1275697
1275697
إشراقات

الاقتصاد الإسلامي.. ودوره في علاج الأزمات المالية

15 مارس 2018
15 مارس 2018

التوازن المطلوب -

فوزي بن يونس بن حديد -

[email protected] -

«لا شك أن الدول بما فيها دول الإسلام تعرضت وتتعرض لمشاكل اقتصادية بين الفينة والأخرى، وليست هناك دولة في العالم بمنأى عن هذه المشاكل، لكن التفاوت يكمن في طريقة تعامل هذه الدولة أو تلك مع الواقع الجديد، هناك دولة تستطيع أن تخرج من المحنة بسلام وهناك أخرى ربما تقع في الفخ ويؤدي بها الأمر إلى الإفلاس، لذلك فإن الشعوب لها دور كبير في إحداث التوازن المطلوب عندما تحدث أزمة اقتصادية عالمية يمكن أن تضر اقتصادات دول بأكملها، وعلى هذه الشعوب أن تتبع سياسة التقشف المرغوبة شرعا والمطلوبة حياتيا حتى تخرج الدولة من عنق الزجاجة وعلى الدولة أن لا تمس أساسيات المواطن ولا تثقل عليه بما هو غير قادر على فعله، وبهذه الطريقة الذكية تنجح الحكومة وينجح الشعب في إنقاذ البلاد مما قد تقع فيه من مشاكل لا حصر لها».

اهتم الإسلام بالفرد كما اهتم بالجماعة، فلم يضيّع حق الفرد وهو يعيش في جماعة وقدّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد إذا اقتضى الأمر ذلك، فأباح الملكية الخاصة وفق منظومة أخلاقية وتربوية واقتصادية دون إجحاف ولا تقصير وراعى الملكية الجماعية والمحافظة عليها بقدر ما يقدّم كل فرد منهم ما يحفظ كيان الدولة ويواصل وحدتها وتآلفها بدليل قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» لأن الجماعة تكرّس العدل، والفرقة تكرس الطبقية وتنشر الفقر بين أوساط المجتمع الواحد.

ولقد أوجد الإسلام الدين الحنيف نظام التكافل في المجتمع ليبقى المسلمون جميعا يعيشون تحت مظلة الاهتمام بالفرد من حيث إنه جزء من المجتمع ينبغي الاعتناء به وتوفير حاجياته الضرورية من الأكل والشرب واللباس والمسكن، وربما أيضا الكمالية إذا توفرت القدرة المالية والمادية، كما حدث في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حينما لم يجد فقيرا يصرف له مال زكاة وفي سنتين ونصف تقريبا قضى على شيء اسمه الفقر في دولته، وهذا لن يتحقق اليوم إلا إذا تم التصرف وفق تخطيط سليم وتوزيع عادل وتنفيذ أمين لمدخرات الدولة ومواردها المالية، وبالتالي تعيش الجماعة وفق هذه المنظومة تلقائيا باعتبار أن ما يلتزم به الفرد ينعكس على الجماعة سلبا وإيجابا.

ومن المعلوم في العرف الاقتصادي ونظام الحياة عموما الذي خلقه المولى عزّ وجلّ أن الإنسان يمر بمراحل عدة في الدنيا تتغير وفق المعطيات، وتتقلب وفق المتغيرات التي تحصل بين الفينة والأخرى، فسنة الله في خلقه أن جعل البشر يعيشون المتناقضات في هذه الحياة، يعيشون الفرح والحزن والحياة والموت والخير والشر، ويعيشون كذلك الرخاء الاقتصادي مرة والقحط والجدب مرة أخرى، وقد عاشت الأمم السابقة هذه الأحوال كلها، ولم يستثن الله تبارك وتعالى أمة من الأمم لتعيش حالة واحدة أو نمطا واحدا من الحياة، لكن الاختلاف بين هذه الأمم يكمن في تعاملها مع الواقع الاقتصادي الذي تعيشه.

ولنا في التاريخ الإنساني والإسلامي نماذج حية تبين كيف تعامل الإنسان مع الأزمات التي عاشها وعايشها، ففي عهد سيدنا يوسف عليه السلام، كانت الرؤية الاقتصادية المهمة في حياة البشر، وكانت الفكرة الأولية لحفظ الأمن وعدم انتشار الفوضى والقلق في صفوف الشعوب فكرة الادخار أيام الرخاء، وهي نموذج رائع لاستمرار الحياة حتى في وقت القحط والجدب، وعنصر ضروري لإرساء هذا المفهوم لدى أفراد المجتمع حتى يتعلموا معنى التصرف الصحيح في ما يملكون من مال، وعلى هذا بنى سيدنا يوسف عليه السلام رؤيته الاقتصادية عندما سأله رسول عزيز مصر عن رؤيا رآها العزيز في المنام، ولنتأمل الآيات الكريمة التي ذكرت هذا النبأ، يقول الحق تبارك وتعالى: (قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ).

فلو تأملنا ما قاله يوسف عليه السلام في الآيات السابقة ندرك الإجابة الحكيمة لنظام اقتصادي فريد، حيث أوصى بالادخار والأخذ بما يسد الحاجات الضرورية للشعب، وإنشاء صندوق احتياطي يهتم بالإيرادات التي تجنيها الدولة من كل القطاعات الاقتصادية حتى يكون سندا وقت الأزمات لأن الإنسان لا يعلم الغيب أولا، ثم لا يدري ما تخبئه له الأيام من صعوبات وعراقيل وأزمات مفاجئة أحيانا ودون إنذار مسبق قد تطيح بكيانه وتغرقه في ديون لا حصر لها وقد يهدّد ذلك الأمن القومي للبلاد إذا لم تستخدم الأدوات الاقتصادية بحكمة وتأنّ ودون افتعال لأزمات أخرى كالأزمات النفسية والاجتماعية.

وبينما كانت الفكرة الأولى تتلخص في الادخار كأولوية قصوى تأتي الفكرة الثانية وهي وعي المواطن معنى التقشف المقبول شرعا والمطلوب حياتيا حينما كانت الأموال تدرّ على الدولة أرباحا مهمة لكن الدولة تبقي على جزء كبير منها ولا تستخدمه حفاظا على النسق الاقتصادي الذي يتعود عليه الشعب في فترتي الرخاء والشدة، حتى إذا جاءت الأزمة وجد الشعب نفسه متكيفا مع الواقع الذي يعيشه وهنا تنتهي الفكرة الثالثة التي تتمحور حول التصرف اللائق مع المعطى الجديد المفاجئ الذي صوّرته الآية الكريمة التالية وهي قوله تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ).

وفي العهد النبوي نرى كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرسخ هذا المفهوم في نفوس الناس من خلال ما يؤكد لهم أن على ابن آدم لكي يعيش سعيدا أن يسلك طريق الوسطية في الإنفاق، فلا يكون مبذرا ولا مقترا عندما يقول المولى تبارك وتعالى : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا). وقوله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)، وفي ذلك دليل على أن الإسلام دين وسط يميل إلى الاقتصاد في كل شيء بعيدا عن تأثيرات العادات والتقاليد التي أهلكت الناس وزجت بهم في تبعات الديون، بل يرى ديننا أن ذلك هو أساس الحياة وأساس التواصل بين الناس، حتى إنه كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أن يتعلم أصحابه لغة الحياة والتعامل مع الواقع وفق منظومة أخلاقية تربوية اقتصادية اجتماعية تراعي فيها كل ظروف الإنسان في حالتي الشدة والرخاء.

ولا شك أن الدول بما فيها دول الإسلام تعرضت وتتعرض لمشاكل اقتصادية بين الفينة والأخرى، وليست هناك دولة في العالم بمنأى عن هذه المشاكل، لكن التفاوت يكمن في طريقة تعامل هذه الدولة أو تلك مع الواقع الجديد، هناك دولة تستطيع أن تخرج من المحنة بسلام وهناك أخرى ربما تقع في الفخ ويؤدي بها الأمر إلى الإفلاس، لذلك فإن الشعوب لها دور كبير في إحداث التوازن المطلوب عندما تحدث أزمة اقتصادية عالمية يمكن أن تضر اقتصادات دول بأكملها، وعلى هذه الشعوب أن تتبع سياسة التقشف المرغوبة شرعا والمطلوبة حياتيا حتى تخرج الدولة من عنق الزجاجة - كما يقال - وعلى الدولة أن لا تمس أساسيات المواطن ولا تثقل عليه بما هو غير قادر على فعله، وبهذه الطريقة الذكية تنجح الحكومة وينجح الشعب في إنقاذ البلاد مما قد تقع فيه من مشاكل لا حصر لها.

فالسياسة الحكيمة في قيادة البلاد نحو الأمان هي التي تجنب البلاد التصادم مع الشعب أوّلا وعدم إغراقها في الفوضى الاقتصادية - إن صح التعبير- بل تمنحها ثقة الشعب الذي سيبذل الغالي والنفيس من تلقاء نفسه لردّ الجميل لوطنه الذي لم يقصّر يوما في تقديم المساعدة له منذ صغره إلى أن أصبح عنصرا منتجا ونافعا لبلده، ومن ثم نستقرئ هذه العلاقة التراجيدية بين الشعب والحاكم تتجلى في أبهى صورها في حالتي الرخاء والشدة حتى يعم الأمن النفسي والأمن الغذائي والأمان الاقتصادي والاجتماعي، وتتحقق الأهداف المنشودة على المدى البعيد. كما أن التصرف السليم الذي يتبعه المسلم في حياته، والمنهج القويم الذي يسلكه في دنياه، يجنبه الكثير من المخاطر ويقيه الكثير من المشاكل حيث يستطيع أن يتكيف مع واقعه المعاش وقد سبق للمسلمين أن تعرضوا لنكسات اقتصادية وقد تتبعها نكسات اجتماعية وربما سياسية إذا لم يعمل الجميع يدا واحدة للخروج منها بأقل الخسائر الممكنة عبر الوسائل المتاحة، دون أن يلجأ المسلم أو تلك الدولة إلى القروض العشوائية التي ترهقه وترهقها طوال مسيرته ومسيرتها نحو التعافي تدريجيا، بل عليه وعليها أن يقترض أو تقترض وفق ما تمليه عليه أو عليها الظروف وما يمكن أن يغطي العجز الحاصل لديه أو لديها بصفة مؤقتة وبصورة عاجلة لا تتكرر عادة في كل الأحوال، وعلى الفرد أيضا أن يجعل ذلك مسارا ثابتا في حياته حتى لا تتسلل إلى نفسه عناوين مخيفة مثل التواكل والاعتماد على الآخر في كل الحالات والأحوال والتقليل من عظم الابتلاءات والامتحانات التي يتعرض لها الإنسان بين وقت وآخر.