أفكار وآراء

إنه الاقتصاد يا ذكي

21 مارس 2018
21 مارس 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

لم يكن اكتشافا ما قاله بوش الأب وقت حرب العراق (إنه الاقتصاد يا غبي)، ولن يكون في المستقبل، فأهمية الاقتصاد في حياة الأمم والشعوب، بل والأفراد بمستوياتهم المختلفة معروفة منذ ما قبل الميلاد. الفرق بين الوعي بالموضوع  زمان والآن كبير بالطبع، والأهم أن الفرق بين النتيجة المترتبة على هذا الوعي في هذا البلد أو ذاك هائلة ويتوقف الأمر على مقدار قوة البلد وتقدمه الاقتصادي وطموحاته واحتياجاته إلى أسواق أو إلى مواد خام ومدخلات أو حتى إلى أيد عاملة من عند الآخرين. قد يكون رد الفعل الناتج عن الوعي هو شن حرب على الآخرين، أو التحايل لامتصاص خيراتهم، أو مساعدتهم لتطوير أنفسهم، أو الدخول معهم في شراكة عادلة أو شبه عادلة لتحقيق منافع مشتركة وهكذا. غير أنك لا تستحم في النهر مرتين بنفس الماء كما قيل، حيث تطرح الحياة كل يوم تموضعات أو تمظهرات جددة للأشكال القديمة من الأفكار والتصرفات. لقد لمست ذلك بوضوح غير مسبوق بالنسبة لي على الأقل، خلال زياره أخيرة إلى واشنطن مصاحبا مع زميلات وزملاء صحفيين لوفد بعثة طرق الأبواب التي تنظمها الغرفة الأمريكية سنويا إلى العاصمة واشنطن. قاد البعثة اثنان من الشخصيات المصرية المحنكة وصاحبة الخبرة الرفيعة في التعامل مع الدوائر الأمريكية الخمس المؤثرة. الاثنان هما المهندس طارق توفيق  رئيس الغرفة حاليا والأستاذ عمر مهنا الرئيس السابق لها ورئيس مجلس الأعمال المصري الأمريكي حاليا. أما الدوائر الخمس فهي الإدارة وتشمل بالطبع البيت الأبيض ووزارات مثل الدفاع والخارجية والخزانة ومجلس الأمن القومي، والكونجرس ومجلس الشيوخ، والإعلام، ومراكز البحوث الكبيرة “ثنك تانكس”،  وأهل البزنس وقادة الشركات الكبرى ومعهم منظمات المجتمع المدني ذات الصلة أو المؤثرة مثل ايباك.

أجرى الوفد المصري الزائر مقابلات مع رموز في كل تلك الدوائر وخرج بأفكار وانطباعات ونتائج تستحق التوقف عندها لما فيها من دروس ثمينة لمن يتعاملون مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن. هناك أولا التحضير المسبق والجيد للزيارة والمقابلات والجاهزية بمعرفة واسعة عمن ستتم مقابلتهم واهتماماتهم وطبيعة تحركاتهم السياسية ورؤيتهم لمصر والمنطقة. ولهذا الغرض كان الوفد قد ألتقي قبل السفر بوزراء الدفاع والداخلية والصناعة والتجارة والمالية والتخطيط والاستثمار والتعاون الدولي، بمصر، كما عقد اجتماعات للتحضير شملت كما فهمت من الأستاذ عمر مهنا بناء،توقعات دقيقة حول المحاور التي يمكن أن تطرحها الدوائر الأمريكية المختلفة وإعداد  المعلومات الدقيقة للرد على أي أسئلة يمكن أن تثار سواء على صعيد قضايا السياسة والحريات وحقوق الإنسان أو الملفات الخاصة بالتجارة والاستثمار  والإصلاح الاقتصادي. وقد كان... فقد تلقى الوفد استفهامات حول قانون الجمعيات الأهلية والانتخابات الرئاسية والعلاقات مع كوريا الشمالية ومع إسرائيل وقطر، وعن التعاون العسكري، والخطاب الديني و أوضاع المرأة والأقباط ، وإدارة السجون، إلى آخره . وكان على الوفد أن يرد بمصداقية وبمنطق عقلاني يفهمه مستقبلي الرسالة المصرية من الأمريكيين، حتى بغض النظر كما يقول طارق توفيق عما إذا كان صاحب  السؤال حسن النية أم لا ؟ مدفوعا بدوافع خاصة أم عامة ؟ .

المهم في الأمر أن الاقتصاد كان سيد الموقف على نحو لم يسبق من قبل. كيف؟ . لقد لفت الدكتور بول سالم مدير البحوث بمعهد الشرق الأوسط وهو من اهم المراكز البحثية  الأمريكية في هذا الشأن وأكثرها مصداقية إلى أن الأسئلة الأمريكية عن مصر تغيرت بشكل شبه كلي هذا العام وخلقت قصة الإصلاح الاقتصادي الشجاع والجريء وغير المتوقع بمصر فضولا واسعا لدى كيانات الدولة الأمريكية كافة وليس مجتمع الأعمال فقط  حول قوة مصر الاقتصادية المقبلة ، وزاد الطلب على معرفة وضع قوانين الاستثمار  والضرائب والتصدير والاستيراد والتضخم وحال الموازنة العامة مع تراجع لافت للاستفسارات السياسية  وبلغ الأمر حد أن بول سالم قال نصا إنه بات مستقرا هنا حاليا أن مصر اكبر بكثير من قصة هنا وأخرى هناك تنشرها الصحف الأمريكية الكبيرة بطريقتها بل وتراجعت مصداقية بعض تلك القصص بسبب المبالغات أو المغالطات ولهذا قرر المعهد إنشاء وحدة بحوث مصر مسايرة لهذا التطور المثير.

لقد توارى ذكر جماعة الأخوان في اللقاءات إلى حد بعيد كما قال طارق توفيق وعكف الأمريكيون على استكشاف الفرص في مصر وصولا إلى جعل مصر بين أربع دول إفريقية من المحتمل إبرام اتفاق تجارة حرة ثنائي معها في إفريقيا. المعروف أن ترامب رجل حمائي وهو ضد الاتفاقيات متعددة الأطراف لكن لا مانع عنده من اتفاقات ثنائية.

ما حدث برأيي أنه حدث تلاقي بين أمرين إصلاح اقتصادي جاد في مصر رغم كل الجدل الداخلي حول أثاره وبالذات على الطبقات الضعيفة، وهو إصلاح يحقق ما كان يدعو إليه الأمريكيون أنفسهم وبيوت المال والأعمال العالمية وان تم بتوليفة مصرية، وبين توجه أمريكي طاغ إلى اتباع نهج إدارة السياسة بمعيار إدارة صفقة ناجحة. لقد أعطي ترامب مثلا غاية في الوضوح على طريقته تلك حين أبدى مؤخرًا استعداده للقاء زعيم كوريا الشمالية، وعرفنا الآن أن السياسة كصفقة تبدأ بإظهار أقصى تشدد إزاء الخصم، ثم تنتقل إلى البحث عن صفقة ناجحة في اللحظة التي تراها انسب لها، ولهذا فالبعض يتوقع هنا أن يتكرر الأمر مع إيران ولو بعد سنوات من إظهار العين الحمراء على  الطريقة الترامبية. لعقود مضت استخدم الساسة التقليديون في الولايات المتحدة حقوق الإنسان والحريات  لتحقيق مكاسب جيواستراتجية أو مالية أو تجارية... وإذا كان من الصحيح أن أوضاع الحريات في عالمنا العربي كله لا تزال متدهورة أو تعاني الكثير، فان من الصحيح أيضا أن الجميع أصبح يعرف أن التلويح بورقة حقوق الإنسان له هدف آخر فلن يحمل السياسي الأمريكي أو الغربي أو غير الغربي ممن يستخدم تلك الورقة همنا، ويبيت الليل قلقا لأن الحريات في مصر أو غير مصر ليست على ما يرام. من هنا في ظني فإن الرئيس ترامب قال لنفسه ولم اللف والدوران إذا كان الهدف مصلحة فلنتحدث عن المصلحة مباشرة.  وقد لاحظ الوفد المصري من قبل الزيارة وبعدها أن اللغة اختلفت وتحدث الوفد عن قصص غير دقيقة في الصحف الأمريكية عن مصر مقدما براهين على عدم صحتها وربما تعمد نشرها هكذا، وأوضح أنه لا يوجد عمل منهجي للإخلال بالحقوق وإنما هي أخطاء أفراد بل أضاف ان بعض المسؤولين ومن شدة حماسهم يريد أن يخدم بلده لكنه يستخدم أساليب لا تتفق مع الممارسات العالمية. بيد أن مثل تلك التوضيحات لم تطل فقد قلت الحاجة  للحوار حولها كما قلت واصبح البحث عن منافع متبادلة سيد الموقف وإلى حد ان مجرد ظهور الغاز بقوة في مصر رفع من مكانة مصر لدي الأمريكيين لأنهم يرون ان ذلك سيمنحهم فرص حتى لو لم تكن الشركات الأمريكية هي التي تنتج الغاز في مصر (أتحدث عن غاز المتوسط). وأشار توفيق إلى أن وجود صفقة بين القطاع الخاص المصري والإسرائيلي لتسييل غاز إسرائيل بمصر كان أيضا محل ترحيب أمريكي ليس من أجل خاطر إسرائيل  بشكل خاص ولكن لأن معناها ان المصريين يبحثون أيضا عن الفرص ومصلحة بلدهم وبالتالي فسيعملون علي تقويه صفقات الأعمال مع الشركات الأمريكية بعيدا عن القيود الموروثة. العناية بالتبادل الاقتصادي ستصل إلى ذروة لم تبلغها من قبل، والمهم أن يكون ذلك على قاعدة من العمل من أجل السلام والمصالح المشتركة بعيدا عن الهيمنة وفرض الشروط وان تجري المعاملات بشكل عادل.... يا ذكي!