1291690
1291690
تقارير

من هم الفائزون ومن الخاسرون في الثورة الخضراء؟

29 مارس 2018
29 مارس 2018

الجغرافية السياسية للطاقة وتحولاتها في العالم -

هنري تريكس- الإيكونومست -

ترجمة: قاسم مكي -

لكي تصل إلى تافت على بعد ساعتين من لوس أنجلوس ستقود سيارتك على طريق “بتروليوم هاي واي” وتمر بأميال من اللوحات التي تروج للمسيحية. فبلد أتباع ديانة عيسى هي أيضا بلد النفط. إذ تنتشر آلاف من المضخات الرافعة للنفط من جوف الأرض على التلال المكسوة بنبات الميرمية حول البلدة. وتبدو هذه المضخات مثل قطيع من الديناصورات. وفي الحقيقة يصف بعض أهل ولاية كاليفورنيا صناعة النفط بذات الطريقة (أي بأنها صناعة ديناصورية) إن النفط الذي ينتج في تافت لا يستخرج بتقنية التكسير المائي. فأكثر النفط الذي ينتج بهذه الطريقة يوجد في ولايتي تكساس وداكوتا الشمالية. إنه نفط ثقيل يحتاج استخراجه إلى التبخير في عملية يطلق عليها محليا “هف آند بف.” لكن مقاطعة كيرن في ولاية كاليفورنيا والتي تقع بلدة تافت عند طرفها الغربي تنتج 144 مليون برميل من النفط في العام. وهذا ثاني أعلى إنتاج في أية مقاطعة من المقاطعات الأمريكية. يقول فريد هولمز الذي ينتمي إلى الجيل الثالث من رجال النفط ومدير متحف ويست كيرن للنفط إنه فخور بهذا التراث النفطي بصرف النظر عما يشعر به سائقو سيارات تيسلا الكهربائية في الولاية الذهبية (كاليفورنيا) من ضيق بسبب ضخامة المواد الكربونية التي تحتويها في جوفها. يقول هولمز مازحا إن “ النفط طاقة متجددة أيضا. لكنه فقط يستغرق وقتا أطول لكي يتجدد.” بنى هولمز منصة نفطية في المتحف احتفاء بالسائل الأسود. لقد كان النفط في أيام عنفوانه يحظى بقيمة كبيرة في جنوب كاليفورنيا. وتحول التسرب الانفجاري للنفط من بئر “ليك فيو” قرب تافت عام 1910 إلى رمز لحقبة من الازدهار، تماما كما كانت هي الحال مع حقبة البحث المحموم عن الذهب إلى الشمال منها.

تافت والجغرافيا السياسية للطاقة

كذلك لعبت تافت أيضا دورا نجوميا مبكرا في الجغرافيا السياسية للطاقة. (الجغرافيا السياسية للطاقة أو جيوبوليتيكا الطاقة تعني أثر الموقع الجغرافي لموارد الطاقة على سياسة الدول المنتجة والمستهلكة لها. ومدار هذا الأثر هو الاعتماد المتبادل بين المنتجين “للموارد” والمستهلكين “المحتاجين إلى الطاقة.” لذلك شكل تهديد الإمدادات مصدر قلق للمستهلكين أكثر مما شكلته الأسعار- المترجم) ففي عام 1910 دشن سلاح البحرية الأمريكية، الذي كان يخشى من الاعتماد على إمدادات الفحم غير المضمونة، أول مدمرة يدور محركها بحرق النفط. وبعد عامين لاحقا أوجد الرئيس الأمريكي وقتها ويليام تافت أول احتياطي لنفط البحرية في تلال إيلك هيلز في تافت بهدف تأمين إمدادات النفط عند حلول أزمة عالمية. ثم أنتجت تافت نفطها الخاص بها في الحرب العالمية الثانية حين تسارعت وتيرة الإنتاج. ومنح الرئيس الأمريكي تافت اسما أفضل لبلدة “تافت” التي كان يطلق عليها سابقا اسم “مورون.” منذ ذلك التاريخ تعلقت الجغرافيا السياسية للطاقة في الغالب باشتداد (حاجة) العالم للنفط. فجهود تأمين هذه الموارد وحماية شحناتها وإذا امكن منع الأعداء من الحصول أوالسيطرة عليها واحتكارها شكلت وجودا طاغيا في تاريخ القرن العشرين. وبما أن النفط والغاز موردان ناضبان وغير متوافرين في كل مكان فغالبا ما كان يتم محاصصتهما (تقنين إنتاجهما) لفائدة مجموعة صغيرة من بضعة منتجين تحتكر السوق. وشعرت البلدان المستهلكة منذ فترة طويلة أن ندرة النفط تجعلها في موقف أكثر هشاشة. وذلك هو السبب في أن كل رئيس أمريكي منذ المقاطعة النفطية العربية في عام 1973 اعتبر اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد ضعفا. واستهدفت سياسات من شاكلة “مبدأ كارتر” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي في عام 1980 مؤكدا به على “ حق الولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط” ضمان استقرار إمدادات النفط.

نهاية ندرة النفط

والآن تصل فكرة ندرة النفط إلى نهايتها بفضل ثلاثة تطورات كبيرة. أولها، ثورة النفط والغاز الصخريين بالولايات المتحدة والتي حولتها إلى أكبر منتج في العالم للنفط والغاز معا. فبعد عقود من تدهور الإنتاج منذ أعوام السبعينات تنتج أمريكا الآن نفطا أكثر من أي وقت مضى بلغ 10 ملايين برميل في اليوم في نوفمبر الماضي. يجعلها هذا الإنتاج أقل اعتمادا على النفط المستورد مما ساعدها على التخلص من رُهَابِهَا (خوفها المرضي) القديم من اعتمادها على الواردات النفطية. ويمكن أن يقلل هذا المستوى من الإنتاج من حاجتها إلى “خسارة أرواح وأموال” لحماية طرق الإمداد من الشرق الأوسط. كما أضاف وفرة من النفط والغاز إلى أسواق العالم أفادت مستهلكي النفط في كل مكان. التغيير الثاني الكبير يحدث في الصين التي تحاول الانتقال من الاقتصاد الذي يرتكز على استخدام كثيف للطاقة إلى اقتصاد أكثر اعتمادا على الخدمات. فدون خنق نموها الاقتصادي، حققت الصين في السنوات القليلة الماضية تقدما مذهلا في التقليل من طلبها على الفحم والنفط وإبطاء وتيرة الارتفاع في استهلاك الكهرباء وإشاعة استخدام الغاز وموارد الطاقة المتجددة ووقف النمو في معدل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الهواء. نعم تظل الصين أكبر مستورد للوقود الأحفوري. لكن تجربتها مع الهواء القذر وقلقها من فرط الاعتماد على النفط المستورد جعلاها حريصة على حصاد المزيد من طاقة رياحها وضوء شمسها. كما تملك الصين أيضا الخطط الأكثر طموحا في العالم لصناعة السيارات الكهربائية. ولعبت الدعومات المالية والقرارات الإملائية (من سلطة الحكومة) في قطاع الطاقة دورا كبيرا في هذا الصدد. لكن التحول الذي تشهده استخدامات الطاقة في الصين يبدو في حد ذاته لافتا بذات القدر الذي يبدو عليه التحول المناظر له في الولايات المتحدة. ويتداخل هذان التطوران مع التطور الثالث. وهو اتجاه أطول أمد يتمثل في الحاجة إلى إيجاد نظام طاقة تنخفض فيه انبعاثات الكربون من أجل مكافحة التغير المناخي. وعلى الرغم من أن اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015 تشكل معلما بارزا إلا أنها تترك مسافة ضخمة ينبغي قطعها قبل التمكن من وقف الاحترار المناخي للكوكب. ولتحقيق ذلك سيلزم استثمار تريليونات الدولارات في طاقة الرياح وأشعة الشمس والبطاريات وشبكات الكهرباء وسلسلة من موارد الطاقة النظيفة التي لا تزال في مرحلة مبكرة من الاختبار والتجريب. لقد أطلق ما يسمى “تحول الطاقة” سباقا عالميا لاقتناء أفضل التقنيات وأثار مخاوف حول القدرة على الحصول على المعادن النادرة التي تَمَسُّ الحاجة إليها لصناعة المعدات الضرورية (لتوليد الطاقة من الموارد المتجددة.) وكما أوضح فرانسيس أوسوليفان، أحد طارحي مبادرة الطاقة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فنحن “ ننتقل من عالم يموضع قيمة الطاقة في المورد إلى عالم تكون فيه التقنية هي المورد.”

ديمقراطية الطاقة

أتاحت الأعوام القليلة الماضية التي شهدت تزايد اعتماد الولايات المتحدة على نفسها في مجال الوقود الأحفوري وكبح الصين جماح استهلاكها النفطي إلقاء نظرة خاطفة على النتائج التي يمكن أن تترتب عن نظام جديد للطاقة على السياسة الخارجية. فالبعض يعتبر هذا النظام الجديد كسبا غير مرتقب (ثروة مفاجئة.) وهذا عنوان كتاب صدر حديثا من تأليف ميجان أوسوليفان، مديرة مشروع الجغرافية السياسية للطاقة بجامعة هارفارد. تقول أوسوليفان: إن ثورة النفط ساهمت في التلطيف من حدة التنبؤات بأفول شمس أمريكا ويسَّرت فرض العقوبات على الخصوم وساعدت على إيجاد سوق عالمية للغاز مما سيخفف من قبضة روسيا الخانقة على أوكرانيا. كما أنها قلصت من التوترات حول مساعي الصين لبسط سيطرتها على موارد الطاقة. واعتبرت أوسوليفان ذلك “ نعمة” لأمريكا “ونقمة” لروسيا. ربما هذا القول إفراط في التفاؤل. فروسيا وتكتل أوبك النفطي كانا ناجحين على نحو لافت في خفض الإنتاج في مواجهة تخمة النفط الصخري، كما اتجها (روسيا وأوبك) نحو الصين التي تضخ الأموال في البنى الأساسية للطاقة. والأهم أن إنتاج النفط الصخري يخاطر بتعزيز الاعتماد على النفط في الاقتصاد العالمي مع ما يترتب على ذلك من خطورة محتملة على المناخ. وإذا بالغت أمريكا في التركيز على إنتاج الوقود الأحفوري فقد تنسى الحاجة إلى تطوير طاقةٍ أنظف في المستقبل. وستكون النتائج التي تتعلق بالجغرافيا السياسية للتحول الأوسع نطاقا في مجال الطاقة أكثر تعقيدا. وحين تم تدشين اللجنة الدولية لدراسة الجغرافية السياسية للطاقة النظيفة في يناير تحت رعاية الوكالة الدولية للطاقة المتجددة ومقرها أبوظبي كان الأمل الضمني هو أن يجعل مثل هذا التطور العالم “أكثر سلما .... وضجرا.” فأنصار الطاقة النظيفة يعتقدون أن الضجر (انعدام القلاقل المتعلقة بموارد الطاقة) شيء طيب. وبعكس المواد الهيدروكربونية من المحتمل أن تتوافر الطاقة المتجددة في كل مكان تقريبا. ويمكن أن تقود جهود التعاون لوقف الاحترار إلى فتح المجال للكل لتطوير موارد الطاقة واقتسام التقنية. وقد تصبح الأقاليم أكثر اكتفاء ذاتيا بالطاقة مع تبعثر أماكن توليد الكهرباء (تشمل الأمثلة في هذا الخصوص ألمانيا والصين وكاليفورنيا.) لقد اطلق على هذه العملية وصف “ديمقراطية الطاقة.” وفي إفريقيا وسواها يمكن أن يقلل تعزيز الحصول على الطاقة عبر شبكات الكهرباء الصغيرة وألواح الخلايا الشمسية المنصوبة على أسطح البيوت من “ فقر الطاقة” مع انفجار أعداد السكان في العالم. ويشير ديفيد كريكيمانز من جامعة أنتويرب إلى أن تحولات الطاقة (مثل الانتقال إلى الفحم ثم لاحقا إلى النفط) غيرت العالم بداية بحقبة الثورة الصناعية. ويمكن أن تكون لهذا التحول الأخير آثار بعيدة المدى. “فالدولة الوطنية والإمداد المركزي للطاقة أمران متلازمان. إذ يحتاج كل منهما إلى الآخر،” حسبما يرى كريكيمانز. وهو يتوقع أن تعزز “لامركزية “ الطاقة نفوذَ الأقاليم مقارنة بالسلطات المركزية. والشيء الجميل في تحول الطاقة كما يقول أنصار أنها ستمنح المجتمعات المحلية بدلا عن الدول“نفوذا عظيما “ في السيطرة على مواردها من الطاقة. رغم ذلك ينطوي هذا التحول على إمكانية كبيرة في تسبيب احتكاك جيوسياسي. وأوضح مثال لذلك التحدي الذي ستشكله للاقتصادات التي تعتمد على النفط.

الخاسرون

يرى كتاب جديد بعنوان (الجغرافيا السياسية للموارد المتجددة) من تحرير دانييل شولتِن بجامعة دلفت للتكنولوجيا بهولندة أن الخاسرين سيكونون أولئك الذين حُظُوا باحتياطيات وفيرة من مصادر الوقود الأحفوري ومن يراهنون على النفط لفترة أطول مما يجب دون إجراء إصلاحات في اقتصاداتهم. وفي حين تمثل الندرة القيد الرئيسي في النظام التقليدي للطاقة إلا أنه، كما ينوه الكتاب، مع وفرة الموارد المتجددة سيتمثل في عدم انتظام (تذبذب) الإمداد الكهربائي. ويمكن التلطيف من هذه المشكلة بتجارة الطاقة (الكهرباء) العابرة للحدود. ولكن هذا أيضا يمكن أن يثير مناكفات. ومع تزايد “ كهربة” الاقتصاد بالشبكات الفائقة (شبكات نقل الكهرباء بأحجام كبيرة عبر مسافات بعيدة- المترجم) لمقابلة تزايد الطلب على الكهرباء بسبب تمدد المدن والسيارات الكهربائية وضخامة البيانات التي لا حصر لها يمكن للمخاطر أن تتضاعف. وربما تحل “سياسة” شبكات الكهرباء محل “سياسة” خطوط أنابيب النفط والغاز. فالمخربون الأوكرانيون مثلا ردوا على ضم روسيا لشبه جزيرة للقرم بقطع إمداد الكهرباء منها في عام 2015. كما يخضع أيضا للمراقبة الاستثمارُ الصيني في شبكات الكهرباء في أوروبا لأسباب تتعلق بالأمن الوطني. وكلما تزايدت كهربة الاقتصادات كلما صارت أكثر عرضة لمخاطر الهجمات الإلكترونية.

أداة الطاقة الجديدة

يبدو حتميا أن الجغرافيا السياسية للطاقة ستتطور إلى منافسة لتحديد أي بلد يمكن أن ينتج أكبر قدر من الطاقة الخاصة به وأي بلدٍ لديه أفضل تقنية. يوضح ذلك ميغيل آرياس كانيتي، مفوض الاتحاد الأوروبي للمناخ والطاقة بقوله” نحن في مسار لا رجعة عنه نحو الطاقة المتجددة. وأولئك الذين لا يتبَنُّون التحول إلى الطاقة النظيفة سيكونون الخاسرين في المستقبل. ” لقد وضع الاتحاد الأوروبي لنفسه هدفا واضحا للتخلص من “ انبعاثات الكربون” في كل قطاع الطاقة بحلول عام 2050. وأعد هياكل السوق المناسبة لذلك. وهذا ما يجعله في موقف قوي. كما أن الصين أيضا ملتزمة بالطاقة النظيفة وتُباهِي ببعض من روادها الذين يثيرون الإعجاب في مجال التقنية الرفيعة. وأمريكا بدورها اخترعت الكثير من تقنيات العالم في مجال الطاقة النظيفة. وفتحت ثورة الغاز الصخري الباب أمام إمكانية الحصول على إمدادات ضخمة من الغاز الطبيعي الذي يمكنه توليد الكهرباء بطريقة أنظف كثيرا من الفحم والتحول إلى جسر المستقبل أقل كربونا. لكن الولايات المتحدة تخاطر بفقدان القدرة على التركيز. فهي منقسمة بين أنصار الوقود الأحفوري ومعظمهم من الجمهوريين وأنصار الطاقة النظيفة وأغلبهم من الديمقراطيين. وهؤلاء وأولئك لا يمكنهم الاتفاق على أفضل السبل للتقدم إلى الأمام في مجالي الاقتصاد والمناخ.