الملف السياسي

اختراق سياسي للأزمة.. أم مناورة كورية؟

26 مارس 2018
26 مارس 2018

د.صلاح أبونار -

في الثامن من مارس وفي أعقاب اجتماع مع ترامب، صرح شونج أيوي يونج مستشار الأمن القومي لكوريا الجنوبية، أنه حمل إلى الرئيس الأمريكي دعوة بيونج يانج لاجتماع قمة لبحث نزع أسلحة الدمار الشامل في شبه الجزيرة الكورية، وأن الرئيس قبل الاجتماع على أن يعقد في مايو القادم. وفي مساء اليوم نفسه أعلن ترامب موافقته على الدعوة.

وقع خبر قمة مايو المرتقبة وقع الصاعقة. وجاء هذا التأثير بفعل عدة عوامل: أولها السياق السياسي للفترة الممتدة من مارس 2017، الذي كان ملبدا بغيوم الحرب، تارة عبر الحديث عن التهديد النووي الكوري وإمكانية وصوله إلى الولايات المتحدة، وتارة عبر تقارير عن معلومات جديدة منسوبة لمصادر أمنية، تشير لتطور متسارع وخطير للقدرات النووية الكورية خلال العام الأخير تخطى التوقعات القديمة، وتارة عبر الحديث المكثف عن ضرورة الحرب على كوريا استباقا للخطر، والتطرق إلى مشاكل الحرب المحتملة مثل مستوى القوات الكورية التقليدية، ومدى قدرتها على النجاة من الضربة الأولى، وإمكانية الهجوم على كوريا اعتمادا على القوات البحرية. وثانيها القبول الأمريكي الفوري للعرض الكوري، والذي بدونه لم يكن العرض سيحظى باهتمام يذكر. وثالثها دور كوريا الجنوبية الحليف الوثيق لأمريكا في العرض، الذي أضفى عليه درجة من المصداقية، ودمجة في سياق تقارب استثنائي بين الكوريتين.

وبمجرد الإعلان انطلقت التحليلات. في اتجاه أول رأى فريق من المحللين أن قرار بيونج يانج ينطلق من موقع الضعف. وفي معرض تحليلهم لهذا الضعف أوردوا عدة عوامل: أبرزها تداعيات قرارات العقوبات الاقتصادية، التي قلصت واردات النفط وخفضت من رصيد العملة الأجنبية. ويلي ذلك شعور بيونج يانج بتزايد عزلتها السياسية، مع تصاعد الرفض الدولي والإقليمي. ويضاف إلى ذلك شعورها أنها تتعامل مع رئيس أمريكي جديد، تسيطر عليه نزعه قومية، ويناهض أسس نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويختلف عن السابقين الذين خبرتهم، ويصعب التنبؤ بتصرفاته، ويميل لسياسات التدخل العسكري كما في الشرق الأوسط، وينشئ الأزمات مع أقرب الحلفاء. وكل ذلك يجعلها لا تستبعد احتمال المغامرة العسكرية، على ما فيها من مخاطر جسيمة. ويضيفون حالة الإرهاق الاقتصادي، الناتجة عن كثافة الإنفاق النووي، والدافعة للتخفيف من ثقل هذا الإنفاق. إلا أن هذا الطرح لا يرى ان الشعور بالضعف يترتب علية آليا الرغبة في الاستسلام. بل الأقرب للمنطق توليده للرغبة في تقليص الضغط الاقتصادي، والتهدئة السياسية لفترة والدخول في مساومة تتيح الاحتفاظ بالجزء الأساسي من الترسانة النووية في إطار ضمانات أمن متبادلة. ولكنهم يرون أن الحصيلة النهائية للمفاوضات في حالة انطلاقها، تتوقف على شروط واشنطن وقدرتها على توجيهها، وليس مجرد دوافع بيونج يانج الدفينة.

وبالتناقض مع ما سبق طرح اتجاه ثان، أن قرار بيونج يانج قد انطلق من موقع القوة وليس الضعف. فالبرنامج النووي الكوري وصل إلى مرحلة اللاعودة، من حيث مستوى المعرفة والتجريب والبني الأساسية. وأي قيود ستفرض الآن لا يمكنها مصادرة كل مخزونه النووي ولا بنيته المعرفية والأساسية. وكوريا لا تأخذ تهديدات الحرب مأخذ الجد. فهي تعلم أنه ليس قرارا أمريكيا، بل قرار واشنطن وطوكيو وسول معا، لأن المتضرر الأساسي سيكون شمال شرق آسيا. وهي تعرف أن موازين القوى بينها وبين هذا التحالف الثلاثي ليست في صالحها بأي درجة، وستسفر عن هزيمة ساحقة لها. لكن الجميع يعلمون أنها ليست فريسة سهلة، وأنها قادرة في لحظة هزيمتها على إلحاق خسائر هائلة بخصومها الإقليميين، وبالتحديد تجمعات شمال كوريا الجنوبية الحضرية والصناعية الضخمة الواقعة في مرمي نيرانها. وهي ترى الرئيس الأمريكي من منظور آخر. رجل قليل الخبرة بالسياسة الدولية، ويعاني مشاكل داخلية عميقة، ولا يمتلك دعما كافيا داخل مؤسسات صنع القرار، وخلال عام واحد استخدم وزيرين للخارجية وثلاثة مستشارين للأمن القومي، ويحظى باعتراض واسع داخل قيادات التحالف الأطلسي. وكل هذا لا يجعله مؤهلا لقرار الحرب، بل يجعله في حاجة لانتصار ظاهري، ينطوي على نوع من المساومة ولو المؤقتة. وهي ترى أن الرئاسة الأمريكية قررت التورط في صراعات على اكثر من جبهة، مع روسيا والصين وأوروبا الغربية في آن واحد، الأمر الذي لن يمكنها من إحكام الحصار الاقتصادي من حولها، أو بناء الحد الأدنى من التوافق الدولي للتصعيد العسكري ضدها.

وتأسيسا على تلك الاعتبارات يرى التيار الثاني، ان كوريا الشمالية تتحرك عبر مسارين. مسار حد أدنى وواقعي، يستهدف تحقيق انفراجة تفاوضية، تمكنها من كسر حدة العقوبات الاقتصادية وتحقيق تهدئة سياسية، وفرض حدود أمنية على حركة المناورات الأمريكية - الجنوبية المشتركة. علاوة على الشرعية الدولية التي ستحصل عليها بعد اجتماع كيم مع ترامب، في أول اجتماع بين رئيس أمريكي حاكم ورئيس كوريا الشمالية. وفي المقابل تقوم بتجميد لتجارب الإطلاق الصاروخي والتفجير النووي. ومسار حد أقصى افتراضي معلن، ويستهدف نزع السلاح النووي من كامل شبه الجزيرة الكورية. وهذه الصيغة تعني نزع السلاح النووي الشمالي، وانسحاب أمريكا العسكري من كوريا الجنوبية، ومعها سلاحها النووي.

وفي المقابل تحصل كوريا الشمالية على معاهدة دولية تقر بنهاية الحرب الكورية، واعتراف بشرعية نظامها الحاكم وضمانات لأمنه السياسي.

كيف ترى واشنطن التحرك الكوري؟ تراه عبر منظور الشعور بالضعف. وهو ما يعني أنها بقدر ما تراه تراجعا أمام الحصار الأمريكي، بقدر ما تراه تراجعا ينطوي على احتمال مناورة تسعى للتملص من الحصار. لكن مجرد قبولها لاجتماع القمة، يعني تغليبها لوزن التراجع على المناورة. غير أن المشكلة أنها في مواجهتها لهذا الموقف تفتقر لأمرين: الإجماع والجاهزية. فلا يوجد داخلها إجماع على هذه الرؤية، والقرار خرج أساسا من البيت الأبيض بمعزل عن وزير الخارجية. والمراقبون يلاحظون ضعف جاهزية الجانب الأمريكي. فهو لا يمتلك في هذه الفترة فريقا سياسيا جاهزا للتفاوض مع كوريا الشمالية. والمدى الزمني المتاح لا يسمح بالتوافقات الضرورية قبل القمة، مع مفاوض متمرس مثل كوريا الشمالية.

ويسجلون أن عناصر في الإدارة الأمريكية، تبدو مرتبكة بفعل النقلة الضخمة من لغة الحرب إلى لغة التفاوض.

وفي كل الأحوال ستؤدي تلك القمة في حالة انعقادها إلى إعادة إنتاج، نفس المسار السابق والفاشل لمفاوضات نزع الأسلحة النووية الكورية. وحتى لو انتهت المفاوضات إلى موافقة أمريكية على تصور سيناريو بيونج يانج الخاص بنزع السلاح النووي لشبه الجزيرة الكورية، فلن يلتزم كيم بتعهده بتفكيك كامل أسلحته النووية. لماذا؟ تشكلت الرؤية الكورية للسلاح النووي، من قلب خبرة الصراعات الدولية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتتبنى هذه الرؤية عقيدة راسخة تفيد بأن بقاء النظام الحاكم واستقلاله رهين بامتلاكه لسلاح نووي قوي. ولم تكن هذه العقيدة وليدة تجربة خبرة الحرب الكورية الدامية فقط، بل أيضا حصيلة رصدها لدور القوة النووية في إنهاء الحرب العالمية الثانية مع اليابان، وضمان امن ومكانة الاتحاد السوفييتي والصين. والحاصل أنها عقيدة بقاء نظام، نجح تحولت مع السنين إلى عقيدة لبقاء الوطن، ومادة للمجد القومي.

ومع أحكام حصاره دوليا وإمعانه في الركود، تحولت إلى وسيلته الأساسية للحشد ومصدر قوي لشرعيته. لكنه لا يراها وسيلة للعدوان بل وسيله للدفاع عن نفسه. ومع تحقيقه لهذه الدرجة من التطور النووي، لا يمكن للتفاوض إقناعه بالتخلي عنها. والطريق الصحيح هو ترويض النظام نفسه، من خلال تطبيع العلاقات معه ورفع الحصار من حوله، ومنحه الشرعية والاعتراف. في هذا السياق سيبدأ في التفكك من الداخل، لأنه مصدر حياته الأساسي الراهن هو الحشد القائم على العداء الخارجي.