أفكار وآراء

نحو استفادة عربية من دروس الأزمة الكورية

17 مارس 2018
17 مارس 2018

د. عبدالعاطي محمد -

الانكفاء العربي على أزماته دون النظر لما يجرى في بقية مناطق العالم من مستجدات خطأ جسيم بكل تأكيد، وذلك بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة، وتنوعت قدرات التأثير وصارت يسيرة المنال أمام الجميع. وعليه فإن ما جرى وسيجري بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ليس بعيدا في تأثيره عن حاضر ومستقبل الأزمات العربية، لأن فيه من الدروس ما يتعين على صانع ومتخذ القرار العربي أن يستفيد منها.

حتى وقت قريب للغاية كانت أصداء المواجهة المرتقبة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية تثير الفزع في المنطقة العربية أكثر مما تدفع إلى التأمل العميق لمسارها والاهتمام بتفاصيلها اليومية، وما أكثرها، بهدف استخلاص العبر والدروس وتفعيل ذلك في اتجاه العمل على التوصل إلى حلول عادلة وسلمية للأزمات العربية قديمها وحديثها. وإذا بالمنطقة العربية تستيقظ صباح يوم ليس بالبعيد على نبأ لم تكن تتوقعه يقول إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وافق على عقد قمة له مع الرئيس الكورى الشمالي كيم جونج أون لبحث ما بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية من خلافات حادة حول امتلاك الأخيرة للسلاح النووي.

قرار ترامب جاء مفاجئا في الحقيقة، وأحدث صدى دوليا كبيرا. فمنذ تصاعد الخلاف بين البلدين في الأشهر القليلة الأخيرة، خاصة بعد إجراء كوريا الشمالية لعدة تجارب نووية وإنتاجها صواريخ باليستية يمكن أن تصيب أراضي للولايات المتحدة، دخل الرجلان ترامب وكيم جونج في سلسلة من تبادل الأوصاف الجارحة عكست استفزازا متبادلا أعطى الانطباع بأن العالم أصبح على شفا حرب نووية، وجرت اتصالات دولية عديدة بين واشنطن وكل من الصين وروسيا لإجبار كوريا الشمالية على التراجع، وصدرت قرارات من مجلس الأمن تدين تصرف بيونج يانج، وبدأت واشنطن في شن حملة عقوبات اقتصادية قاسية عليها لعلها ترتدع وتوافق على المطالب الأمريكية. وفي ظل وصول التصعيد في التهديدات المتبادلة إلى الخطوط الحمراء وعدم حدوث أي تغير في موقف أي من البلدين، بات العالم، والمنطقة العربية جزءًا منه، على اقتناع بأن الحرب في شبه الجزيرة الكورية باتت خيارا وحيدا. ولذلك فإن قرار ترامب بالموافقة على عقد القمة كان مفاجئا حقا، حتى لوزير خارجيته ريكس تيلرسون (قبل الإعلان عن إقالته منذ بضعة أيام قليلة في مفاجأة أخرى أيضا!!) والذي كان قد علم بالقرار فقط وهو في جولة إفريقية!.

وبمرور الوقت وأخذا في الاعتبار ردود الفعل الدولية التي سارعت بالترحيب بهذه الخطوة، تكشفت جزئيا بعض التفاصيل التي قادت إلى خطوة كهذه وصفت بأنها تاريخية على أساس أنه لم يسبق لرئيس أمريكي أن اجتمع مع زعيم كوري شمالي. ومن التفاصيل أن الزعيم الكوري الشمالي تقدم بالعرض عبر وساطة من كوريا الجنوبية، وأن ترامب كان قد ألمح منذ فترة إلى أنه مستعد للقاء كيم يونج، وجرت اتصالات بين القيادتين الأمريكية والصينية فهم منها أن بكين لم تكن بعيدة عن هذا العرض.

الدرس الأول المستخلص من التحول الدراماتيكي في موقف ترامب من هذه الأزمة هو أنه جريء للغاية في اتخاذ مواقف غير معتادة، حتى لو أغضبت من حوله ويفاوض الآخرين بعد اتخاذها، ولا يعبأ بالتداعيات المترتبة عليها حيث لا يهمه الفشل في الوصول إلى نتائج مهمة بناء على هذه الجرأة، بل أن الفشل في حد ذاته جزء من رؤيته بأن تبقى الأزمة التي ينخرط فيها مشتعلة!. كما أن هذا جزءًا من معالم نزعنه الشعبوية حيث العمل المنفرد بعيدا عن المؤسسات بهدف اكتساب شعبية كبيرة (تردد أنه بدأ من الآن الاستعداد لخوض الفترة الرئاسية الثانية عام 2020). وبعيدا عن ما قالته وسائل الإعلام الأمريكية عن أن خطوة كهذه تشكل انتصارًا لترامب لأنه أجبر عدوه على القبول بالجلوس على مائدة المفاوضات، أو الانتقادات التي وجهت له بأن من الوارد أن تفشل المفاوضات وأن بيونج يانج يصعب للغاية أن توافق فعلا على نزع سلاحها النووي ووقف التجارب كما غرد هو في أول توضيح لقراره، بعيدا عن هذا وذاك، فمن الواضح أن الرئيس ترامب يهوى تقلب المواقف أو الذهاب من النقيض إلى النقيض. وعلينا أن نتذكر ما أكده ترامب مرارا أن الإدارات السابقة له تفاوضت لعشرين عاما مع بيونج يانج ولم تفلح في وقف نشاطها النووي، وأنه لا يريد أن يكرر فشل الإدارات السابقة ولذلك كان رافضا بشدة نصائح مستشاريه بأن يتفاوض معها، وها هو نفسه يقبل بالتفاوض!. عربيا، استنادا لهذا الدرس الأول يتعين التعامل مع ترامب في الملفات العربية الساخنة سواء القضية الفلسطينية أو غيرها من أزمات في سوريا واليمن وليبيا على أساس أنه بمكن أن يبدل مواقفه بين يوم وليلة، وإن أصر على موقف بعينه (كحالة نقل السفارة للقدس مثلا)، فإنه يريد بذلك تعقيد الوضع وزيادته تأزيما بكل ما يرتبه ذلك من خسائر على الطرف العربي. هنا فإن الرفض والثبات على الموقف العربي الموحد الذي يحقق المصلحة العربية أولا، هو التصرف المطلوب. لا يجب التسرع بالتماهي مع رؤى الرجل لكيفية حل القضايا العربية لأنه متقلب وعينه دائما على ما يظهره متميزا عمن سبقوه بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك. ولا قلق من الإعراب عن الرفض ولنا أن نتذكر تهديده بأنه سيقطع المساعدات عن الدول التي رفضت قراره بشأن القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يفعل.

الدرس الثاني أنه من الممكن الحديث عن حرب باردة جديدة تسود عالم اليوم بشكل ومضمون مختلفين عن الحرب القديمة، ولكن من الصعب الحديث عن وقوع حرب عالمية ثالثة ولا عن حرب نووية. من يروج لذلك هدفه فرض الاستسلام على الآخرين في الأزمات السياسية وقاية من هذه الحروب التي لا تزال افتراضية. لقد تعقدت العلاقات الأمريكية - الروسية في الحالة الأوكرانية، ووصل الأمر في بعض الفترات إلى أن الحرب الثالثة على الأبواب، ولم يحدث شيء من ذلك، وتكرر الخوف في الحالة الكورية ذاتها إلى حد المواجهات بالسلاح النووي بين واشنطن وبيونج يانج، ولم يحدث أيضا شيء من ذلك.

أزماتنا العربية تعيش أجواء الحرب الباردة بين قوى كبرى عديدة، وهو أمر لا نرغبه بكل تأكيد لأن هذه الأجواء تعرقل حل هذه الأزمات، ولكن لا يجب الانصياع لما يتردد من توقعات أو ما يتم تسريبه عمدا من معلومات تتعلق كلها بأن المنطقة مقبلة على التورط في حروب من هذا النوع. ما حدث بين واشنطن وبيونج يانج بالتحول من المواجهة إلى التفاوض يؤكد ذلك، ودرس يتعين تفهم أبعاده جيدا.

وأما الدرس الثالث فإنه يتعلق بالجهود التي بذلت من وراء الكواليس وقادت إلى تقدم الزعيم الكوري الشمالي بعرض عقد القمة، وقبول ترامب السريع له دون حتى انتظار استشارة وزير خارجيته (قال إنه فوجئ بالقرار، ثم قلل من شأن ذلك الشعور بأن قال إنه لم يكن يستبعد ذلك!)، وهنا فإن الصين لعبت دورا مهما لأنها خسرت كثيرا من العقوبات الأمريكية على بيونج يانج، ولم تكن ترتاح لبرنامجها النووي لأنه يهدد الأمن في بحر الصين الجنوبي أو شبه الجزيرة الكورية، هذا فضلا عن علاقاتها الجيدة مع واشنطن التي تمر بصعوبات نتيجة سياسات ترامب الاقتصادية ولا تريد أن تزداد الأمور سوءا، ولكن الدور الحاسم جاء من كوريا الجنوبية شقيقة الشمالية وكلاهما يحلم بلم الشمل الذي انقطع منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي. وفي الفترة الأخيرة تقاربت الكوريتان بشكل أفضل من السابق ويجري الإعداد لعائلات ولقاءات للمسؤولين في اتجاه التطبيع والتهدئة. وتعلم سول أنها هي وطوكيو أكثر المتضررين من اندلاع حرب نووية أو حتى تقليدية في المنطقة إذا تأزمت العلاقات في هذا الاتجاه بين واشنطن وبيونج يانج، ولذلك كانت سول من أول المتحمسين لوقف المواجهة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. ومعروف أيضا أن سول تحتضن قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة، وإن وقعت المواجهة فإنها هي التي ستدفع الثمن الباهظ. المعنى من هذا الدرس الثالث أن الأطراف العربية كلما وسعت نطاق تحالفاتها مع قوى كبرى ولم تقصرها على الولايات المتحدة استطاعت أن تجد عونا خارجيا يمكنها من الاقتراب من حل أزماتها الراهنة بما فيها القضية الفلسطينية.

لقد استخدمت كل من واشنطن وبيونج يانج هذه الآلية، أي الأطراف الإقليمية الدولية المؤثرة، فلا أقل أن تلجأ الأطراف العربية إلى الآلية نفسها، والاستفادة مؤكدة استنادا إلى أحدث فصول الأزمة الكورية. هذه الدروس يتعين أن تكون تحت أنظار الدول العربية وتعمل على الاستفادة منها شرط توافر أقصى مستويات حسن النيات، والفرص ليست ببعيدة لمن يتعظ!.