أفكار وآراء

الذات والمصالح الشخصية .. والتعامل مع الواقع !!

11 مارس 2018
11 مارس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

عندما يشغلك الواقع؛ تكون بذلك؛ أنك أوقعت نفسك في مطب معركة حامية الوطيس، ويكون أول المتنازعين حوله؛ أنت وذاتك؛ طرفان يعيشان حوارا «منولوجيا» ليس يسيرا التخلص منه، وهو حوار مقلق إلى حد بعيد،

فالتصالح مع الواقع أيضا ليس بالأمر اليسير، ويكون ثاني المتنازعين؛ أنت - مرة أخرى - وكل من حولك: قرابتك، رؤساؤك ومرؤوسيك، أصدقاؤك، أي أحد تقترن معه بعلاقة ما، يحدث كل ذلك، لتصادم القوى، وتضارب المصالح، لأن المشكلة الكبرى في هذا الصراع، أنه لا يوجد فهم مشترك بين مختلف الأطراف، وإن وجد فهم نسبيي ومؤقت؛ في لحظة ما؛ بين أي طرفين، لا يلبث أن يتلاشى، لأن الجميع لا تستوقفه الاتفاقات الثنائية التصالحية كثيرا، فهناك هم شخصي، وهناك مصلحة شخصية، وهناك ذات لها القدرة على سلب مجموعة من الاتفاقات التي حدثت في لحظة صفاء، فاتفاقاتنا مع الآخر ليست يسيرة، ومتى كان لها التحقق، فإنها اول ما تصطدم به هو الذات الرافضة، ومتى استطاعت هذه الذات أن تفرض هيمنتها علينا؛ فإنه على امتداد مساحة الواقع الذي نعيشه، يكون هناك أكثر من محطة تتيح للذات أن تمارس سطوتها علينا، وبالتالي فإما أن نعيش معترك هذا الصراع؛ أولا: مع ذواتنا، ومتى نتخلص من ذلك، نبدأ في مرحلة صراع جديدة مع من حولنا، مع أننا لا نريد شيئا لأنفسنا، أكثر مما نريد أن نعقد صلحا مطلقا مع كل ما يحيط بنا، فهل ترانا قادرون؟ سؤال يفرض نفسه على امتداد التجربة البشرية في هذه الحياة، ولن يجد إجابة مقنعة، لأن البشر هم البشر، تتغير الوسيلة، وتبقى الفطرة.

عوالقنا كثيرة كما نعلم، وكما نعيش، تبدأ من الأسرة؛ حيث المهد؛ وتكبر وتتضخم مع اتساع حركتنا في الحياة، ويأتي المجتمع من حولنا ليؤصل نشأتها وقوتها، وسطوتها، واستمراريتها، حيث تضيف مختلف الممارسات الاجتماعية التي يقوم بها أفراد المجتمع من حجم ومتانة هذه العوالق وتعقدها، وتأتي صور تضارب المصالح الشخصية لتضيف سدا منيعا آخر يعزز صور هذه العوالق، ويستمرئ الناس فعل بقائها لأنها تحقق لهم شيئا من المتعة، فتعلي سهم قدرهم في الحياة، ولو كان هذا القدر ماديا زائلا: وجاهة، منصب - على سبيل المثال - ومع ذلك يظل الخوف يعترينا دائما، ويربك حساباتنا المتصالحة من ذاتنا الخيرة، فيحفزنا أكثر على الاستمرار في البقاء على هذه العوالق، وهذا الخوف مفاده أن الآخرين سوف يتجاوزوننا، وسوف نبتعد كثيرا من المشهد، هذا المشهد الذي يتقاتل الناس عليه صباحا ومساء، هذا المشهد الذي يعلي قدر النهم البهيمي القائم على القوة والاستغلال وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين ، الذين نتقاسم معهم العيش تحت سقف هذه السماء، حيث يكون الضحية غالبا من هم تحت فئات: الضعيف والفقير والمعدوم والمسكين، لأنه ليس كفؤا لأن يكون أحدهما على صدارة هذا المشهد، والغريب في الأمر؛ أن احد هؤلاء لو تبدل حاله، واكتسى حلة افضل ، لا يلبث ان يتنصل مما كان عليه، ويقبل على الآخرين بحلته الـ «برجوازية» الجديدة - اذا جازت التسمية - إنها الإنسانية القاسية على ذاتها.

عندما نذهب الى السوق، ونمر على محلات بيع الـ «مكانس» ، على سبيل المثال، نلاحظ مكانس كثيرة، بأحجامها، وألوانها، وأشكالها فتغري فينا فضول الاقتناء، وقبل هذا الفضول علينا حقا أن نقتني هذه المكانس، مهما ارتفع ثمنها، حيث أننا نحتاج إلى مكانس كثيرة، وإن تعددت ألوانها، وأشكالها، فبالإضافة إلى دورها المادي المعروف، كنس الأتربة والأوساخ الملموسة والمتناثرة على امتداد سجاجيد الأقدام، فيمكن أن نوظف دورها الفلسفي الآخر، وهو كنس هذه العوالق، نحتاج إلى مكانس بألوان سوداء لنكنس الحسد والحقد والغيرة، ونحتاج إلى مكانس بألوان زاهية؛ لنكنس بها النفاق وسوء الأخلاق والابتذال الأخلاقي المعروض على الأرصفة ، ونكنس الوجوه المتعددة، والنفوس المتصيدة في الماء العكر، ونحتاج الى مكانس مصنوعة من الحديد الصلب لكنس العوالق الصدئة التي ران على قلوب أصحابها الدرن والقسوة، ولم تعد الطريق سالكة إلا في حالة تأكدهم أن لا شريك آخر يمشي؛ ولو على الناصية؛ أنواع كثيرة نحتاجها من الـ «مكانس» فالمشكلة جد صعبة، وجد معقدة، وجد متعددة الأشكال والوجوه؛ كما هي المكانس التي نراها في محلات البيع.

نحتاج إلى ذلك كله، لأننا لا نعيش سعادة حقيقية، لأن هناك آخرين يحققون نجاحات كثيرة؛ وكبيرة؛ فلماذا يكون هؤلاء جميعهم سعداء، وليس نحن، لماذا تتجاوزنا النجاحات، ولماذا تسدل علينا وعلى اشتغالاتنا وعلى نوافذنا وأبواب بيوتنا الستائر الداكنة؟ ، ولماذا لا تضاء المصابيح في زوايا غرفنا، ولماذا لا تكتسي أرضيات بيوتنا امتدادا خضريا يبعث على الأمل؟ ولماذا لا تزهر أشجار مزارعنا فلا وياسمينا يستنشقها المار على حواف أسوارها، ولا تحمل ثمرا يانعا؟ ولماذا لا تتحاور جداول المياه في مزارعنا باعثة للحياة، ولماذا هذا الجفاف الصعب يلف حيواتنا من كل صوب، حتى تجاوز الجهات الأربع، واستخلق لنفسه جهات أخرى غير مضافة على قطر كرتنا الأرضية؟ ولماذا الجمال يعيش في زوايا ضيقة، ولا تتسع مساحته، أيعقل أن يعمد الإنسان إلى امتطاء ربوات خالية من الحياة، نحتاج حقا إلى مراجعة، والى مكانس نوعية تتوغل بين مصائب أنفسنا، فلعل هناك رؤية جديدة غير معهودة قادمة من أفق بعيد.

يقينا لدى كل منا انتصارات، نعم قد تكون انتصارات صغيرة، ونقلل من قوة تأثيرها، ولذلك لا نعطيها فرصة الانتشاء والتمدد، والتفرع، والتوغل، إنها أخطاؤنا المتكررة، نتجاوز في إنزال هذه الانتصارات المنزلة المباركة في أعماقنا، ونذهب إلى انتصارات الآخرين في حيواتهم، تنشب الغيرة أظافرها؛ هنا وهناك؛ محدثة (غرزات) عميقة دامية، يئن منها الطرف الآخر، ومع ذلك نكرس استمرار فعلها في كل الاتجاهات التي يحط فيها الإنسان رحاله، وفي خضم هذا السلوك الشائن ننسى أننا معرضون لأن نقع في نفس الشرك من الطرف الآخر عندما ننجز كما كبيرا من الانتصارات التي تحقق لنا عوائد مادية عديدة، فـ «كما تدين تدان» ولكننا لو أننا تعهدنا بانتصاراتنا الصغيرة بالنمو والاهتمام، يقينا ستشغلنا عن احتضان الـ «غيرة» وقد يمتد هذا الرضا الإنساني إلى الطرف الآخر، وتلبس الحياة حلة قشيبة من المحاسن الإنسانية، وما أكثرها، إن نحن التفتنا إليها حقا، وأهملنا جزءا كبيرا من عوالق الذات القانطة، ولكنها النفس المجبولة على الخير والشر، وتستحسن الشر على الرغم من وجهه المكفهر دائما «إن لله في خلقه شؤون».

في ختام هذه المناقشة لا أطرح سؤالا سفسطائيا عن السبب الذي يدعو الناس إلى مقاومة التغيير، في بعديه المادي والمعنوي، ويعنينا هنا البعد المعنوي، حيث الذات الإنسانية، فواقع حياتنا قائم على سلوكيات هذه الذات، ومن خلال التجربة الإنسانية الطويلة لم يستطع الإنسان التحرر من سطوتها، ولذلك عندما يتم التأكيد على عبارة: » ليس لك .. أن ترضى بالواقع» ، فهذه صرخة استغاثة لأن واقعا تتحكم فيه الذات بهذه الصلافة، واقع يذهب أكثر إلى عدم التصالح بين مكوناته المادية والمعنوية، ومن هنا تأتي هذه القسوة التي أصبحت العنوان العريض للبشرية، التي لم تستفد طوال عقودها الزمنية المستمرة من كل التجارب المأساوية التي مرت؛ ولا تزال؛ تراوح مكانها كل هذا العمر الإنساني الطويل، مستنفدة كل مشاريعها الإنسانية الخيرة التي تحققها هنا أو هناك، والتي تعلي قدرها الإنساني الجميل، وتسجل محطات آمنة للبقاء، نعم؛ علينا أن لا نرضى بواقع مهزوم، بينما في المقابل؛ كل الفرص متاحة لتغييره، وامتداد الأفق ممتد، لإتاحة فرصة التغيير، فقط علينا أن نعلن نقطة بدايتها، وهي لحظة حاضرة عند كل منا، المهم أن تصدق النوايا، وإن كانت حكمة الله في خلقه أن يظل التوازن بين الخير والشر قائم، فيقينا لن يطغى أحدهما على الآخر، وما دام الأمر كذلك وجب علينا أن نستثمر حصة الخير المتاحة لنا، لنعلي مكانتنا الإنسانية، بدلا من أن ننزلها منزلة الهزيمة الدائمة، ونضيق على أنفسنا مصاعد الأفق، واستنشاق أريج الحياة النقي.