المنوعات

في نهج الباشا العتيق.. قصور المماليك تتحول إلى فنادق ومزارات ثقافية

14 مارس 2018
14 مارس 2018

تونس «د.ب.أ»:- يجلس طلبة وهواة للفن والمسرح على جانبي زقاق ضيق يعج بالمارة والسياح، وهم يدخنون النارجيلة بينما تتهادى الأدخنة إلى مبنى قديم لولي صالح محاذيا للمقهى، يتصدره باب نصف دائري يرجع إلى العصور الوسطى.

يقول فراس وهو طالب يدرس الميكانيكا: إن أكثر ما يستهويه عندما يجلس في المقهى المطل على «نهج الباشا» الشهير داخل المدينة العتيقة هو أن يتخيل المكان والبنايات على هيئتها كما هي اليوم، وهي تضج بحركة السكان القدامي وباعة الأقمشة والعطور في الزقاق.

يضيف فراس الشارني وهو من الشباب الذين ولدوا وترعرعوا في «نهج الباشا» لوكالة الأنباء الألمانية (د. ب.أ): «نحن نتعايش باستمرار مع التاريخ هنا. إنه حاضر معنا في كل مكان وفي كل بناية. كل زاوية تخبرنا عن قصص وروايات وحتى أساطير».

يؤدي الزقاق المتموج أحيانا بشكل مباشر إلى «نهج الباشا»، حيث تنتشر مجموعة حظائر داخل بنايات متداعية، وقصور قديمة تعود ملكية بعضها للمماليك، من أجل إعادة ترميمها وصيانتها. ويخضع بدوره منزل عائلة فراس الذي ورثته عن الأجداد المماليك إلى الصيانة أيضا، وهذا أحدث عبئا ماليا كبيرا على كاهل العائلة.

وسط النهج يبرز الفندق العتيق ذو الشهر الواسعة في الحي «دار بن قاسم» بمعماره الخليط بين الأندلسي والأمازيغي والروماني، ولكن الباب الخارجي مثل أغلب قصور نهج الباشا لا يوحي مطلقا بما يخفيه في الداخل من مساحات وتزويق مذهل.

يحيط بصحن الدار المربع أقواس نصف دائرية مسندة إلى أعمدة منحوتة جلبت من المواقع الأثرية الرومانية، وخلفها رواق يعلوه سقف خشبي صنع بطراز عربي، يضم ثلاث غرف إحداها مخصصة للفطور واثنتان للزائرين.

وينسحب ذلك التقسيم على الطابق العلوي للدار. لكن تختص كل غرفة بتزويق مختلف عن الأخرى مستلهم من إحدى الثقافات المكونة للتاريخ الحضاري لتونس.

يتوسط صحن الدار ماجل وبئر بينما يعلو سقفه المزركش بالقرمود الأخضر شرفة مطلة على المدينة العتيقة تحاكي شرفات قصر الحمراء في إسبانيا. تعود ملكية الدار في بداية تشييدها في القرن السابع عشر إلى عائلة برناز التركية العريقة التي ذاع صيتها في مجال القضاء والفقه والتدريس في تونس قبل أن تنتقل الملكية لاحقا إلى عائلة عنون النافذة في الدولة في القرن الثامن عشر زمن حكم الأمراء الحسينيين.

واستلمت الدار عائلة ابن قاسم المرموقة في العام 2006 لتبدأ فيها عمليات ترميم واسعة وتهيئة بعناية فائقة إلى حين افتتاح الفندق للزائرين بحلته الجديدة المنمقة عام 2013.

يقول زبير الموحلي مدير جمعية صيانة مدينة تونس «تحويل دار ابن قاسم إلى دار ضيافة كان يمثل تحديا. فمن جهة يجب المحافظة على الطابع التقليدي للمنزل ومن جهة ثانية يجب توفير كل الخدمات العصرية التي نجدها في الفنادق».

لم تجد ليلى بن قاسم صاحبة الدار حرجا من أن تتحول من اختصاص الهندسة الطبية إلى خبيرة ومستثمرة في التراث لتبدأ في تحقيق حلمها بتحويل البناية العريقة إلى فندق جذاب ومختلف. واليوم يتجاوز مشروع «دار ابن قاسم» مجرد فندق صغير في مدينة تونس العتيقة، إلى مغامرة للإبقاء على تراث معماري وفني وتمكينه من الاستمرارية على الرغم من الكلفة الباهظة لهذا التحدي.

تقول ليلى عن هذه التجربة «في بعض الأحيان أجلس في بهو الدار، وانظر إلى الجدران المنتصبة منذ قرون غير مصدقة أن هذا الحلم قد تحقق فعلا». وتضيف الخبيرة قائلة «تخبرنا الدار عن اللحظات السعيدة والحزينة التي عرفتها على مدى ثلاثة قرون، وعن الحرفيين التونسيين الذين حافظوا على حرف في طريقها للاندثار مع غزو المصنوعات الحديثة».

تذكر روايات المؤرخين المتناقلة في «نهج الباشا» حيث تنتصب الدار أنه كان عرضة للنهب والسطو عند اجتياح الإسبان للمدينة تونس في العام 1535م، ولكنه أيضا رحب كباقي أنهج وأزقة المدينة العتيقة بالمهجرين اليهود من أوروبا والأندلسيين المنفيين من إسبانيا بعد سقوط غرناطة في العام 1492.

كما يذكر مؤرخو المدينة أن نهج الباشا كان أكثر أنهج المدينة العتيقة قبلة للمماليك والعائلات الأندلسية، فعلى مقربة من دار ابن قاسم يقع مقر سكن عائلة «الأخوة» الموريسكية كما نجد قصور عائلة بلقاضي والنيفر وبن خوجة والمحجوب وعنون.

ويستمد نهج الباشا أهميته كونه كان يضم فضلا عن تلك القصور والعائلات، مقر الباشا ممثل السلطان العثماني في تونس، بدءا من العام 1574. ويعني ذلك أن هذا النهج كان يمثل في الربع الأخير من القرن السادس عشر المقر الأول للسلطة السياسية في البلاد.

تحول مقر الباشا لاحقا إلى مقر ملحق للعسكر توزع فيه مرتبات الجنود وموظفي الدولة العثمانيين ويمكن ملاحظة مسجد قريب يضم ضريح قائد عسكر تونس مصطفى داي المتوفى عام 1666. لكن السلطة تحولت تدريجيا إلى البايات في منطقة باردو، ومن ثم إلى قصر القصبة، مقر الحكومة اليوم.

ويمثل هذا الامتداد والترابط التاريخي بين الأمس واليوم أمرا مثيرا وملهما للوافدين من السياح والمستكشفين لمدينة تونس العتيقة.