أفكار وآراء

المصلحة العامة .. تفويض غير رسمي

18 مارس 2018
18 مارس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي

[email protected] -

التفويض الرسمي يعطيك صلاحيات محدودة وفي زمن محدود، وفي مكان محدود أيضا، ووفق آليات محددة، ومحكوم كل ذلك بتشريع تقره الأنظمة المنظمة للعلاقة بينك وبين مصالح العامة، وبخلاف ذلك، تنتقل أنت من بيئة ضابطة تحد من ممارساتك الخاطئة إلى بيئة حرة مطلقة،

يعد مصطلح «المصلحة العامة» متداولا- ربما- أكثر من أي مصطلح آخر، ويحظى بتسويق منقطع النظير، فما يكاد مجلس يخلو الحديث فيه عن «المصلحة العامة»، لأن هذا المفهوم أو المصطلح يعني لي ولك الصدق، والأمانة، والإخلاص، ويعني توافق الممارسات مع الأنظمة والقوانين، ويعني النأي بعيدا عن تضارب المصالح، ويعني الوقوف على الحياد، لكل ما من شأنه أن يكون على تماس بمصالح العامة، وبالتالي فهو مفهوم شديد التعقيد، مصطلحا ومعنى في الحياة، وهو مفهوم شامل وجامع، وينتصر أكثر إلى الخلق القويم، فهو يمثل قيمة معينة من القيم الإنسانية السامية، ولا ينزل إلا هذه المنزلة.

وفي جانب آخر من الفهم، قد ينظر إليه على أنه مبرر لتجاوز الكثير من الممارسات الخاطئة تحت ذريعة «المصلحة العامة» ولذا يتحول المصطلح إلى معنى فضفاض، وفق هذه الرؤية، وهذا ما يفضي أحيانا إلى كثير من الترهل خاصة عندما لا تتوافق الممارسة مع المعنى، ولذلك أعاب الله هذا السلوك: (يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

تعيش «المصلحة العامة» حالة صراع مرير يعيشه كثير من الناس، والمتحرر من هذا الصراع -يقينا- لا تعنيه «المصلحة العامة» لا من قريب ولا من بعيد، والصراع المشار إليه هنا، هو ذلك الحوار «المنولوجي» القائم بين الإنسان وذاته، فالذات الأمينة الصادقة لا يمكن أن تغض الطرف عن استحضار ما يجب الحذر منه، والواجب تجاهه نحو مفهوم «المصلحة العامة» وهي تؤدي عملا ما، والذات الأخرى لا تقيم وزنا لفهم «المصلحة العامة» وبالتالي لا يهم أن تتداخل «المصلحة العامة مع «المصلحة الخاصة» وهذه إشكالية موضوعية في ذات العلاقة بين المفهومين، وهذا التداخل هو ما يوجد التصدع في العلاقة بين الإنسان وذاته، عندما ينزل «المصلحة العامة» منزلة الخلق الرفيع.

وهناك ثمة علاقة موضوعية ما بين «المصلحة العامة» و«المصلحة الخاصة» ولا يوجد بينهما إلا فاصل دقيق كما هو الفاصل بين البحر واليابسة، والذي يحدد هذا الفاصل هو مجموعة الممارسات التي يقوم بها الفرد في المجتمع، أو في بيئة الاشتغال، سواء كانت بيئة رسمية أو بيئة اجتماعية (خاصة) فكل مجالات الاشتغال هي على تماس مباشر مع كلا الطرفين، ولذلك من يشتغل على الحياد، يكون قد استرشد الصواب، وتخطى عقبة محاصرة النفس له، وهذه حالات النفس الصالحة في أغلب الأحيان.

فإلى من يشار عند الحديث عن «المصلحة العامة»؟ هناك من يرى: إنه الموظف الرسمي، وذلك انطلاقا من أنه مسخر لخدمة العامة، وأنه يتقاضى أجرا ماديا ومعنويا مقابل ذلك، وهناك من يرى إنه البرلماني الذي انتخبه الشعب، وذلك لأنه يتحدث باسم العامة، وأنه نذر نفسه لخدمة العامة، وعن طواعية مطلقة، وهناك من يرى إنه عضو مؤسسة المجتمع المدني، وهو الأقرب إلى البرلماني، وما يميزه أكثر أن ما يؤديه من عمل لخدمة العامة، فإنه يؤديه بلا مقابل، إلا ما يمنحه له المجتمع فقط «من دون مطالبه أو انتظار»، وهناك من يرى أنه ذلك الفرد المتحرر من كل هذه الانتماءات، حيث تتحقق عنده القدرة أكثر من غيره للحديث عن المصلحة العامة، ويعلل سبب ذلك أن جل المبادرات الخيرة لأبناء المجتمع هي من هذه الفئة الأخيرة، وهي إن أقدمت على فعل الخير للعامة، فإنها تقدم من وحي قناعتها بأهمية خدمة هذا القطاع العريض من عامة الناس، دون النظر إلى أي مسبب آخر، أي أنها سلت نفسها من مظان المصالح الخاصة.

يتوغل مفهوم «المصلحة العامة» وهذا ما يجب التأكيد عليه، في كل جزئيات حياتنا اليومية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننفصل - في كل ممارساتنا - عن التداخل مع ما يعنيه، أو يشير إليه هذا المعنى، فتربية أولادنا- مثالا- وهي إحدى خصوصياتنا، تدخل فيها «المصلحة العامة» فنحن نريدهم أن يكونوا أبناء صالحين لمجتمعهم ووطنهم، ولذلك نعدهم الإعداد الجيد: خلقا وتعليما، وصحة بدنية ونفسية وعقلية، هم صحيح، سيحملون أسماءنا في قادم الأيام، ولكنهم يظلون- في المقابل- مواطنين، نسعى من خلال فترة التربية، التي قد تطول، أن يكونوا أكثر صلاحا لمجتمعهم، وهذه غاية كبرى في مفهوم التربية، وفي مفهوم «المصلحة العامة».

عندما يتوارد إلى الذهن مفهوم (المصلحة العامة) فإن الصورة الذهنية الحاضرة له هي مصلحة البلاد والعباد، وهي مصلحة تستقصي المساحة الجغرافية للوطن شرقا وغربا، ولا تستثني أي فرد في الوطن، أو أي زاوية من زواياه، أو أي عنوان من عناوينه، ولذلك فالذين ينتصرون لـ «المصلحة العامة» فهم أناس- حقا- استطاعوا تجريد أنفسهم من الوقوع في مطبات المصالح الخاصة، وهي كثيرة، وبالتالي استطاعوا إضافة لبنات مهمة في بنيان الصالح العام، فاستحقوا بذلك لقب «المواطن الصالح» الذي يرجح دائما مصلحة العامة على مصلحته الخاصة، وهذا مستوى عال من مستويات المثالية، وليس يسيرا أن يصل إليه الكثيرون من الناس، والمجتمع مليء بمثل هذه الصفوة الخيرة من أبنائه.

عندما نقول: إن المصلحة العامة .. تفويض غير رسمي- كما هو العنوان أعلاه- فإن في ذلك دلالة على أن المسألة شديدة الخصوصية بالفرد نفسه، وتقاس هذه الحالة بحالة «الصائم» فالصائم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخضع لرقابة ما، من أي أحد كان، وبالتالي فهو رقيب لنفسه، وكذلك من يعيش مراعاة «المصلحة العامة» فلا بد لهذه العلاقة أن تعقد مع الضمير الإنساني النظيف صفقة رابحة من الأمانة والصدق والرضا، وإلا أوقعت هذا الصفقة حالها في مطب الخسارة، والخسارة هنا كبيرة وقاسية، لأنها تعري هذا الإنسان من أخلاقه التي يتعشم الناس بأنها سامية، والمحملة بالخصوبة الاجتماعية من التربية والنسب والقيم والدين، ولأنها- أيضا-تظل في كل مناخاتها متعلقة بالمصالح العامة، وهؤلاء العامة يتناثرون على طول البلاد وعرضها، وبالتالي يظل في حكم المستحيل المطلق أن تصل إلى كل العامة لتؤدي لهم حقوقهم التي استحوذت عليها- في ظرف ما- أو على الأقل تستسمحهم عذرا، لكي تعيش حالة من الأمن النفسي والرضا، أو التحرر من تأنيب الضمير.

فالتفويض الرسمي يعطيك صلاحيات محدودة وفي زمن محدود، وفي مكان محدود أيضا، ووفق آليات محددة، ومحكوم كل ذلك بتشريع تقره الأنظمة المنظمة للعلاقة بينك وبين مصالح العامة، وبخلاف ذلك، تنتقل أنت من بيئة ضابطة تحد من ممارساتك الخاطئة إلى بيئة حرة مطلقة، قياس مستوياتها، بين يديك، وضميرك، وخوفك، ورضاك عن نفسك، وهنا الامتحان الصعب، وهنا تمتحن الإرادات، وهنا تصدق النوايا، وهنا تظهر الملكات الخيرة عند الإنسان، فإذن التفويض الرسمي يمثل لك حماية ما، ولكن عندما تكون خارج هذا التفويض، فإن مقياس قيمك المختلفة يبدو أكثر وضوحا وصدقا، فإن جانبت الصواب في علاقتك بـ «المصلحة العامة» فأنت أعطيت انطباعا سيئا عن نفسك، وإن أحسنت كان لك فضل السبق في تعزيز هذه القيم التي تحملها، وتنادي بها، وتوظفها على أرضية الواقع.

ينظر إلى مجموعة الانتهاكات التي يقوم بها الناس، سواء في حقهم أو في حق الآخرين من حولهم على أنها من صميم «المصلحة العامة» ولذلك فـ «المصلحة العامة» تشبه بعنق زجاجة ليس من اليسير العبور منه، ومن يرى في نفسه أنه استطاع في موقف ما، انتزاع ما ليس له، سواء: بالكذب، أو التحايل، أو بمعرفة فلان من الناس «واسطة» أو باكتشافه ثغرة في القانون ، واستطاع استغلالها، أو باستغلال منصب، أو وجاهة ما، أو مقايضة خاصة جدا، فإنه بذلك أوقع نفسه في شرك هذا المفهوم، وما حصل عليه لا يعد إنجازا، بقدر ما يعد انتهاكا صارخا في حق «المصلحة العامة».