أفكار وآراء

نهاية نظام الحِزبَين في أمريكا!

21 مارس 2018
21 مارس 2018

ديفيد بروكس - نيويورك تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

في النصف الأول من عقد التسعينات عملتُ في أوروبا مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز. قمت بتغطية أحداث كانت كلها سعيدة. من بين تلك الأحداث إعادة توحيد ألمانيا وتحرير بلدان وسط أوروبا وسقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية سياسة التفرقة العنصرية (الأبارثهيد) في جنوب إفريقيا وعملية أوسلو للسلام في الشرق الأوسط. ثم نحو نهاية فترة عملي كانت هنالك حادثة غير سوية، كما بدا. إنها تفكُّكُ جمهورية يوغوسلافيا السابقة. وإذا ألقينا نظرة إلى الوراء، سنجد أن الحرب الأهلية في البلقان كانت أهم حدث في تلك الفترة. لقد كانت تمثيلا مبكرا لما جاء منذ ذلك التاريخ من عودة للانفصالية العرقية وصعود الشعبوية المستبدة وتقهقر الديمقراطية الليبرالية وإعلاء مزاج أو روحِ المحارب الذي يقلص السياسة إلى مجرد صراعاتِ «صديقٍ مقابل عدو» ونزاعات مجموعٍ صفري.

وفي الأعوام الفاصلة بيننا وبين تلك الفترة كان هنالك تحول تامٌّ في التركيبة العقلية اللاواعية (اللاشعورية) التي يحفظ فيها الناس معتقداتهم. فإذا عدنا إلى أعوام التسعينات سنجد أنه كانت هنالك «عقلية وَفَرَة» لاواعية. لقد كان عطاء الرأسمالية الديمقراطية سخيا. وكان التحامل (التعصب) يتلاشى بالتدريج. وكان كل من النمو والدينامية صديقَين لنا. لقد كانت عقلية الوفرة واثقة من المستقبل ومرحِّبة بالآخرين وتتصوّر أوضاعا يكسب فيها الجميع في كل مكان. أما اليوم فبعد الأزمة المالية وتقلُّص الطبقة الوسطى والحرب الحزبية تهيمن «عقلية النُّدرة». فالموارد محدودة والعالم خَطِر وصراع الجماعات حتمي. إنه صراعُ «نحنُ ضدَّهم». وانتصارهم يعني نهايتنا. لذلك لنتمسك بانتمائنا الضيق. فالغاية تبرر الوسيلة. ويبدو التحول في العقليات مثل تحول في الفلسفة. لكنه في الحق انتقال من الفلسفة إلى عداء للفلسفة. فعقلية النُّدرة مادةٌ حارقة تدمر كلَّ نظام من العقائد تَمَسَّهُ. مثلا في الأعوام التي أعقبت رئاسة رونالد ريجان كان الحزب الجمهوري يُقرَن بعقلية الوفرة. وكانت السرديات الجمهورية الرئيسية سرديات رأسمالية عن رواد الأعمال الديناميكيين والرسالات البطولية لأمريكا. وكانت صفحة الافتتاحيات بصحيفة «وول ستريت جورنال» أهم أداة للتعبير عن الرأي المحافظ. وكانت آراء الحزب حول القضايا الأخرى مثل الهجرة تنطلق من الثقة في سوق الوفرة وقوة الفكرة الأمريكية. والآن يقود دونالد ترامب الحزبَ الجمهوري الذي يجسد عقلية الندرة. وتشكل شبكة «ديلي نيوز» برسالة نِقْمَتِها اليومية أهم ناطق عن الآراء المحافظة. لقد صار تقييد الهجرة القضية الأساسية للجمهوريين. ويُسعِد الجمهوريين اليوم أن يتخلوا عن مبادئ سياستهم المالية إذا كان في مقدورهم تمرير موقفهم تجاه الهجرة. وهذا ما فعلوه في اتفاق الموازنة مؤخرا. لقد حقق عهد ترامب نهضةً في الكتابة المحافظة. فمجلة «ناشيونال ريفيو» صارت أكثر إثارة للاهتمام الآن قياسا بأي وقت مضى طوال تاريخها. لكن نمط السياسة الذي تتطلبه «عقليةُ ندرة» ترامب كان كارثة للحكم المحافظ. فهو يصر على الحرب الدائمة ضد كل القادمين. ووجب على الساسة المحافظين الذين وجدوا أنفسهم يقاتلون إلى جانبه أن يقولوا وداعا لمعظم ركائز عقيدتهم المحافظة من حكم القانون إلى الانضباط المالي (في الموازنة) إلى الانشغال بالعالم والأخلاق القومية، وفكرة وجوب الحكم على الناس بمضمون شخصياتهم، وليس ألوان بشرتهم. إن موقف الحزب الجمهوري الذي يدعو إلى تقييد الهجرة مشروع تماما من الناحية النظرية. لكن ترامب ربطه على نحو قضى على شرعيته بإثارته الدائمة للنعرة العنصرية. وكان في مقدور الساسة الجمهوريين إدانة ذلك لكنهم لاذوا بالصمت. لقد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا رفاقا للتعصب الأعمى وأفسدوا قضيتهم. والحقيقة هي أن عقلية الندرة ونمط المحارب الدائم الذي تتطلبه، لا يتوافقان مع أية عقيدة سياسية متحضرة. ففي البداية يبدو أن المحاربين يقاتلون من أجل عقيدة ولكنهم في النهاية يغيرونها. وتحت تأثير هذه العقلية تتحول الأنجليكانية من عقيدة دينية إلى جماعة مصلحة تتبني عقلية الحصار، وتبجِّل اللاأخلاقي الوثني. وتحت تأثير هذه العقلية، تتحول الليبرالية من عقيدة تُقَدِّر حقوق الفرد وتداوُلَ الأفكار إلى عقيدة تحتفي بانفصال الجماعات وعدم التسامح الفكري.

إن عقلية الندرة تنتهي دائما بالقضاء على الفلسفة التي تستضيفها لأنها تشتغل على مستوى أكثر عمقا للروح. وكل هذا يمكن تجاوزه إذا أمكن اختفاء هذه العقلية خلال أعوام قليلة. لكنها لا تختفي. فالشروط الضمنية للندرة ستزداد سوءا فقط. إلى ذلك ترسخ عقلية المحارب نفسها بنفسها. فمع سحق اليمين لليسار يشعر اليسار بالحاجة لرد الصاع وهكذا وهكذا. هذا تَحَدٍّ يستغرق عمرَ جيلٍ. وسيخلف ترامب محارب آخر. وفي النهاية سيدرك المحافظون أنهم إذا كانوا يريدون الحفاظ على عقيدة المحافظة فلا يمكن أن يكونوا في نفس الحزب بصفة محاربي العشيرة.

وكذلك الليبراليون إذا كانوا يريدون الحفاظ على الليبرالية. وأخيرا سيدرك أولئك الذين يعتزون بالطريقة الديمقراطية للحياة أنهم سيتعين عليهم اتخاذ موقف مفارق أو مباين على نحو جذري يفوق أية مباينة سبق لهم أن تصوروها على الإطلاق. وحين يتضح هذا الإدراك ستبدأ إعادة الاصطفاف. ويمكننا، حتى مع الحواجز البنيوية، أن ننتهي إلى نظام حزبي تعددي على النمط الأوروبي. إن عقلية الندرة غير متوافقة في نهاية المطاف مع الفلسفات التي انحدرت عبر القرون. وسيقرر الليبراليون والمحافظون المحترمون في النهاية أنهم بحاجة إلى الانفصال عنها بنيويا. وسيدركون أن الوقت قد حان لبداية شيء جديد.