أفكار وآراء

الاقتصاد في زمن حافة السلام

14 مارس 2018
14 مارس 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

في بداية توليه منصبه وصف كثيرون الرئيس الأمريكي ترامب بأنه صفقاتي أي أنه يفكر في السياسة بمنطق صفقات الأعمال بل إنه لا يستطيع أن يتعامل مع أي ملف إلا بعد أن يحوله في ذهنه إلى معادلة صفقة بأطرافها وحساباتها النفعية، وقد شاع استخدام الوصف بنفس المفردة أو غيرها بين كثيرين ممن يؤيدون ترامب بشدة أو يعادونه بشدة ما يدل على أن نوايا الواصفين ليست واحدة . لا أتحدث هنا عما سبق فقط لكن بما أن تحليل شخصية ترامب وطريقة تفكيره ودوافعه والمؤثرات على قراره أصبح معروفا لكل متابع على المعمورة فعلينا أن نتوقع عددا لا نهائيا من التأويلات لمعنى إدارة السياسة كصفقة ،هذا مع مراعاة أن السياسة ليست غريبة على الصفقات طوال عمرها والعكس صحيح. استعيد ذلك اليوم لتذكير الجميع في المنطقة بأهمية إيجاد مدرسة تفاوضية فعالة تتعاطى مع طروحات ترامب الاقتصادية بفهم وبنجاح. وبشكل مباشر فإن إعلان الرئيس الأمريكي المفاجئ باستعداده لقاء زعيم كوريا الشمالية، وهو إعلان بالغ الأهمية كما هو واضح لكل من يتمنى أن يسود السلام والاستقرار في آسيا بديلا عن لغة التهديدات المتبادلة وأجواء الحروب، هذا الإعلان كفيل بأن يغير من طريقة تفكير الكثير من صناع القرار الاقتصادي في بلادنا والعالم ناهيك عن السياسي بالطبع. اذا تمت تلك الخطوة بنجاح فإن من يعملون في الاقتصاد الحقيقي أو المالي سيتعين عليهم أن يقفوا مع انفسهم للنظر إلى طبيعة المنافسة الدولية والإقليمية في المرحلة المقبلة، وان يقرروا إلى أين يمكن أن يتجهوا أو تتجه الأموال ومن سينافس من في ماذا وأين يمكن أن تأتي العوائد الأفضل في الملعب الأفضل ؟ . عاش العالم قرونا من المنافسة الدولية المشوهة بسبب التدخلات الخفية أو شبه الخفية للقوى الكبرى دفاعا عما تسميه مصالحها أو مصالح شركاتها الكبرى بغض النظر عن مشروعية تلك المصالح ، واستخدم الأقوياء في ذلك كل ألاعيب التدخل والتجسس والحروب وتوتير الأجواء والابتزاز من اجل الهيمنة الاقتصادية. لم يسر الأمر بصورة خطية بالطبع فقد كانت هناك فترات تتحسن فيها مستويات التكافؤ الاقتصادي ولو نسبيا أو تقل فيها النزعات الحربية الطابع ، وأيضا كانت هناك فترات تعلو وتهبط فيها إلى هذه الدرجة أو تلك قوة القانون الدولي والمنظمات الدولية العاملة فيما يخص تنظيم التبادل الدولي أو تحركات رؤوس الأموال و تسيير الشؤون التجارية و الاستثمارية ،لكن في كل الحالات بقي الغموض وغياب الشفافية في التعامل الاقتصادي بل وغياب العدالة سيدي الموقف. الآن نأتي إلى لحظة مختلفة أو يحدونا الأمل في أن تكون مختلفة ليس لأنها سيتحقق فيها العدل في التجارة الدولية وحريه التنافس الحق وتقليل مستويات المخاطر والتأمين عليها ولكن لأنها تفتح الباب لنوع جديد من المساءلة الاقتصادية وطنيا ودوليا ستكون الشعوب طرفا فيه وشاهدا عليه ومسؤولة عنه. كيف ؟

ان المفاجأة التي فجرها الرئيس الأمريكي بشأن كوريا الشمالية واتضح أنها من بنات أفكاره وليست من إنتاج مطابخ القرار التقليدية بأمريكا ، لا يجب أن يتم تفسيرها بالشكل الذي اعتدنا تفسير أفكار ترامب به أي إرجاعها إلى ميله للفردية والثقة الزائدة بالنفس والاعتماد على الخاطرة أكثر من انتظار التحليل والبحوث والدرس العميق ، فنحن هنا إزاء شأن آخر أظن انه يعكس رغبات شعبية واسعة في أمريكا وفي غير أمريكا، رغبات في اتباع نهج مختلف في حل المعضلات الدولية بطريقة فيها تبادل منافع بدلا من تبادل التهديد. للتوضيح فإنه يحدث بمنطقتنا العربية كثيرا أن نسمع من أهل القرى بصفة خاصة هذا السؤال البسيط : لماذا لا يتحد العرب ويكونون قوة كبيرة مؤثرة في العالم بدلا عن العمل الفردي أو الاعتماد على الأجنبي.

أكثر من الشقيق العربي ؟. أصارحكم بأن هذا السؤال الساذج هو من أكثر الأسئلة لا أقول فقط التي أزعجتني بل والتي أعجزتني ذلك بأن السائل عادة لا يقتنع بأي رد تقوله عن تعقيدات المواقف وأصول الخلافات وأسباب التنازع  الخ. نفس الأمر على المستوى العالمي فمئات ملايين البشر تسأل وبنفس البساطة والسذاجة : لماذا لا تتعاون الدول كلها مع بعضها بنوايا صادقة من أجل حسن استغلال موارد الكرة الأرضية الأمر الذي من شأنه أن يحقق الحياة الكريمة للجميع ؟ . مهما شرحت من أسباب ومبررات للصراعات الدولية وطبيعة الأطماع أو أدوار أفراد أو جماعات تحب أن تكون فوق الجميع .. ومهما استعدت من تواريخ وكتب واستراتيجيات وتحليلات موضوعية فإن المواطن العالمي البسيط أيضا ، ووفق اعتقادي،لا يقتنع ،فهو لديه إيمان راسخ بمقولة أن في الأرض متسع للجميع.

ان خطوة ترامب ومهما كانت نواياه في تقديري تنبع من نفس وعاء حس الإنسان البسيط. ومن ذات منطقه : لماذا لا نتعاون مع كوريا الشمالية ونستفيد منها بدلا عن استنزاف الجهد في التهديد وحشد الأسلحة؟ ، بل وربما يزيد الشخص العادي فيقول مع مراعاة أن أمريكا تكاد تخسر آسيا كلها باستمرارها على النهج القديم.. فلماذا تصر عليه بينما يمكنها أن تفيد وتستفيد؟.

لا أستطيع أن أدعي أن ترامب بخطوته تلك هو داعيه سلام عالمي أو ستكف قوات بلاده من الغد عن إلقاء القنابل وإطلاق الصواريخ فهو لم يقل ذلك عن نفسه لكن خطوة محاورة زعيم كوريا الشمالية تخدم الأمل في السلام عند أصحاب المنطق البسيط المستقيم ، حتى لو أجج ترامب حروبا تجارية حادة أو أربك الداخل والخارج بما يفعل أو يكتب على تويتر. ان كل سبق إلى إبرام صفقة شفافة بعد هذا الحدث سيكون له مردود عال.

وحيث تعج دول آسيوية بالفرص التي كانت عطلتها الصراعات، ومثلها دول في قارات العالم، وقد نسي كثيرون أن المستثمر المصري البارز نجيب ساويريس ذهب إلى كوريا الشمالية في وقت لم يكن يفكر فيه أحد في خوض مثل تلك المخاطرة وقد عانى ساويريس هناك الكثير على مدار عشر سنوات ولم يتمكن حتى اللحظة من تحويل أرباحه لكن منذ أيام قابلت رئيس شركة كوريولينك مشغل الجوال الوحيد في كوريا الشمالية والتي تملك اوراسكوم اغلبيتها... تم اللقاء مصادفة في واشنطن وقال لي أن الآمال  تحدو الجميع في أن يتم لقاء ترامب /‏‏‏كيم أولا ، وان يتحقق السلام لأن كوريا الشمالية فيها فرص بلا حصر. استعدوا إذن اقتصاديا لاحتمال أن يتم سلام... لقد طال زمن الحروب والصراعات فدعونا نأمل في أن يطل علينا زمن حافة السلام  - على الأقل - على يدي الرجل الذي طالما وصف بالصفقاتي. وحتى إذا لم يتم ذلك هذه المرة فقناعتي انه لن يطول الزمن حتى يأتي سلام جديد بقوة أسئلة البسطاء وأحلامهم.