الملف السياسي

حرب نووية .. مع وقف التنفيذ!

12 مارس 2018
12 مارس 2018

مروى محمد إبراهيم -

«من يتحدث عن الحرب الباردة يسعى لجذب الأنظار،أما سباق التسلح فقد بدأ بمجرد انتهاك معاهدة ستارت للحد من التسلح النووي».. بهذه الكلمات لخص الرئيس الروسي بوتين الصراع المعاصر بين واشنطن وموسكو، معترفا بوجود سباق تسلح علني بين الجانبين.

ولكن إلى أي حد يمكن أن يصل هذا السباق؟ هل هناك قيود يمكن أن تمنعه أو تحول دون تصاعده؟ وهل هناك أبعاد أخرى تكمن وراء تباهي كل من بوتين والرئيس الأمريكي بقوتهما العسكرية خلال الفترة الأخيرة؟ تساؤلات كثيرة يثيرها المشهد «المسرحي» في موسكو وواشنطن، ولكن ما يثير القلق حقا هو انعكاس تلاعبات بوتين وترامب وحروبهما الكلامية والاستعراضية على العالم؟ ومدى تأثير هذا الصراع «العصري» على السلم العالمي، خاصة في ظل وجود قوى نووية أخرى أكثر خطورة وجموحا في العالم مثل كوريا الشمالية وغيرها؟؟

لا يمكن أن نتجاهل حقيقة أن ترامب هو أول رئيس أمريكي يهدد بـ«نار وغضب لم يشهدهما العالم من قبل»، وذلك في إطار دعوته في نهاية يناير الماضي إلى إعادة بناء وتحديث الترسانة النووية الأمريكية، وجعلها قوية وفعالة وقادرة على صد أي عدوان محتمل، إلا أنه أعرب في الوقت ذاته عن أمله في عدم الاضطرار لاستخدامها إطلاقا. وفي إطار تعليقها على دعوة ترامب الصريحة للتسلح النووي، رسمت مجلة «تايم» الأمريكية صورة نادرة لموقع مهجور للتجارب النووية في صحراء ولاية نيفادا الأمريكية، مشيرة إلى أن الموقع لم يشهد أي تجارب نووية منذ عام 1992، أي منذ إعلان الرئيس جورج بوش الأب وقف التجارب النووية. ووفقا للتقرير، فإن وزارة الطاقة الأمريكية مستعدة لإجراء تجربة نووية في غضون عامين أو ثلاثة أعوام من صدور قرار رئاسي بذلك.

وهذا تحديدا ما فعله ترامب في نهاية العام الماضي، عندما أصدر أوامر عاجلة بالاستعداد لإجراء تجارب نووية في غضون 6 أشهر.

وأشارت «تايم» إلى أن هذه الأوامر لا تهدف إلى التأكد من أن أقوى أسلحة الدولة في حالة الاستعداد للانطلاق ولا حتى تجربة رأس نووي حديث ومتطور، ولكنها- وفقا لتأكيد مسؤول بارز في إدارة الأمن القومي النووي- تجربة ذات أهداف سياسية. فالأمر لا يتعدى مجرد استعراض للقوة واستفزاز للقوى النووية العالمية، الكامنة حتى الآن، بل وإشعال للسباق النووي بشكل لم يحدث من قبل على مدى التاريخ، حتى عندما كانت أمريكا تمتلك أقوى ترسانة نووية في العالم. فترامب لم يطالب فعليا بإجراء هذه التجربة النووية، ولكنه أصدر أوامر غير مبررة بالاستعداد للتجربة تهدف إلى استعراض القوة، وربما توجيه رسالة تهديد إلى روسيا وكوريا الشمالية مما قد يواجهانه من خطر، في حالة تهديدهم لأمريكا أو حتى مصالحها. ولكن هذا الإعلان يكشف أيضا عن تحول غير مرغوب فيه من قبل الدولة التي تسببت في كارثة بشرية في اليابان عام 1945، من الشعور بالندم إلى استعراض القوة والتهديد باستخدامها. ولكن سياسة ترامب للردع النووي تتناقض مع أسلافه، فبدلا من تقديم القدوة للعالم في الحد من الأسلحة النووية، سابق العالم كله من أجل التباهي بقوته النووية. وهو ما قد يشكل تهديدا للأمن والسلم العالميين كانت البشرية في غنى عنه.

وفي إطار سعيه لتنفيذ هذه الاستراتيجية، نجح في زيادة ميزانية الدفاع لتصل إلى نحو 700 مليار دولار، ولكن هذه المبالغ التي أقرها الكونجرس ستسهلك أغلبها في تمويل الحروب التي تشارك فيها الولايات المتحدة في عدد من بؤر الصراع حول العالم، وعلى الأغلب لن يكفي ما يتبقى من الميزانية العسكرية لتطوير ترسانة نووية مهملة منذ عقود، وترزح تحت وطأة الشعور بالذنب بسبب مقتل وتشويه أجيال من المدنيين الأبرياء في هيروشيما وناجازاكي عام 1945.

وسرعان ما التقط بوتين طرف الخيط، لتبدأ حرب استعراض القوة بين روسيا وأمريكا، ليتباهى في خطابه السنوي حول حالة الاتحاد الروسي بمجموعة من البرامج العسكرية المتطورة، وبصاروخه الحديث جدا العابر للقارات القادر على حمل رؤوس نووية ويمكن تزويده بتكنولوجيا متطورة، تمكنه من اختراق أعتى مظلات الدفاع الصاروخية بكل سهولة، والأدهى من ذلك أن الصاروخ السحري الروسي مزود بتكنولوجيا حديثة تحول دون تعقبه، أو رصده عبر أجهزة الرادار. ووسط ذهول العالم وانبهاره وتشككه أيضا، أكد بوتين أن هذه البرامج والأسلحة الروسية المتطورة للغاية لن يتم استخدامها إلا في حالة ظهور أي تهديد محتمل للكيان وللوجود الروسي. ورفض بشكل قاطع النظر إلى هذا التباهي بالسلاح على أنه استعراض للقوة، ردا على الجانب الأمريكي، ولكن اعتباره إقرارا لحقيقة واقعة ليس أكثر. ولم تغفل الصين عن سباق التسلح الروسي- الأمريكي، ومن ثم فسرعان ما أعلنت عن زيادة إنفاقها العسكري، بالطبع لن تواكب العزم الأمريكي أو القوة الروسية ولكن يبدو أنها حريصة على التذكير دوما بأنها قوة لا يستهان بها.

ولكن هل هذا السباق الأهوج يشكل تهديدا حقيقيا على الأمن العالمي؟ في واقع الأمر فإن مواقف ترامب غالبا ما يكون الهدف منها هو الدعاية لنفسه وكسب رضا الجماهير، من خلال التذكير دوما بشعاراته الانتخابية «أمريكا أولا» و«سنجعل أمريكا عظيمة من جديد».

ولكن هذه الشعارات لا تخرج عن كونها شعارات انتخابية، نجح الكونجرس حتى الآن في الحد من جموحها وتحجيمها. وليس أدل على ذلك من فشل ترامب في تمرير سياساته العنيفة ضد الهجرة أو بناء جدار فاصل بين أمريكا والمكسيك، أو إلغاء الاتفاق النووي التاريخي مع إيران وغيرها الكثير من الأفكار التي أثارت قلق العالم، ولكن الكونجرس حال دون تحقيقها حتى الآن على الأقل.

أما فيما يتعلق بموقف الرئيس الروسي، فهو لا يخرج عن كونه تأكيدا على أن الدب الروسي لا يزال الأقوى. وكما هو الحال دائما ينتهز بوتين كل فرصة ممكنة لتحجيم غريمه الأمريكي. وفي نهاية الأمر فإن المصالح المشتركة بين الجانبين على مختلف الأصعدة تمنعهما من إلحاق أضرار حقيقية ببعضهما البعض، وإن كانت المنافسة والندية والعداء هم الشعارات التقليدية التي تميز علاقتهما. ولا يمكن أن نغفل أيضا أن كشف بوتين عن برامجه العسكرية والنووية كان للاستهلاك المحلي أكثر من كونه تهديدا خارجيا، فمع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الروسية، والتي تنعقد جولتها الأولى في 18 مارس الجاري والثانية في 8 أبريل، كان لابد له من تذكير شعبه بأنه الأصلح لهذا المنصب، حتى وإن كان فوزه بولاية رابعة مضمون.

وبالتالي، فإن الصراع النووي أو الاستعراض العسكري لا يخرج عن كونه حربا كلامية وصراعات جوفاء على الساحة العالمية، لا يمكن أن ترى النور، ولكن نماذج القيادات المتهورة التي لا تدرك أبعاد وخطورة تلويحها بمثل هذه التهديدات الفتاكة. فعلى مدار العقدين الماضيين فشل العالم وبجدارة في توقيع معاهدة حظر الانتشار النووي. ولا يخفى على أحد أن هناك قوى نووية عالمية لا يأمن أحد جانبها مثل كوريا الشمالية، وهناك إسرائيل التي يمكن اعتبارها الأخطر في العالم، نظرا لأن أحدا لا يملك أي معلومات عن مدى قدراتها النووية. ووفقا للتقارير العالمية، فإن روسيا تحتفظ بموقع الصدارة بترسانة تقدر بـ7 آلاف رأس نووي، تليها الولايات المتحدة بـ6800 رأس نووي، تليها فرنسا بـ 300 رأس نووي، ثم الصين وبريطانيا وباكستان والهند بأعداد أقل. وطبعا، ليست هناك أي معلومات مؤكدة حول قدرات بيونج يانج وتل أبيب. ولكن كل هذه الصواريخ والأسلحة مجمدة في الوقت الحالي. ولا يجرؤ أحد على تجربتها.

إن التلويح بالحرب لا يقل خطورة عن إشعال الحرب، فهو يدفع بقوى سلمية إلى العمل على التسلح في مواجهة أي تهديد محتمل خاصة في خضم الاضطرابات والتقلبات السياسية وانهيار التحالفات العالمية التي يعاني منها العالم في العصر الحالي. فانعدام الأمن أصبح السمة الغالبة الآن، والخوف والقلق هما العدو الأكبر.. ولا يمكن مواجهتهما بالمزيد من التهديدات والتلاعبات التي ربما تأتي بما لا تشتهي سفن القوى الكبرى.