1286565
1286565
المنوعات

د. محسن الكندي في حواره عن كتاب «مناخات جبل الشيبة»: الوثيقة لسان حال الحقيقة.. وهي مصدري الأول للمعلومات

24 مارس 2018
24 مارس 2018

صورة تاريخية يظهر في يسارها الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي مع الشيخ سعيد بن خلف الخروصي والشيخ عبدالرحيم بن سيف الخروصي في أوائل السبعينات[/caption]

الكتاب يجمع بين انفتاح الشاعر وحزم الفقيه -

ابن الشهيد وقع في دائرة المعادلة الصعبة بين مؤسستين حاكمتين -

حاوره: ماجد الندابي -

المتتبع للدراسات والبحوث العمانية يجد أن الدكتور محسن بن حمود الكندي من أكثر الباحثين العمانيين غزارة في الإنتاج الثقافي العماني، وقد كتب الكثير من الكتب التي تعنى بالأدب والصحافة والتاريخ، وهو في كتابه الجديد «مناخات جبل الشيبة» يؤصل لآثار شخصيتين عمانيتين مهمتين وهما الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي وابنه مالك، في هذا الحوار نحاول أن نتلمس عوالم هاتين الشخصيتين، وأثرهما في الوسط العماني، والاطلاع على أهم المحاور التي تضمنها الكتاب..

■ هذا الكتاب وإن قرأته قراءة فكرية توثيقية تأصيلية للآثار الفكرية لكلا الشخصيتين اللتين قدمهما إلا أنه يقع في دائرة الرمز لأنه يدمج خطابين خطاب الفقيه من جهة وخطاب الشاعر، خطاب الفقيه بما يتأسس عليه من أيديولوجيا دينية تتعلق بالفتوى والقضاء والأحكام بالإضافة إلى الكاريزما التي يعيش بها الفقيه دائما، وبين الشاعر الذي يرنو إلى الانفتاح والحرية والتغيير، المناخات بحد ذاتها طابع متغير والجبل هو طابع ثابت، فكأنني أقول ماذا قال الفقيه للشاعر، وماذا قال الشاعر للفقيه، في ظل هذه الجدلية التي استوحيتها أصلا من اسم جبل الشيبة ووقوع «محلة الغريض» التي هي مسكن الشخصيتين على ضفاف هذا الجبل، بما يحتويه هذا الجبل أيضا من جماليات طبيعية في تلك البقعة الجغرافية التي لا تخرج عن حدود خمسمائة متر طولا وعرضا، تتحقق المعادلة بين الثابت والمتغير، بين المناخات المتغيرة في ظل خطاب الفقيه وفي ظل المعادل الآخر لها في ظل الانفتاح والحرية.

لذلك سوف ترى أن الكتاب يدمج بين شاعر الغزل الرومانسي الذي لا يرعوي عن البوح بكل التفاصيل التي اعتادت عليها مدونة الشعر الرومانسي وخاصة علاقته بشعر الغزل، والشيخ مالك هو شاعر معجمه من أفق عمر بن أبي ربيعة، وأشعار امرؤ القيس ومن بعض الشعراء العذريين تارة ولكنه يطرح فكرة هذه المعادلة، بينما الشيخ ابراهيم يستقي المصدر الأساس لعلمه هو العقيدة والفقه، وإن كان هذا الفقيه متسامحا فلذلك تقترب هذه المعادلة من نظرة الانفتاح فالفقيه كان معتدلا ومتقبلا للآخر، وتعامل مع الفقه بحس مغاربي، ومن المعروف أن الفقه الإباضي المغربي أكثر انفتاحا من الفقه المشارقي في تنظيراته ومرجعياته وفي أطروحاته الفكرية وفي علاقته بالسياسة والمجتمع والحراك الإنساني.

طبعا، كلا الشخصيتين هما أبناء البيئة والتراب والوطن، وأعني به الوطن العماني بأدق تفاصيله ومكوناته، فكل شيء في هاتين الشخصيتين هو جزء صميمي من البيئة التي عاشاها، صحيح أنهما رحلا إلى مسقط، ووجودهما في مسقط لأربعة أجيال ولكن يظل الموطن ومكان الصرخة الأولى هو المغذي لهذه الجذوة الفقهية وهذه الجذوة الشعرية.

البيئة لم يغادرها الشاعران وإن غادراها جسدا في فترة من الفترات ولكن ظلا متواصلين معها تواصلا حميما في الأفق والتفكير والقلب والقالب، فالشاعر نظم عشرات الأبيات والقصائد الطوال فيها وهو مالك، لدرجة أن آخر قصيدة بل آخر بيت نطق به وهو يستل كما يستل الفارس من على حصانه ليقع ميتا في مشهد وفاته الميلودراميّ الذي أسست عليه خطاب موته، مات وهو يلقي قصيدة وآخر بيت هو أحد محلات نخل، فالبيئة حتى في آخر كلمة ينطقها هي جزء صميمي من بيئة الشاعر.

ناهيك أيضا عن تفاصيل الحياة والأعلام وكل ما يتعلق بهذه البيئة تظهر فيها النخلة وتفاصيلها ومسميات النخيل، والأماكن والمحلات والتاريخ والقلعة وعيون الماء، وكل مسميات نخل ومسمياتها ظاهرة في أدبه وشعره، في المعادل أيضا الشيخ إبراهيم لم يخرج عن هذا الإطار، صحيح هو قاض في محكمة الاستئناف في مسقط ، وهي أكبر مؤسسة قضائية في ذلك العصر، والتي لديها القول الفصل في القضايا، وتتكون من أربعة أشخاص فقط، وكان يوجد فيها الشيخ إبراهيم الكندي بمعية قضاة كبار وهم الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي، والشيخ هاشم بن عيسى الطائي، والشيخ محمد بن راشد الخصيبي، ويأتي إلى هذه المحكمة أيضا الشيخ خلفان بن جميل السيابي للفصل في بعض القضايا،على الرغم من ذلك ظلت نخل هي العلاقة الروحية للشيخ ابراهيم، لا تكاد توجد إجازة أو رحلات أو علاقات إلا وتنطلق من نخل وتعود إليها، فنخل هي مكان الصرخة الأولى، وابتدأت حياته فيها ناسخا، والنسخ هو سبيل البيئة النخلية، وهذا هو الجانب الذي يربط علاقته بالبيئة، فنخل كلها بلد نساخ بلد كتاب وشعراء وفقهاء وقضاة، وفي الأخير سلالتهم القبلية تعود إلى نزوى، فكلهم في الأخير جدهم واحد، وينتمون الى ردة الكنود، وقد أصلت كل هذا الأمر بتفاصيل في هذا الكتاب بمكوناته الاجتماعية والثقافية والمعرفية.

■الوثيقة هي لسان حال الحقيقة، وهذا هو الشعار الذي أضعه دائما في التعامل مع الشخصيات، فهي الموثق والبرهان، فبالتالي هي مصدري الأول للمعلومات، طبعا يأتي المصدر الثاني هو الروايات، لأن هذه الشخصيات لم تترك لنا أثرا مكتوبا عن سيرتها الذاتية، فنحن غيبنا شخصياتنا وأعلامنا بعد أن فاتوا من أيدينا وظللنا بعد ذلك نلاحق ما تركوا، وما وجدته عن الشيخ إبراهيم القليل من الوثائق.

■ طبعا تلك الوثائق هي ناضحة بأفكار كثيرة فالشيخ إبراهيم الكندي هو مدرسة فكرية منفتحة، ومدرسة تمثل في القضاء نمطا مختلفا عن المشايخ، ولذلك يعد عند العمانيين من المؤرخين والفقهاء والشعراء ويمثل مدرسة مغايرة في أحكامها القضائية عن سواها.

وقد وجدت كذلك سؤالا فقهيا استعرض فيه الشيخ عبدالله الخليلي العديد من الآراء فيه، وفي الأخير قال: يقول الشيخ خلفان بن جميل في المسألة الفلانية كذا.. ويقول الشيخ سالم بن حمود السيابي كذا، وابن الشهيد رأيه كذا.. فرأي الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي الذي كان يلقب بابن الشهيد يمثل مدرسة مختلفة عن سواه، فلذلك يتم استعراض رأيه في مقابل الآخر، لأنه كان يختلف معهم في الكثير من المكونات الفقهية الأخرى وهو أكثر مرونة منهم، وكان يقبل معطيات العصر فكان يسمع المذياع، في حين أن غيره من العلماء حرموه، فهذا الجانب يعد مكونا انفتاحيا مقارنة بأقرانه.

وأجداده كانوا يعملون قضاة عند السلطان سعيد بن تيمور، والسلطان فيصل بن تركي وكذلك عند السلطان تركي بن سعيد، وكان لهم موقف في القضاء وهو أنهم لا يحكمون في الدماء، وهذا موقف قوي جدا، لأن السلاطين تأتيهم قضايا تتعلق بالقتلة وغيرهم ممن يطلب من القضاء أن يبت في مسألة دمائهم إلا أن الشيخ إبراهيم وأجداده كانوا يرفضون البت في هذه القضايا، فشخصية الشيخ إبراهيم بامتياز هي شخصية صاحبة موقف ورأي ووجاهة اجتماعية، ويمثل كاريزما الشخصية العمانية بكل مكوناتها الاجتماعية، وكذلك عد واحدا من الأسماء المهمة، علميا وفقهيا وقضائيا، وخاض مراس الحياة درسا وتدريسا، يكفيك أنه درَّس في المدرسة السلطانية الأولى في عام 1935م، وبعد ما افتتحت المدرسة السعيدية كان من أوائل المدرسين فيها في ذلك الوقت الذي يمثل مفصلا في حياة الوطن.

أوكل إليه السلطان سعيد بن تيمور تدريس ابنه صاحب الجلالة ـ حفظه الله ـ، والسلطان سعيد بن تيمور لولا أن وجد فيه الشخصية المنفتحة، والشخصية التي تقبل طوارئ العصر، والشخصية العلمية الراسخة الجذور، لما أوكل إليه تدريس ابنه، وهذه تعد أحد الامتيازات، حيث كان يذهب إلى القصر، (وأنا اعتمدت في هذا الموضوع على الروايات، منها روايات زوجته، وابنته، التي هي الآن في التسعين من عمرها)، وقد اختير لتدريس جلالة السلطان في سنة 1966م وكان آنذاك مدرسا في المدرسة السعيدية، وكان قبلها مدرسا في المدرسة السلطانية، وهي التي كانت تدرس فيها كل الأسرة الحاكمة في عمان.

وكان الشيخ إبراهيم معروفا لديهم وهو قريب الصلة من السيد أحمد بن إبراهيم الذي كان يسمى ناظر الداخلية فهو قريب من السلطة بالقلب والقالب، فكان يؤم بالسادة في صلوات الأعياد بالقصر، ويقع بيته مباشرة أمام القصر في مسقط، وهذا القرب توارثه جدا عن جد، فهو سليل أسرة قريبة من الدولة البوسعيدية، فالدولة تعرف تكوينه الأسري والعلمي، وثقتهم فيه كبيرة، فلذلك تم اختياره.

فابتدأ التردد على ظفار حيث كان السلطان قابوس ـ حفظه الله ـ يقيم هناك في مرحلته الأولى، وكما أخبرني بعض الرواة الذين التقيت بهم أنه كان يدرس السلطان بعض العلوم منها علم الميراث، الذي أتقنه السلطان في 21 يوما، على الرغم من صعوبة هذا العلم، كما درسه علوم العقيدة والأصول واللغة.

وأفصحت عائلته أنه كان يذهب إلى ظفار للتدريس وعندما يرجع يروي لهم أخبارا عن نبوغ السلطان قابوس ـ حفظه الله ـ المبكر، وعن شخصيته النبيهة وعن ذكائه الحاد وعن احترامه للعلم والمعلم وتقديس الكتاب واهتمامه بالقراءة، فكان كل ما يوكل إليه من الكتب ينتهي منها بشكل سريع ويتقنها وكان يسأل ويناقش فيها، وكانت الدراسة منفردة، وكانت هنالك شهادة اعتزاز يقدمها عن السلطان في المراحل الأولى من حياته.

أذكر هنا معلومة نقلا عن أهل الشيخ إبراهيم أنه عندما مرض زاره جلالة السلطان وهو على فراش المرض، وهذه لفته إنسانية جميلة جدا وكريمة من صاحب الجلالة وفاء لأستاذه.

■ يتمثل في قبوله لطوارئ العصر، وفي خطابه المعتدل، وفي عدم تشدده في الأحكام الفقهية، وفي مراعاة مقتضى الحال في الأحكام، وأيضا يتمثل في علاقته بالآخر، من التجار والطبقات المختلفة، إضافة إلى اقتنائه للسيارات في عصر مبكر منذ الأربعينات، حيث كان يمتلك في حدود 35 إلى 40 سيارة في تلك الفترة التي كانت تندر فيها هذه الوسيلة المهمة في الحياة.

ومن مقتضيات التنوير أيضا وجدناه يتضح في تعامله وفي سلوكه مع الآخر، وهو لم يترك أثرا علميا مع الأسف، وانما ترك رسالة في الجوائح وترك خطبا ألقاها في القصر في الفترة الماضية، ويتضح فيها فكره التنويري، واللغة التي كتبت بها ليست باللغة المعقدة وليست بالأسلوب الذي يقصي ويكفر الآخر، وإنما يستقطب الآخر ويراعي مقتضيات الحال.

هذا الكتاب في حد ذاته لا يعالج إشكالا بقدر ما يوثق ويؤصل لآثار شخصيتين، ولكن في الجانب الآخر هو تقديم نوعي لأنه يدمج كتابين بعنوان واحد، وراعينا فيه مقتضى التأثر والتأثير والخطاب المركزي لكل شخصية.

وحاولت في هذا الكتاب أن أظهر هذه الآثار التي ظلت مغيبة كل هذه السنين وهي تمثل مناخات متغيرة تؤول إلى فكرة المعادلة التي أشرت إليها سابقا، وهي تقدم شخصيتين مغيبتين في الفترة وتقدم شخصية تركت إرثا حضاريا ربما يكون موازيا للأعلام الذين قدمتهم الثقافة العمانية وبخاصة في النمط القضائي، وما وجدته يمثل القليل، ولكنه في الإطار نفسه يمثل فاتحة في توسعة هذا الكتاب عندما تقع في يدي الكثير من الوثائق الأخرى.

مثل ما قلت لك بأن الشيخ إبراهيم هو معلم وقاض كبير وتاجر ليس لديه محلات بقدر ما كان يمتلك أسطولا من السيارات، حتى أنه من المفارقات الغريبة أن بعض سياراته استخدمت في حرب الجبل الأخضر، وهو ينتمي إلى السلطة!.

والجانب الثاني أن شخصيته تميزت بالظرف وبتأسيس خطاب الشعر في وسط حازم في القضاء، وكما هو معلوم أن الوسط القضائي كانت تأتيه قضايا يطلب فيها القول الفصل في القضايا الجوهرية، ويأتيك الشيخ إبراهيم ويلقي عليهم طرفة ويقوم الجميع بالضحك بما فيهم المشايخ القضاة، (نقلا عما سمعته،) فهو شخصية حتى في أشعاره التي لقطناها من أفواه الناس والتي تناهز الـ 20 قصيدة تمثل مقاطع وأبياتا قصيرة ما عدا قصيدة واحدة طويلة في رثائه لزوجته والتي صرح باسمها فيها، وهذا يمثل جانبا من الانفتاح، فرثاء المرأة في الشعر العربي قليل فما بالك بالشعر العماني، وقصيدته تدمي القلب وذلك إثر وفاتها بعد أن لسعها الثعبان.

الجانب الآخر هو النسخ، فكان يذيل منسوخاته بعبارات توثيقية في غاية الدقة، وكان رجلا ذا صرامة في العدل تطال أحيانا ذاته وأسرته، وقد روي لي عن المشايخ الذين عاصروه وعرفوه في مسجد الخور، أنه أوكل إليه وكان في شبابه المبكر أثناء تدريسه في المدرسة السلطانية في 1935 م وأوكل إليه أن يوصل رسالة إلى الشيخ سعيد بن ناصر بن عبدالله وكان هو القاضي الأشهر في بوشر وكان هو العمدة القبلية وكان معروفا في الشخصيات العمانية فذهب من مسقط إلى بوشر في وقت الصباح ووصل في وقت الظهيرة فدعاه الشيخ سعيد بن ناصر للغداء، فرفض المكوث بحجة أن الناس ينتظرونه في مسجد الخور لإمامة الصلاة، فكان حريصا على أداء أمانة الوظيفة التي أوكلت إليه وهي إمامة الصلاة، وترك المكوث والغداء مع الشيخ سعيد بن ناصر، ضاربا في ذلك المثل في التفاني والإخلاص في الوظيفة.

■ نعم تمثل إشكالا، وذلك يتمثل في أحكامه القضائية، وفي آرائه الفقهية التي كانت تثير أسئلة لدى المشايخ، لأنه وجد في عصر لا يقبل إلا الرأي الواحد، ووجد عند مشايخ كانوا أكثر تزمتا في أحكامهم القضائية.

الشيخ إبراهيم يقع في دائرة المعادلة الصعبة بين مؤسستين حاكمتين، كيف يكون شيخا تحيل مرجعياته وأسسه الفقهية إلى علم مؤسسة الإمامة الحاكمة في ذلك الوقت، وكيف يمسك الخيط من الوسط ويتعامل قاضيا هنا وشيخا هناك، وكيف تكون له مواقف سياسية مضطربة إبان الإمامة المتأخرة وهي إمامة الإمام غالب، وكيف يقف منها موقف النأي بالنفس، وعدم إدخال البلد في مأزق التشتت. لذلك عندما سقطت نزوى وسقطت مدن عمانية، وجيء إلى نخل لتسليم المدينة إلى سلطة مسقط، رفض هو قائلا ما دامت الإمامة قائمة لن أسلم المدينة، وصار هنالك مفاوضات بينه وبين قومه برئاسة السيد حمود بن إبراهيم.

وفي الجانب الآخر هو شخصية لم تكن هينة، صحيح أنه كان قاضي السلطان وقاضي مسقط ولكن في الوقت نفسه كان شخصية جدلية وعصية على المؤسستين الحاكمتين في ذلك الوقت، وفي الجوانب الأخرى كانت تمتاز شخصيته بالسماحة والتقوى والورع، يحدثني الشيخ أحمد بن حمد الخليلي (عن تقواه وأنه يُرى في المسجد أكثر من مرة وهو يبكي والمصحف في يده).

كان سريع الفهم وسريع القراءة، يقال أنه قرأ كتاب النيل نقلا عن الشيخ إبراهيم بن أحمد الكندي ـ رحمه الله ـ أنه قرأ كتاب النيل 8 مرات، وفي الشهر الذي مات فيه يقال أنه قرأ كتاب الله سبع مرات، ويتميز بأنه يمتلك إحساس الشاعر وحزم الفقيه، وهو رقيق القلب وذلك يتجلى في قصائده ومقطوعاته التي تلمح فيها هذه الجوانب الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه حازم وعادل، لم يتنازل عن قناعاته السياسية مقابل الإغراءات التي كان يتلقاها القضاة في عصره، وقد وجد في عصر مضطرب في الأحكام القضائية والأحوال السياسية، لأن القضاة في تلك الفترة كانت تحدث لهم أهواء معينة نتيجة العوامل التي كانت سائدة في ذلك الوقت من الفقر، ولكن ظل الشيخ إبراهيم هو النزيه العادل الصبور صاحب المواقف الذي لا يلين ولا يتراجع عن كثير من الأحكام.

■هذه هي الفكرة المنطقية الشكلية للكتاب، ما دام هنالك خطابان متنافران يقع أحدهما في دائرة الشعر ويقع الآخر في دائرة الفقه، من البديهي أن يكون هذا، لكن أنا أردت ان أوصل هذه الرسالة العميقة للكتاب، وهي أن هذين العلمين الأديبين الفقيه والشاعر يقعان في دائرة المناخات المتغيرة، بين شخصية الأديب وشخصية الفقيه، وهما في الاعتبار شخصيتان تحيلان إلى أجواء عادة يكون فيها الاختلاف ولكن حاولت هنا أن أضعهما في جانب الالتقاء استنادا إلى تفكيرهما المعتدل.

■ وجدت أغلبها مجتمعة، بعضها مخطوطة بخط يده، والبعض الآخر مسموعة قمت بتفريغها من 20 شريطا مسجلا وملقيا بالقراءة العمانية التقليدية للشعر، وساعدني هو بنفسه فيها، وكانت أشعار الشيخ مالك مختلفة عن أشعار الشيخ إبراهيم، ولكن هذا جزء من قبول الآخر، فالشيخ الفقيه قبل إنتاج الشاعر فهذه القصائد الغزلية هي في الأول والأخير استطاع ان يقبلها الشيخ إبراهيم من خلال قبوله لأشعار ابنه مالك فكان يستمع إليه، وكانت تلقى في مجلسه، ولم ينكر عليه شيء منها.

■السبب هو أن التاريخ الشعري والتأصيل الشعري يمثل جزءا من التاريخ الثقافي، ووجدت أن الحقل الذي يستهويني كثيرا هو التاريخ الثقافي لأن العلاقة الصميمية بين المبدع ومحيطه قائمة، فوجدت أيضا محيط الدراسات في هذا الجانب قليلة نسبيا، وكنت قد أكملت سابقا في التاريخ العام، ومررت بالتاريخ الصحفي، وكتبت في التاريخ الفقهي، وأطروحتي أصلا كانت في الدكتوراه عن تاريخ الشعر «الشعر العماني في القرن العشرين» فهذه الثلاثية أكملت ما كنت أرغب فيه من تاريخ الثقافة العمانية المعاصرة، وكلها تلتقي في العلوم الإنسانية، ووجدت فيها لذة الاكتشاف، والإلمام والإحاطة والإثارة والعمق، ووجدت ما يحيلك إلى دائرة الدهشة، ويلغي معادلة القيمة للآخر، فالآخرون يدعون في الخليج بالذات بأن لهم السبق في الكثير من تاريخ الأنماط الموجودة، فوجدت ان العمانيين هم الأقدم في الصحافة وأقدمهم في الرواية، فكتبت في هذا الكتاب عن رواية كتبت عام 1937م.

وفي ما يتعلق بالشيخ إبراهيم الكندي وجدت أنه نسخ ديوان الشيخ أبي مسلم البهلاني، وأنه أضاف قصائد أخرى غير موجودة في الديوان المطبوع، وأثبتها في هذا الكتاب، وهذه إضافة أدبية، فأنا أؤرخ الأدب وأشتغل عليه وفق منظومة متكاملة، وأعطاني هذا الشغف بالمخطوطات والأعلام كشفا مباشرا عن أهم النقاط غير المضاءة في الثقافة العمانية، ولهذا دخلت بمشروع متكامل درست فيه الصحافة، ودرست فيه الشعر، ودرست فيه التاريخ العام.

■ عندي كتاب كبير اسمه «السطر الأول» وجمعت فيه كل دراساتي المنهجية في النقد، والشعر، والخطاب الثقافي، وقدم لهذا الكتاب الدكتور علوي الهاشمي، وعملت له شهادات أدبية، وهذا الكتاب يتضمن مقالات نقدية محكمة في حدود 12 بحثا نقديا محكما بمجلات محكمة، والكتابات الثقافية عامة، والمشاركات البحثية في الندوات الثقافية، وأرفقتها برسائل عندي نادرة مع بعض الشعراء العرب، وأرفقته بصور من بداية الثمانينات والتسعينات جمعتني بشخصيات أدبية وشعرية كبيرة رحلت، وضمنت فيه عملا متكاملا من خطاب النقد، وخطاب التاريخ، والأعلام، في ما يشبه العمل المتكامل، وسيرى النور في معرض مسقط الدولي للكتاب في العام القادم، وسيصدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، بالإضافة إلى بعض الأعمال المشتركة.