أفكار وآراء

الشعبوية الأوروبية في صعودها الصاخب

24 مارس 2018
24 مارس 2018

د. صلاح أبونار -

في اليوم الذي وقف فيه ترامب يلقي بقسم توليه الرئاسة، اجتمعت مجموعة من قادة أهم الأحزاب الشعبوية الأوروبية اليمينية، للاحتفال بتوليه الرئاسة.

كان الجو الذي جرت فيه وقائع الاجتماع كله زهو وفخار. وحمل اختيار المدينة ذاتها دلالة، ذلك إنهم اجتمعوا في مدينة كولينز الألمانية التي اشتهرت في التاريخ الأوروبي كأحد أهم الملاجئ، التي كانت الأرستقراطيات الأوروبية تلجأ إليها هربا واحتماء، من نيران الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر.

وهناك على مسرح قاعة الاجتماعات وقف جيرت والدرز قائد حزب الحرية الهولندي يخاطب الحضور: «بالأمس رأينا ميلاد عالم جديد. رأينا ميلاد أمريكا الجديدة.» ووقفت مارين لوبين قائدة حزب الجبهة الفرنسية، تتغني: «ها هو الشعب يتمرد ضد سلطة غير منتخبة، تدعي أنها قائمة علي الديمقراطية.» ثم صاحت: «أي ضربة تلقاها النظام القديم.»

ماهذه اللغة؟ «ميلاد جديد»؟ «نظام قديم»؟ لغة تحاكي لغة عصر الثورة الفرنسية، لغة رواد التيارات التاريخية الكبري، لغة الرواد المبشرين بعصر جديد، يقفون ملوحين برايات المنتصرين. ولم تكن هذه اللغة مجرد زوائد بلاغية أفرزتها لحظة نشوة سياسية، بل كانت تعبيرا عن وعي ما بفكرة الريادة الشعبوية لعصر أوروبي تاريخي جديد.

ونحن بالتأكيد أمام مبالغة لا تصمد أمام التمحيص، ولكن هذه المبالغة لها أساس ما في الصعود السياسي الراهن للأحزاب الشعبوية. صعود مؤكد لكنه لا يشكل اكتساحا. فلننظر إلى الوقائع والأرقام.

في ستينات القرن العشرين كانت الأحزاب الأوروبية، متمحورة حول ثنائية اليمين واليسار بتجلياتها المختلفة. ومع بداية السبعينات أخذت تلك الثنائية في التفكك، مع تحول الناخبين للتصويت لأحزاب جديدة. في هذه الفترة انتشرت الأحزاب الخضراء، ومع انتشارها ظهرت الأحزاب الشعبوية، ومن أهمها الأحزاب التقدمية في اسكندنافيا، وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا.

ثم جاءت الموجة الشعبوية الثانية منذ منتصف الثمانينات، وشهدت مدا عاليا وأكثر ديمومة من الأحزاب الشعبوية، رافق تدفقات الهجرة إلى أوروبا. وكان منها حزب الحرية النمساوي، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي وامتداده البلجيكي. ونجحت تلك الأحزاب في تجنيد قاعدة دعم واسعة، وعلى سبيل المثال ضاعف حزب الحرية النمساوي فيما بين 1986 و1999 نسبته في التصويت القومي حتي وصلت 27%، وحقق حزب الجبهة الوطنية الفرنسي نسبة 10%، وارتفعت نسبة حزب المصلحة البلجيكي من 1.9% إلى 11.9%.

وانطلقت موجة ثالثة مع بداية القرن الجديد. وفيها تمكن حزب الحرية النمساوي من المشاركة في الحكم، عبر انضمامه إلى تحالف اليمين- الوسط الحاكم. وفي عام 2001 بدا حزب الشعب الدانماركي والحزب التقدمي النرويجي في دعم حكومات الأقلية الحاكمة. وفي إيطاليا شارك التحالف الوطني والعصبة الشمالية في الحكومة عام 2002. وفي هولندا تمكن حزب قائمة بيم فورييم من القفز من لا شيء تقريبا إلى 17% من التصويت القومي، ليحصد 26 مقعدا في انتخابات 2002، ويشارك في التحالف الحاكم. وفي العام نفسه دخل لوبان زعيم حزب الجبهة الوطنية الفرنسية في انتخابات الإعادة الرئاسية، وحصل على خمسة ملايين صوت.

وفي مواجهة هذا التقدم انتشر بين المراقبين تصور يفيد أن الصعود الشعبوي فورة عابرة، مرتهنة بكاريزمية قيادتها، إلا أن التطورات كذبت ذلك. فلقد حافظت الأحزاب الشعبوية على نفس قوتها بعد رحيل اهم قياداتها الكاريزماتية، مثل جان ماري لوبان في فرنسا وجورج هايدر وبيم فورتييم وكارل هاجن ومورجينر جيلستروب. كما أنها نجحت في إرسال ممثليها إلى البرلمان الأوروبي في انتخابات 2009، في بريطانيا والنمسا وبلجيكا وبلغاريا ورومانيا والدانمارك وفنلندا واليونان والمجر وإيطاليا وسلوفاكيا. وفي عام 2010 تمكن الديمقراطيون السويديون من الحصول على عشرين مقعدا في البرلمان، وتمكن حزب الحرية الهولندي من أن يصبح ثالث قوة برلمانية ليلعب دورا أساسيا في تشكيل الحكومة.

لكن يظل ما سبق إنجازا ضخما إذا رددناه إلى قوة تلك الأحزاب لحظة بداياتها، إما أذا رددناه إلى مجمل القاعدة الانتخابية الأوروبية ستظهر لنا حدوده السياسية. في الستينات كان نصيب الأحزاب الشعبوية اليمينية الأوروبية من مجمل القاعدة التصويتية 6.7%، ارتفع إلى 13.4% في عشرينات القرن الجديد. وفي الفترة نفسها ارتفع نصيبها من المقاعد البرلمانية من 5.9% إلى 13.7%. أما الأحزاب الشعبوية اليسارية الأوروبية، فلقد ارتفع نصيبها من الأصوات في الفترة نفسها من 2.4% إلى 12.7%، وارتفع نصيبها من المقاعد من 0.12% إلى 11.5%. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحقق هذا التقدم عبر درجة عالية من التفاوت بين البلدان الأوروبية.

إلا أن هذا الوزن الانتخابي المحدود ولكن المؤثر، يكتسب قوة إضافية من واقع تشظي المجال السياسي وما يتيحه من إمكانيات المشاركة في التحالفات الحاكمة، ثم من واقع نجاحه في تحقيق انتصارات جزئية لكنها ذات دوي مرتفع ومثيرة للانزعاج تضعه في مقدمة المسرح السياسي. ومثال ذلك نجاح جان ماري لوبان ومن بعدة مارين لوبان- ابنته- في دخول انتخابات الإعادة الرئاسية في فرنسا، وانتصار الجبهة الوطنية منذ عامين في الانتخابات البلدية الفرنسية، والدور الذي لعبه الشعبويون البريطانيون في دفع التصويت البريطاني صوب البريكسيت. ونتصور أن هذه الانتصارات ذات الدوي المرتفع بالتحديد، والتي وجدت في انتصار ترامب ما يؤكد أوهامها، هي المسؤول الأول عن تلك اللهجة النبؤية المسرفة في التفاؤل التي كان يتحدث بها قادة الشعبوية الأوروبية علي مسرح كولينز.

ماهي الأسباب التي تقف خلف تلك الطفرة السياسية الشعبوية؟ يتعين في البداية قبل الدخول في تحليل الأسباب أن نقدم تعريفا لها. يعرف كل من رونالد انجليهارت، وبيبا نوريس في دراستهما «ترامب، بريكست وصعود الشعبوية»، الشعبوية كنسق قيمي وفكري يحللانه عبر وضعه كقطب في متصل فكري، يتمثل قطبه الآخر والنقيض في القيم الليبرالية الكوزموبوليتانية.

تشدد القيم الكوزموبوليتانية على القيم الثقافية العالمية، وتنوع الشعوب وأنماط الحياة، والحدود القومية المفتوحة. وهي تتمازج مع القيم الليبرالية، بتشديدها علي الكوابح والتوازنات الأفقية داخل مؤسسات التمثيل الديمقراطي، والمساومة الجماعية، والمشاركة من خلال عضوية الأحزاب السياسية، وحماية الأقليات وحقوقها، والتسامح تجاه التنوع الاجتماعي والثقافي والسياسي، والمساواة النوعية والإثنية. وتقف الشعبوية علي القطب الآخر. فهي تتحيز للشعب الطيب النقي، في مواجهة المؤسسات السياسية والاقتصادية المعتبرة فاسدة ومعزولة عن الشعب. والمصالح القومية في مواجهة التعاون الكوزموبوليتاني ، والسياسات الحمائية في مواجهة حرية التجارة، وكراهية الأجانب في مواجهة التسامح، والقيادة الفردية القوية في مواجهة المفاوضات والمساومة الجماعية، والأدوار التقليدية للنوعين في مواجهة الأدوار والهويات المتدفقة.

يعيدنا التحليل السابق إلى سؤال: ما هي العوامل المفسرة للصعود الشعبوي؟ تطرح الدراسات الميدانية والمسحية أربعة عوامل: الأمن الاقتصادي، والرضا السياسي عن المؤسسات الحاكمة، والتغير الثقافي، والهجرة.

فيما يتعلق بالأمن الاقتصادي طرحت دراسات التصويت الشعبوي، إن مؤيدي تلك الأحزاب يرتبطون ارتباطا قويا بالفئات غير الآمنة اقتصاديا، وبالتحديد البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة والفئات الأقل تعليما. وفي المقابل يضعف وجودهم داخل الفئات الآمنة اقتصاديا، وأفراد الطبقة الوسطى ذوي المرتبات، والمتعلمين تعليما عاليا. وأكبر الأحزاب الشعبوية نجاحا في التجنيد السياسي، هي التي تتجه إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطي، مثل الحرفيين وأصحاب المحلات والفلاحين.

وإذا انتقلنا لمتغير الرضا السياسي، سنجد أغلب أنصار الأحزاب الشعبوية لا يثق في مؤسسات الحكم الديمقراطي. في قياسات أجريت داخلهم فيما بين 2003-2011، أظهر 75% عدم ثقته في الأحزاب السياسية، وأبدي 60% عدم ثقته في الحكومات الوطنية، وأظهر ما بين 50% و60% عدم ثقته في البرلمانات الوطنية.

وفي تعبيرهم عن تدني تلك الثقة، يضعون كل أحزاب التيار الرئيسي في سلة واحدة، ويتهمونهم بالتركيز علي «القضايا العقيمة وطمر القضايا الحقيقية للهوية الثقافية.» وفي المقابل يرون أحزابهم الصوت الحقيقي للأغلبية الصامتة، المعبر عن قضاياها الحساسة مثل الهجرة والتكامل مع المسلمين. وهكذا يتبنون نظرة سياسية ثنائية، تقوم علي قطبي الطيب والشرير والأغلبية والأقلية، ويدمرون أفكار التعددية والمساومة الجماعية والتوافق.

وفيما يتعلق بعامل التغير الثقافي: شهدت الفترة الممتدة من أوائل السبعينات تحولات ثقافية مهمة، كان أبرزها بروز الاهتمام بقضايا البيئة، وتزايد القبول للمساواة بين الجنسين، واتساع الاعتراف بحقوق المختلفين جنسيا، وتوطد التسامح تجاه الاختلافات الأثنية. وبالتوافق مع ذلك تصاعدت حركات اجتماعية وسياسية جديدة، تبنت سياسات تسعي لترسيخ تلك القيم. واستثمار ذلك في اتجاهات قيمية وحركية مضادة، رأت فيه تهديدا لأنماط قيمها وحياتها. وبقدر ما ساهمت تلك الاتجاهات المناهضة في تكوين الحركات والأحزاب الشعبوية، بقدر ما وجدت تلك الأحزاب فيها مادة للنمو. وفيما يتعلق بعامل الهجرة: منذ مطلع السبعينات تدفقت على أوروبا أعداد هائلة من المهاجرين، جاء أكثرهم من بلدان فقيرة يتسيدها الإسلام، وخلقت معها تناقضات حادة. فلقد أضحت شريكا في قوة العمل، ولكن مع انسحاب دولة الرفاه وانطلاق الليبرالية الجديدة، تحولت مساحة من تلك المشاركة في وعي قطاع أهلي، إلى استيلاء على العمل والخدمات العامة. ولم ينحصر الضغط في المجال الاقتصادي. فلقد خلقت هذه الكتل معها، أحياء تسيدتها لغاتها وعاداتها ومؤسساتها، مشكله ضغطا علي الوعي بالهوية الثقافية. وشكلت تلك التناقضات موردا خصبا لازدهار الحركات الشعبوية. في إطار مسح أجري عام 2010 داخل عدة بلدان لرصد الوعي بأهم المشاكل، تصدرت الهجرة والبطالة القائمة. وفي مسح أجري عام 2010 داخل 6 دول، اعتبر ما بين 29% و48% المهاجرين القانونيين عبئا على الخدمات الاجتماعية، ورأى ما بين 29% و56% انهم يرفعون نسبة الجريمة، وما بين 25% و57% رأى انهم يستولون علي وظائفهم. إلا أن ذلك لا يعني إدراكهم في المرتبة الأولى كخطر اقتصادي، فخطر الهجرة يدرك أساسا كتهديد للثقافة الوطنية والتجانس القومي. وفي دراسة تناولت 18 بلدا أوروبيا فاقت المخاوف من الهجرة بشان الوحدة الثقافية، تسع مرات نسبتها بشأن الجريمة، وخمس مرات المخاوف الاقتصادية.

بماذا يخبرنا التحليل السابق لصعود الشعبوية وأسبابه؟ يخبرنا أنها في حقيقة أمرها ليست سوى إحدى تجليات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمعات الغربية. أي أزمة التيارات الأساسية التي سيطرت على الحركات الاجتماعية والسياسية على مدى قرن، بمعنى ثنائية اليمين واليسار والحركات الاجتماعية الحاضنة لها، وأزمة دولة الرفاهية والديمقراطية الليبرالية، وصعود العولمة والليبرالية الجديدة. تطرح الشعبوية نفسها كتيار صاعد متخطٍ لتلك الأزمات، لكنها في حقيقتها ليست سوى أحد أعراض الأزمات ذاتها.