء في أمريكا، ويبدو أن الرجل كان يبعث برسالة إلى الروس سيما وان أمريكا تقوم بالفعل بتطوير منظومات فضائية هجومية ودفاعية، ففي نوفمبر 2017 صرح قائد قيادة القوات الجوية الأمريكية الجنرال «جون ريموند» لوسائل إعلام أمريكية بان سلاح الجو الأمريكي سوف يحصل بحلول العالم 2030 على أسطول فضاء لتحديد التهديدات المحتملة وردعها، وإذا لزم الأمر سيتم تعطيل أجهزة العدو الفضائية... هل كان مثل هذا التصريح بمثابة فخ لبوتين؟

من الواضح أن المؤسسة العسكرية الروسية تعمل مؤخراً على الكيف وليس الكم، وقد قدم نموذجا لصاروخ لا يصد ولا يرد من دفاعات الناتو «سارامات» ويزن 200 طن ويستطيع حمل عشرة رؤوس نووية، وسرعته تفوق سرعة الصوت، بالإضافة إلى كذلك كشف بوتين عن تطوير ناجح للمركبات الغواصة غير المأهولة، التي يمكن أن تتحرك في أعماق البحار بين القارات بسرعة أكبر بعدة مرات من سرعة الغواصات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك كشف بوتين النقاب عن نظامي «الخنجر» و«أفانغارد» الروسيين، وكما وصفهما بوتين فهما نظامان صاروخيان بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهما الوحيدان من نوعهما في العالم. مرة أخرى يكاد المرء يقطع بان العالم دخل في حيز ما بعد الحرب البادرة الجديدة، لكن ماذا عن الأوربيين؟

يمكن القول أن جلهم لاسيما الألمان يرفضون العقوبات الأمريكية على روسيا، والكثير من الأصوات هناك تميل إلى ترجيح فكرة التعاون مع روسيا على معاداتها، ومن قبل طرح الروس فكرة «أوراسيا» بمعني التعاون البناء بين روسيا من جهة وبين القارة الأوروبية من جهة ثانية في إحياء لفكرة تحدث عنها قبل نصف قرن تقريبا الزعيم الفرنسي الشهير الجنرال «شارل ديجول، تتطلع للوصل بين المحيط الأطلسي في الجانب الأوروبي، وجبال الأورال في روسيا.

غير أن الأوربيين في واقع الأمر غير قادرين على اتخاذ أي قرار بشكل منفصل طالما ظلت اليد العليا في الناتو للولايات المتحدة الأمريكية، وان كان «ترامب» عبر رؤيته للناتو ودور أوروبا فيه، يكاد يدفع الأوربيين إلى الأمام جهة بوتين، ليبقى الأوربيون ما بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي. من المذنب في المشهد الدولي، ومن يدفع إلى مزيد من تأزم المشهد العسكري الذي يكاد يقود إلى مواجهة مسلحة الروس أم الناتو؟

لنترك الإجابة للقارئ.... فقط نذكره بأن الروس أخبروا الأمريكيين والأوروبيين مرارا وتكرارا انهم سيبذلون الجهود اللازمة لتفادي التهديدات التي يشكلها نشر الدفاعات الصاروخية الأمريكية على الحدود الروسية.

ومنذ العام 2004 كانت روسيا تنذر وتحذر بان نشر تلك الصواريخ أمر يعد مهددا حقيقيا لوجودها لكن أحدا لم يستمع، ورغم كافة إشكالات روسيا المالية إلا أنها حافظت على قوتها النووية، والآن تخرج على الأوروبيين وعلى الأمريكيين بأسلحة شديدة التطور .

هل فوز بوتين يشعل المواجهة مع الناتو؟

يحتاج الأمر إلى حكمة عالية من قبل القائمين على حلف الأطلسي لتجنب الصراع الدامي الذي يمكن ان تولده أي مواجهة مع الروس، مع الأخذ في الاعتبار ان فوز بوتين سيجدد نهضة روسيا بشكل غير مسبوق خلال الأعوام الستة المقبلة.