الملف السياسي

.. «مقامرة» دبلوماسية وقلق إقليمي

26 مارس 2018
26 مارس 2018

مروى محمد إبراهيم -

,,حالة من الترقب والدهشة تسيطر على العالم في انتظار اللقاء التاريخي بين أكثر رئيسين إثارة للجدل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون,,

فبعد مشاحنات وحرب كلامية عنيفة شهدتها ساحة تويتر على مدار قرابة العام بين الطرفين، وصلت إلى حد التهديد النووي المتبادل، فوجئ الجميع بحالة من التوافق غير المعتاد بين واشنطن وبيونج يانج على عقد هذه القمة غير المسبوقة. وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حول الأسباب والظروف التي أدت إلى هذا التغير المفاجئة؟ بل، ما هي الأسباب التي تدفع دولة مثل كوريا الشمالية طالما تفاخرت بتحديها المطلق للغرب، وبكونها دولة «مارقة»، إلى تقديم مثل هذه التنازلات؟ ولكن لا يمكن في هذا الإطار تجاهل الضغوط التي مارستها القوى الإقليمية للدفع إلى عقد مثل هذه القمة التاريخية؟ الواقع يؤكد أن العلاقات الدبلوماسية لا تعرف العاطفة، سواء صداقة أو كراهية، فهي علاقة مصلحة بحتة. وهذا تحديدا ما يجمع بين كل هذه الأطراف الآن.

علاقة شائكة جمعت بين كوريا الشمالية والقوى الإقليمية والغربية منذ عقود، وازدادت توترا خلال العام الماضي. فقد أجرت بيونج يانج نحو 17 تجربة صاروخية خلال 2017 فقط، إلى جانب سادس تجربة نووية تجريها في تاريخها. ونجحت في إثارة رعب العالم، وخاصة جاراتها كوريا الجنوبية واليابان، وغضب أمريكا بإعلانها عن رأس نووية صغيرة بما يكفي لتحميلها على صاروخ باليستي عابر للقارات، مما دفع ترامب للتهديد بـ«نار وغضب». فما الذي تغير الآن؟

على الصعيد الأمريكي، ترامب يواجه العديد من الأزمات الداخلية وبعض التحديات والاستفزازات الخارجية. ومع اشتعال الموقف في داخل، وتصاعد التحقيقات معه حول احتمالات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 لصالحه، والتلاعبات الإلكترونية التي تورطت بها شركات معلومات خلال فترة الانتخابات لصالحه أيضا. كان لابد له من إيجاد وسائل لتشتيت الانتباه، وكانت البداية بالتصعيد المفرط في الحرب الكلامية مع الزعيم الكوري الشمالي. ولكن مع تصاعد الاستفزازات الإيرانية، ومساعيه لإقناع الكونجرس بالتخلي عن الاتفاق النووي التاريخي مع إيران، يبدو أنه قرر البحث عن وسيلة جديدة للالتفاف على الموقف الحالي. وهو عن طريق ترويض قوة نووية أخرى، وهو ما قد يحفظ ماء وجهه في مواجهة الإخفاقات المتكررة التي تواجهه في الوقت الحالي. وأغلبها تتعلق بتحفظ بعض نواب الكونجرس الأمريكي على سياساته الداخلية والخارجية. وبالتالي، كان لابد أن يظهر ترامب في دور المنقذ السلمي للعالم، حتى يتسنى له فتح الملف الإيراني من جديد. ولا أدل على ذلك من إقالته لريكس تيلرسون وزير خارجيته السابق، الذي طالما رفض فكرة إلغاء الاتفاق النووي الإيراني أو حتى التصعيد مع إيران، وترشيحه لمايك بومبيو رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي.آي.إيه»، الرافض للاتفاق النووي بشكل عام، لقيادة وزارة الخارجية وتنفيذ سياسات ترامب المثيرة للجدل.

ولا يمكن أن نتجاهل حرب النفوذ والتجارة المشتعلة بين أمريكا من جانب، وروسيا والصين من الجانب الآخر. فكسب واشنطن لكوريا الشمالية في صفها، يهدف إلى سحب البساط من تحت الصين وروسيا أيضا خاصة وأنهما يحافظان على علاقاتهما التجارية والسياسية القوية مع الشطر الكوري الشمالي.

وعلى الرغم من أن كافة التقارير الأمريكية والكورية الجنوبية أكدت أن الزعيم الشمالي هو من وجه الدعوة لترامب لعقد لقاء قمة، إلا أنه لم يصدر عن الشطر الكوري الشمالي وقيادته أي بيانات رسمية بهذا الصدد. وفي المقابل، أغرق ترامب وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بتصريحاته المتفائلة إزاء «الاتفاق العظيم» المتوقع أن تسفر عنه هذه «القمة التاريخية»، على حد تأكيده. وهو ما يشير إلى أن هذا اللقاء يأتي بإيعاز من واشنطن وضغط من كوريا الجنوبية والقوى الإقليمية. وهو في واقع الأمر سيخدم مصالحهم وسيضمن لهم قدرا غير مسبوق من الأمن الإقليمي، خاصة في ظل تعهد بيونج يانج بتعليق أنشطتها النووية لحين عقد القمة المرتقبة في نهاية مايو المقبل. كما أن انعقاد مثل هذا اللقاء التاريخي سيفتح باب حوار جديد للتفاوض من أجل سلام وهدوء مستقبلي.

أما فيما يتعلق بالجانب الكوري الشمالي، فعلى الرغم من الترويج الأمريكي لفكرة أن العقوبات والضغوط الأمريكية المتلاحقة والعنيفة ضد بيونج قد أتت ثمارها، إلا أن نظرة سريعة للأمور تشير إلى أن كوريا الشمالية تتعامل حاليا من منطلق قوة وليس ضعف على الإطلاق. وبغض النظر عن الشكوك التي تحيط بحقيقة أسلحتها النووية ومدى فاعليتها، فإن هذا لا ينفي أنها تمتلك ما يكفي من الأسلحة لتهديد الأمن الأمريكي، حتى وإن كان هذا الأمر مستبعد تماما. وهو ما يأتي بنا إلى الشق الأهم، ألا وهو السعي من اجل تخفيف حدة العقوبات الاقتصادية. فهذا ربما يكون المكسب الحقيقي والمنطقي الوحيد الذي يمكن أن تحصل عليه القيادة الكورية الشمالية في الوقت الراهن من وراء مثل هذا اللقاء. فالدعم الروسي- الصيني لبيونج يانج، والمساعدات الكورية الجنوبية، لا تكفي لمواجهة الأزمات الاقتصادية التي تثقل كاهلها. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان حاليا هو السر وراء الصمت الكوري الشمالي إزاء هذا اللقاء المرتقب.

البعض يرجح أن موافقة ترامب على اللقاء وجها لوجه مع الزعيم الكوري الشمالي بدون شروط مسبقة فاجأت كيم جونج أون كما فاجأت العالم كله، أما الترجيح الثاني- والمستبعد- هو أن يكون رئيس الوفد الكوري الجنوبي قد حرف الرسالة الشمالية لواشنطن وبدت كما لو كانت دعوة للقاء، وهو أمر غير منطقي. أما الترجيح الثالث، فهو حرص بيونج يانج على مراقبة ردود الأفعال الدولية قبل إصدار أي بيانات رسمية.

ولكن الأكيد أن الجهود والسياسات الكورية الجنوبية لها الفضل الأكبر في الوساطة لعقد مثل هذا اللقاء. فمنذ اشتعال الصراع بين شطري الجزيرة الكورية، وسول حريصة على عدم التصعيد وأن تبادر بمد يد العون لجارتها الشمالية ولكن بدون أي تهديدات، فهي تتعامل معها بصفتها الشقيق المتمرد الذي يستحق العقاب وليس الموت. كما أنها حريصة على أن يكون التقارب بين بيونج يانج والقوى الكبرى من خلالها بشكل أساسي، وهذا ما بدا من خلال توجيه سول الدعوة للشمال للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية وترحيبها الشديد بالوفد الرسمي المصاحب للفرق الرياضية. وهو ما تبعه استقبال كيم الشخصي غير المتوقع للوفد الجنوبي رفيع المستوى في العاصمة الكورية الشمالية كبادرة لحسن النوايا، والاتفاق على عقد قمة بين زعيمي الشطرين في نهاية أبريل المقبل، أي قبل شهر من القمة الأمريكية - الشمالية المزمعة.

أما فيما يتعلق بالقوى الإقليمية الأخرى، فيبدو أن الصدمة والترحاب الحذر هما السمة الغالبة للموقف الإقليمي. وكما أكد مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية اليابانية، واصفا موجات الصدمة التي ترددت في طوكيو بعد الإعلان، «لم يحدث من قبل أن يتم اتخاذ مثل هذا القرار في هذا الوقت». ويبدو أن الشعور نفس يساور بكين، فمن الواضح أنه لم تتم استشارتها، سواء من قبل واشنطن أو بيونج يانج مقدما. فخلال محادثة هاتفية مع ترامب، أعرب الرئيس الصيني شي جينبينج عن دعمه لاجتماع ترامب- كيم والحل الدبلوماسي للمشكلة.

ومع ذلك، يقال إن الصين تشعر بالقلق من أن دورها قد يتناقص في شبه الجزيرة الكورية. كما تشعر كل من اليابان والصين بالقلق من احتمال تجاهلهما في الجهود الدبلوماسية لمعالجة القضية النووية لكوريا الشمالية، في ظل الصورة الجديدة للعلاقات الأمريكية- الكورية الشمالية.

على الرغم من أن مجرد الإعلان عن الإعداد لمثل هذا اللقاء التاريخي، يبعث برسالة سلام واطمئنان لكافة القوى العالمية. إلا أن هذا لا ينفي إطلاقا أن الشكوك وحالة عدم اليقين التي تخيم عليه تثير مخاوف القوى الكبرى، مع احتمال تغير الخريطة الدبلوماسية للمنطقة وخوف القوى الإقليمية من تراجع نفوذها. ويبدو أن ترامب قرر «المقامرة» عله يكسب بعض النجاح غير المتوقع ربما يخدمه في الانتخابات المقبلة ويحسن من شعبيته، ويبقى الغموض يكتنف الموقف الكوري الشمالي.