الملف السياسي

لا تقلق كثيرا .. إذا كان خصمك عالي الصوت !!

12 مارس 2018
12 مارس 2018

د. عبد الحميد الموافي -

إذا كان العالم قد شهد خلال العقود السبعة الماضية أكبر عدد من الحروب والمواجهات المسلحة والحروب بالوكالة، بما في ذلك في الشرق الأوسط، وهو أمر سيستمر بسبب صراع المصالح، والأطماع في موارد الدول الأخرى، إلا أن موسكو وواشنطن تظلان قادرتين، اذا تعاونتا معا في جعل العالم مكانا أقل خطرا، وعليهما تقع مثل هذه المسؤولية في المقام الأول، خاصة وانه من المعروف أن السلاح النووي ليس سلاحا للاستخدام،

في خطابه السنوي الى الشعب الروسي، وهو خطاب معد جيدا، ومع الاستعانة بشاشات عرض كبيرة، وكأنه في غرفة عمليات، وليس أمام اجتماع للجمعية التشريعية والحكومة والمحافظين الروس، اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بداية مارس الجاري، دخول روسيا الاتحادية الى مرحلة أعلى، وأكثر تقدما في تقنيات صناعة الصواريخ النووية الاستراتيجية، دقة وكفاءة وسرعة، وقدرة على اختراق الأنظمة الدفاعية المعروفة الآن، والتخفي من أجهزة الرادار الأمريكية بالطبع أيضا. ولأن الرئيس الروسي بوتين شخصية من نوع خاص، لا يتحدث كثيرا، ولكنه يفعل ما هو مقتنع بأنه في مصلحة بلاده، وأنه ضروري لاستعادة مكانتها الدولية، والرد على محاولات المساس بكرامتها، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، فانه لم يكن مصادفة، أن الخطاب الذي بدأ بالحديث عن الأوضاع الداخلية الروسية، وما تحقق في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مستوى معيشة الشعب الروسي، انتهى بحديث عن التفوق العسكري الروسي وامتلاك موسكو لأدوات ردع حديثة وبالغة التطور، ليست متوفرة، حتى الآن على الأقل، لدى الأطراف الدولية الأخرى، حسبما أعلى الرئيس بوتين بوضوح وحسم. وبغض النظر عن أن ميزان التسلح بين روسيا الاتحادية وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ميزان لا يزال في صالح الولايات المتحدة لاعتبارات عديدة، أبسطها أن ميزانية الدفاع الأمريكية لهذا العام زادها الرئيس الأمريكي ترامب لتصل الى سبعمائة مليار دولار، وهى أعلى ميزانية دفاع أمريكية على الإطلاق، في حين لا تتجاوز ميزانية الدفاع الروسية 357 مليار دولار، أي ما يزيد على النصف بسبعة مليارات دولار فقط ( بمعنى أن الميزانية الدفاعية الروسية هي 51% من الميزانية الأمريكية) غير أن قضايا الردع تختلف بالتأكيد عن حجم الميزانيات الدفاعية، وان كانت الأموال تعزز بالقطع القدرات الدفاعية إذا استخدمت بكفاءة ودون إهدار، إلا أن ما أعلنه بوتين قد أوقف العالم على أطراف أصابعه خلال الأيام الأخيرة، وأخذت تتوالى ردود الفعل من الجهات الأربع، وبالطبع من جانب واشنطن، وذلك وسط شعور متزايد بأن خطرا ما يحيط بالعالم، أو يقترب منه بشدة، خاصة بعد الحديث عن ضخامة الزر النووي على مكتب الرئيس الأمريكي، مقارنة بالزر النووي على مكتب الرئيس الكوري الشمالي «كيم يونج اون « هذا اذا كان الزر النووي يوضع أصلا على مكاتب الرؤساء !!

ومع الوضع في الاعتبار أن التنافس وسباق التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية لم يهدأ، ولم يتوقف، حتى في فترات الضعف والتدهور الروسية خلال حكم يلتسين وبعده في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كما ان العيون الأمريكية والروسية تتابع وتراقب بعضها البعض عن كثب، وانه غالبا، ليست هناك مفاجآت تامة، أو كاملة من جانب أي منهما للأخرى، هذا فضلا عن أن أي منهما، وغيرهما بالطبع، لا تبادر الى الإعلان عن أسلحة جديدة لأغراض استعراضية أو إعلامية، ولكن ذلك اذا حدث يكون بغرض سياسي محدد عادة، وله أهمية للطرف الذي يكشف جانبا من أسراره العسكرية، أو يعلنها على الهواء، وهو يعلم تماما ماذا سيترتب على ذلك من جانب الطرف أو الأطراف الأخرى. فلماذا اختار بوتين إعلان ما اعلنه في هذا التوقيت بالذات ؟ وهل يقف العالم بالفعل على شفا مواجهة نووية كما يتصور البعض ؟ وهل تدفع روسيا وأمريكا العالم نحو مزيد من المخاطر والشعور بتهديد الأمن، أم انهما يمكن أن يدفعان به نحو قدر اكبر من الاستقرار ولو النسبي، والى امكانية حل عدد من مشكلاته واطفاء بعض البؤر المشتعلة فيه، سواء في الشرق الأوسط أو خارجه ؟ على أية حال فانه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: انه في الوقت الذي لا يمكن فيه إغفال أن الخطاب الذي وجهه بوتين الى الأمة الروسية قبل أيام، يتزامن مع الانتخابات الرئاسية الروسية التي ستجري في الثامن عشر من الشهر الجاري، وهو ما يجعل منه خطابا انتخابيا، يسعى من خلاله بوتين الى تحقيق نسبة تأييد عالية في الانتخابات، لتأكيد المساندة الشعبية له، إلا أن هذا الخطاب كان في الوقت ذاته ردا قويا من الرئيس الروسي على الموقفين الأمريكي والأوروبي حيال موسكو، سواء بتجديد العقوبات الغربية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، أو بمعارضة الدور الروسي المتزايد في سوريا والشرق الأوسط بوجه عام . وفي هذا المجال تحديدا فان الرئيس الروسي يريد الإعلان، وبشكل يصل الى كل من يهمه الأمر، إن العقوبات الأمريكية والأوروبية، وحتى انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، لن تمنع روسيا من مواصلة برامج التسلح، وتطوير منظوماتها الدفاعية والهجومية، والتحسب لأية تطورات قد تحدث. صحيح أن الأوضاع الاقتصادية الروسية ليست جيدة، ولكن الصحيح أن بوتين يريد اختصار الوقت لاستعادة مكانة روسيا وقدراتها العسكرية الكبيرة في عالم اليوم، وعلى نحو يأخذه الجميع على محمل الجد. واذا كان التدخل الروسي في سوريا منذ أواخر عام 2015 قد حمل هذا المعنى، فان الإعلان عن الصاروخ «سارمات» والمنظومات «كينجال» و«افنجارد» المزودة بمحركات نووية وتزيد سرعاتها على أربعة أضعاف سرعة الصوت، والتلويح بأن هناك ما لا يريد الإعلان عنه، يحمل رسالة واضحة مفادها أن روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، تستعيد قوتها، العسكرية والاقتصادية أيضا، وان لديها من الموارد ما يمكنها من التطور والتغلب على أية عقوبات. ومع ان ذلك يتضمن بالتأكيد جانبا إعلاميا، ومخاطبة للمشاعر الوطنية الروسية، وحشدا لها أيضا في الظروف الراهنة، فان ما اعلنه بوتين هو أيضا بمثابة رد عملي، وبالمفهوم العسكري على خطوات رأت فيها موسكو تحرشا بها من جانب حلف شمال الأطلنطي، بتمدده شرقا الى أعتاب روسيا، وردا عمليا كذلك على ما اعتبرته عدم استجابة أمريكية لاعتراضاتها على قيام واشنطن بنشر مظلتها الصاروخية المضادة للصواريخ «الدرع الصاروخية» على محيط روسيا تقريبا، وذلك في مواقع في رومانيا وبولندا من ناحية، وفي اليابان وكوريا الجنوبية والاسكا الأمريكية من ناحية ثانية، وليس مصادفة أبدا أن يشير بوتين الى ذلك، مما يعكس الاهتمام الجدي به. يضاف الى ذلك أن انسحاب واشنطن من معاهدة الحد من الأنظمة المضادة للصواريخ الموقعة عام 2002، وحديث الرئيس الأمريكي في معرض تحذيره لكوريا الشمالية عن «النار والغضب بشكل غير مسبوق»، والاهتمام الأمريكي بالأسلحة النووية التكتيكية – أي الصغيرة والمحدودة النطاق – حمل موسكو على الاقتناع بأن واشنطن تسعى الى تحييد القدرات الاستراتيجية الروسية، ولذا فان موسكو أعلنت أن الأسلحة الجديدة ليست إعلانا عن بداية سباق للتسلح بل مجرد رد عملي على انتهاك معاهدة الحد من الأنظمة الصاروخية والانسحاب منها وانتهاك التكافؤ النووي، ومن جانبها أكدت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا ساخاروفا أن الأسلحة الروسية الجديدة لا تستهدف سوى تحقيق التكافؤ النووي ودعم القدرات الدفاعية الروسية. أما واشنطن فإنها حاولت التهوين من قيمة ما اعلنه بوتين، بالتأكيد على أن قوة موسكو لم تتغير ، والإشارة الى أنها كانت على علم بأنشطة موسكو، التي اتهمتها بانها «تنتج أسلحة تهدد الاستقرار العالمي وتنتهك المعاهدات الدولية»، وهو ما نفته موسكو . وبعيدا عن الاتهامات والاتهامات المضادة، ومحاولة كل طرف إظهار الآخر بأنه يهدد الاستقرار العالمي بشكل أو بآخر، فان العالم اليوم أصبح أمام واقع جديد لا يمكن أهماله أو التقليل من أهميته، وهو انتقال سباق التسلح بين روسيا والولايات المتحدة الى مستوى أعلى، اكثر تعقيدا وخطورة، واستنزافا ماليا لهما، وتهديدا لأمن واستقرار العالم.

*ثانيا: انه اذا كان خطاب الرئيس الروسي بوتين، قد اثار ردود فعل وانتقادات غربية ومخاوف على مستويات أخرى في عالم اليوم، إلا انه قد أكد مرة أخرى فعالية فلسفة الردع، وأهمية وضرورة الحفاظ على تكافؤ نووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية في المقام الأول. ومع الوضع في الاعتبار ان الخطط وبرامج التسليح الروسية ستؤدي ، على الأرجح، الى اقناع أطراف إقليمية أخرى بالمضي قدما في برامج تسليحها، النووية والصاروخية، بغض النظر عن أية مخاوف، أو انتقادات من جانب الأطراف الأخرى، اقليمية ودولية، خاصة بعد الإعلان عن موافقة ترامب على عقد قمة، مع الرئيس الكوري الشمالي «كيم جونج اون» قبل مايو القادم، وهو أمر بالغ الأهمية والدلالة أيضا، وذو صلة بما نتحدث عنه، فانه يمكن القول، وفي ضوء خبرة العقود والسنوات الماضية، ان نجاح الردع النووي، خاصة بين موسكو وواشنطن، في الحيلولة دون حدوث مواجهات مسلحة مباشرة بينهما ، أو تهديد خطير لسلام العالم وامنه – باستثناء احداث أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962 – سوف يتواصل على الأرجح . صحيح ستكون هناك بالفعل جولة اخرى لسباق التسلح بين روسيا والولايات المتحدة ، وهى جولة قائمة بالفعل، ولكن الصحيح أن الإدراك الحقيقي لمخاطر المواجهة المباشرة بينهما، على أي مستوى أو على أي نحو، يحول دون الانزلاق الى حالة الانتحار الجماعي لهما وللعالم من حولهما.

ولذا فانه وبالرغم من كل الأحاديث حول الأسلحة والصواريخ النووية، والأسلحة النووية التكتيكية، وأسلحة الليزر، وعسكرة الفضاء، وغيرها، الا أن العالم لم يشهد حربا عالمية ثالثة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى الآن. واذا كان العالم قد شهد خلال العقود السبعة الماضية اكبر عدد من الحروب والمواجهات المسلحة والحروب بالوكالة، بما في ذلك في الشرق الأوسط ، وهو أمر سيستمر بسبب صراع المصالح، والأطماع في موارد الدول الأخرى، إلا أن موسكو وواشنطن تظلان قادرتين، اذا تعاونتا معا في جعل العالم مكانا اقل خطرا، وعليهما تقع مثل هذه المسؤولية في المقام الأول، خاصة وانه من المعروف ان السلاح النووي ليس سلاحا للاستخدام ، بعد هيروشيما وناجازاكي عام 1945، وان الحديث عن أسلحة نووية تكتيكية هو أمر لا يعني أبدا امكانية استخدامها لا من جانب أمريكا، ولا من جانب روسيا، أما الأطراف الإقليمية التي تمتلك أسلحة نووية، أو تسعى الى امتلاكها، فإنها تريد أن تتباهى بذلك، واحيانا تتخيل أن ذلك سيكون ضمانا لسلامتها، أو لمصالحها، أو لوجودها ، في حين أن الأسلحة النووية تمثل عبئا كبيرا على من يملكها، تخزينا وحفظا وصيانة ونفقات لتأمينها حتى ضد مخاطر السطو أو محاولات السرقة ، بالرغم من أن القنابل النووية ليست بندقية أو مسدسا يمكن حمله والهرب به، أو يمكن عرضه للبيع أو إقراضه على سبيل المجاملة أو تأجيره لأطراف أخرى، إنها سلاح رهيب ليس للاستخدام، ومهما علت الأصوات واتسمت التصريحات بالسخونة والتهديدات، فان الأصوات العالية تعبر عادة ، وفي كل الأحيان تقريبا، عن رغبة اقل في الفعل، ولذا فانه كلما كان عدوك ذو صوت عال فلا تقلق، وهكذا الدول أيضا.