أفكار وآراء

«عمان 2040» .. السلطنة تعبر إلى المستقبل

20 مارس 2018
20 مارس 2018

بشير عبد الفتاح -

فطن البشر منذ أواسط القرن الماضي إلى أهمية التخطيط المستقبلي طويل الأجل ،الهادف إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة ،التي تعطي للدول والمجتمعات والشعوب قدرة على التطور والنهوض والتقدم من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة ،وتوفير إطار زمني طويل المدى لصنع مستقبل أفضل بفضل ما تؤمنه من إنذار مبكر يكفل اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ويتيح الاستعداد الأمثل لمواجهتها ،كما يعين في أحيان عديدة على الحيلولة دون وقوعها. وتبرز فى السياق ذاته أهمية الدراسات المستقبلية التي تسهم بدورها في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات عبر آليتين: تكمن أولاهما في توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخطط وصانع القرار حول البدائل الممكنة وتداعيات ونتائج كل منها، بينما تتجلى ثانيتهما في ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات من حوار وطني على مستوى النخب والجماهير بقصد تحديد الأولويات والاختيارات الممكنة، وحسم بعض الخلافات وتقريب وجهات النظر.

وبينما كان للدول المتقدمة قصب السبق في تبني نهج التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد، من خلال وضع الخطط التنموية بعيدة المدى ،انطلاقا من الدراسات المستقبلية التي تقوم على نمط التفكير الاستراتيجي الذي يتوقع التغيرات الجذرية الحالية والمستقبلية وتأثيراتها على تطور المشروع المطلوب تحقيقه على مدى فترة زمنية محددة ، فقد أبت بعض الدول النامية الراغبة في اللحاق بركب التقدم والازدهار والتنمية الشاملة والمستدامة ،إلا أن تحذو حذو تلك الدول المتقدمة. وعلى مستوى العالم العربي والشرق الأوسط، ضربت سلطنة عمان بحق مثلا رائعا في هذا الصدد، حيث يعد مشروع «عمان 2040» نموذجا يحتذى في التخطيط الاستراتيجي المستقبلي التنموي بعيد المدى.

فقبل أعوام قلائل على الانتهاء من تنفيذ رؤية «عمان 2020»، وحرصا منها على تحقيق تراكم الإنجازات في عملية التنمية المتواصلة والمستدامة ،أطلقت السلطنة خطة الرؤية المستقبلية «عمان 2040» للنمو طويل المدى خلال الفترة من 2020 إلى 2040، بوصفها رؤية ثاقبة تستشرف المستقبل وتتطلع إلى المزيد من التطور وتحقيق الإنجازات وفق منظومة عمل طموحة، تسهم في صياغتها كل شرائح المجتمع لتحديد الأهداف بدقة متناهية ورسم خارطة العمل وآليات التنفيذ والتفكير في عام 2040 مما يجسد رؤية بعيدة المدى في التخطيط الاستراتيجي المستقبلي في التنمية والنهضة.

وفي ديسمبر من عام 2013 ، أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه - أوامره السامية بتشكيل اللجنة الرئيسية للرؤية المستقبلية «عُمان 2040» برئاسة صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد ، توخيا لإعداد الرؤية وبلورتها وصياغتها بإتقان تام ودقة عالية ،استنادا على توافق مجتمعي واسع وبمشاركة فئات المجتمع المختلفة ،على أن تكون مستوعبة للواقع الاقتصادي والاجتماعي ومستشرفة للمستقبل بكل موضوعية ،لكي يتم الاعتداد بها كدليل ومرجع أساسي لأعمال التخطيط الاستراتيجي خلال العقدين المقبلين. وقد حرص القائمون على أمر تلك اللجنة على أن يستفيد أعضاؤها من مختلف التطورات الاقتصادية والاجتماعية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، مع الأخذ في الاعتبار التقييم الذي قامت به الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط للرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني «عمان 2020».

وفى مسعى منها لمباشرة المهام المنوطة بها لتحويل مرئيات المشروع إلى واقع فعلي، قامت اللجنة الرئيسية، التي تضم شراكة مجتمعية واسعة حيث يمثل مجلس الشورى برئيسه، وكذلك مجلس الدولة بالإضافة إلى عدد من الخبراء الاقتصاديين البارزين وكذلك عدد من الوزراء المعنيين، بعقد عدة اجتماعات خلال الأعوام السابقة لوضع الأسس الصحيحة للرؤية المستقبلية «عمان 2040 »، كما يتم التخطيط حاليا لاستضافة السلطنة مؤتمرا بهذا الخصوص خلال النصف الثاني من عام 2018،تشارك فيه أطراف دولية وإقليمية بغية مناقشة تلك الرؤية المستقبلية.

وتوخيا منها لتحقيق غاياتها التنموية بعيدة المدى، تنطلق خطة«عمان 2040» من عدة منطلقات جوهرية كتحديد الفرص المتاحة والاستغلال الأمثل للمزايا النسبية لكل قطاع اقتصادي وخاصة المطارات والموانئ والمناطق الصناعية والسياحية ، إضافة الى الموارد المتوفرة بما يحقق تنويع مصادر الدخل والتوسع في مشاريع التشغيل الذاتي ، مع التأكيد على أهمية التوزيع المتوازن للتنمية على المحافظات بما يتناسب مع حجم واحتياجات كل محافظة، فضلا عن العمل على تحقيق التوازن بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي في مسيرة التنمية ، وهو محور بالغ الأهمية في هذه الرؤية الاقتصادية العمانية بعيدة المدى على اعتبار أن اقتصاد السلطنة يعد أحد أهم الاقتصادات الناشئة التي تتمتع بمقومات قوية تشجع على جذب مزيد من الاستثمارات خاصة في القطاعات المذكورة آنفا، في الوقت الذي تلتزم فيه الدولة بزيادة مخصصات الرفاهية الاجتماعية بعد أن أكملت إقامة البنية الأساسية عبر مشروعات استنفدت جزءا كبيرا من الاستثمارات ، حتى حان الوقت لتحويل وتوجيه جزء كبير منها إلى مجرى التنمية الاجتماعية المتدفق.

ومن اللافت حقا فى رؤية «عمان 2040» تركيزها البناء على تنمية قطاعات اقتصادية غير نفطية بغية زيادة مساهمتها في الناتج القومى الإجمالي للسلطنة مستقبلا، كقطاعات السياحة والزراعة والثروة السمكية والاتصالات والخدمات اللوجستية والموانئ، وهي محاور واعدة تمثل أدوات رئيسية يمكن أن تكون عماد الاقتصاد العماني خلال العقدين القادمين. فلقد شارك القطاع غير النفطي على سبيل المثال في تمويل موازنة عام 2013 بنحو 16 بالمائة من الإيرادات العامة ،وهي نسبة تحتاج إلى تحفيز من خلال إيجاد بدائل ضمن خطة النمو المنتظرة.

وانطلاقا من تركيز رؤية «عمان 2040» على زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في تنمية الاقتصاد العماني خلال المرحلة المقبلة، فقد كان طبيعيا وبديهيا أن تحتل السياحة مكانا مميزا على أجندة ذلك المشروع التنموي بعيد المدى، وذلك تماشيا مع إدراك القائمين على أمر السياحة في السلطنة لما يمكن أن يسهم به ذلك القطاع الواعد في تنمية ونهضة الاقتصاد العماني وإنجاح خطة «عمان 2040» ،في وقت يتوقع الخبراء أن تغدو السياحة العالمية بعد عشر سنوات المحرك الاقتصادي الرئيس للتوظيف على المستوى العالمي بأكثر من 11%.

وفى هذا السياق، جاء اعتماد السلطنة ما يعرف بـ»الاستراتيجية الوطنية للسياحة (2016 ـ 2040 م )»،والتي تستهدف توفير أكثر من 500 ألف فرصة عمل، وزيادة حجم الاستثمارات المتوقعة خلال الفترة (2016 – 2040م) لتصل إلى ما يقارب 19 مليار ريال عماني، تساهم استثمارات القطاع العام العماني وحده بما نسبته 12% منها. كما أنه من المؤمل زيادة مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2040م وفقاً لمنهجيات مختلفة من (6 – 10%) علاوة على تنمية الاقتصاد المحلي وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وزيادة عدد هذه المؤسسات بشكل مطرد وملموس حتى عام 2040م. كذلك، ستتبنى الاستراتيجية العمانية للسياحة، استراتيجية الطلب الممتاز، والذي بموجبه سيزور السلطنة بحلول عام 2040 حوالي 5.3 مليون سائح دولي سنوياً، و1.7 مليون من زوار اليوم الواحد، و4.6 مليون زائر محلي، بما يتيح أعداد زوار أقل مع إنفاق وإسهام اقتصادي أعلى، وآثار سلبية أقل.

ولقد بدأت السلطنة تجني الثمار الأولية لمشاريع تطوير السياحة العمانية (2016-2040) على نحو ظهر جليا في الإنجازات الاقتصادية السياحية التي حققتها السلطنة خلال السنوات القليلة المنقضية بهذا الخصوص رغم كساد أسواق السياحة على مستوى الإقليم بسبب أجواء عدم الاستقرار . فقد أكدت أحدث دراسات منظمة السياحة العالمية تزايد معدلات الإقبال السياحي على زيارة سلطنة عمان، مع ارتفاع أعداد السائحين من دول الخليج وألمانيا والدول الاسكندنافية، إضافة إلى تزايد عدد الرحلات المتجهة الى سلطنة عمان خلال الآونة الأخيرة، حيث ارتفع عدد الذين زاروا السلطنة خلال العام الماضي 2017 بدرجة ملحوظة، بالتزامن مع زيادة عدد المنشآت الفندقية، إذ تجاوز الثلاثة ملايين سائح، جاء كثيرون منهم عبر السفن السياحية.وقد أرجعت الدراسات الدولية المتخصصة ذلك الإقبال السياحي الدولي اللافت على السلطنة إلى تمتعها بمقومات تاريخية وموروثات حضارية تشكل مقصداً مهماً لهواة الرحلات، حيث تنتشر القلاع والحصون الأثرية والجبال والأودية والشواطئ، جنباً إلى جنب مع المعالم العصرية في المدن الحديثة، علاوة على حالة الأمن والاستقرار التي تنعم بها السلطنة.

وتؤكد الدراسات الاقتصادية المتخصصة أن السلطنة أصبحت من أهم مراكز السياحة العالمية، نتيجة استراتيجية التنمية المستدامة الشاملة، التي استهدفت إقامة مجموعة من أحدث المنتجعات والفنادق، التي من أشهرها فندق «قصر البستان»، الذي يعد من أبرز وأهم المعالم السياحية على المستويين الإقليمي والعالمي. كما نفذت الحكومة عدة برامج متكاملة لاستثمار المواقع المتميزة الرائعة التى يندر أن تجتمع معاً في بلد واحد، وذلك في إطار خطط تنويع مصادر الدخل، التي يوجه بتنفيذها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه .

وفي بورصة برلين ٢٠١٧ للسفر العالمي ، والتي تعد أكبر سوق بهذا الصدد لدرجة أنه يطلق عليها قمة العالم السياحية ، نظراً لأهميتها وضخامة العدد الذي يشارك فيها من قيادات ورموز صناعة السياحة والسفر حول العالم، التي بدأت لأول مرة عام 1966م،نال الجناح العماني إعجاب وإشادة المتخصصين والمشاركين والزوار للمعرض وللسوق العمانيين اللذين روعي في تصميمهما العديد من المقومات ومزايا الجذب التي تشترك فيها عناصر الحداثة مع الطابع المعماري العماني الأصيل واستخدام التقنيات الحديثة التي تسهم فى تسهيل وتحديث وتطوير عروض وخدمات الترويج السياحي للسلطنة. ونتيجة لذلك،تم خلال هذه الفعالية عقد صفقات عديدة مع الشركات العالمية التي تضع السلطنة نصب عينيها. كما تباحث الوفد العماني مع مجموعة من قيادات الشركات، التي تبحث عن أسواق جديدة، بين الوجهات التي تتمتع بالاستقرار والأمان والمقومات الطبيعية والتاريخية والتراثية، كما أشاد زوار الجناح بالحراك السياحي العماني الكبير، الذي يرتكز على السياسات الحكيمة لجلالة السلطان قابوس – أعزه الله - التي أرست الأمن والاستقرار فى ربوع السلطنة، وجعلتها واحدة من أهم الوجهات السياحية حول العالم، كما أعطت انطباعات رائعة للعالمين عن إنجازاتها.

تبقى الحاجة ملحة إلى اعتبار خطة»عمان 2040» بمثابة الوثيقة التنموية المستقبلية العليا التي ستبنى عليها باقي الاستراتيجيات التنموية القطاعية في الزراعة والصناعة والسياحة والتعليم وغيرها، فمن شأن ذلك أن يمثل حماية لكافة جهود التنمية المستقبلية في السلطنة من مخاطر التشتت أو التعثر في منتصف الطريق، أو حتى الإخفاق ،لا قدر الله. ومن هنا،تبرز أهمية توحيد الجهود التنموية وتحقيق الانسجام بين الرؤية المستقبلية «عمان 2040» وباقي الرؤى والمشاريع الوطنية التنموية القطاعية الأخرى، حتى لا تتشتت الجهود أو تتضارب الأهداف والمسارات، ومن ثم تهدر الأموال وتتبدد الطاقات فى صياغة خطط قطاعية أو مشاريع فرعية متنوعة، قد لا تتناغم مع الرؤية المستقبلية الأم«عمان 2040». وبناء عليه ، وحتى تبلغ عملية التنمية المستدامة والشاملة مبتغاها ومنتهاها على النحو الذي ينشده العمانيون ،قيادة وحكومة وشعبا، يتعين أن تبقى اللجنة الرئيسية لتلك الرؤية المستقبلية هي المظلة العليا ،التي تمضى في كنفها وبالتنسيق معها ،أية مشاريع أو خطط تنموية مستقبلية أخرى في السلطنة .