أفكار وآراء

ميركل والولاية الرابعة

10 مارس 2018
10 مارس 2018

عبد العزيز محمود -

أخيرا، وبعد قرابة ستة أشهر من محاولة بناء تحالفات، وافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني على الائتلاف مع كتلة المحافظين لتشكل المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل الحكومة الجديدة التي ستقود ألمانيا خلال السنوات الأربع المقبلة.

وبهذا الاتفاق تنتهي أطول فترة عاشتها ألمانيا بدون حكومة بعد الانتخابات منذ الحرب العالمية الثانية، ويستمر تحالف الوسط ويسار الوسط الذي يحكم البلاد منذ عام ٢٠١٣ كما تحتفظ ميركل بولاية رابعة تنتهي في عام ٢٠٢١ لتصبح ثالث أقدم مستشار ألماني بعد كونراد اديناور وهيلموت كول.

الاتفاق الذي حققه الحزبان الكبيران ، أكد قدرة ألمانيا على الاستمرار، رغم الانقسامات الداخلية غير المسبوقة وتصاعد العداء للمهاجرين والتحديات التي تهدد وضعها باعتبارها الدولة الأوروبية الصناعية الأكبر، من جانب كل من الولايات المتحدة والصين.

صحيح أن الفضل الكبير في تشكيل الحكومة يرجع للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي وافق على استمرار الائتلاف مع كتلة المحافظين، لكن ذلك لم يكن يحدث ، لولا مرونة ميركل وقدرتها على طرح حلول وسط، عقب النتيجة غير المريحة التي حققتها كتلتها في الانتخابات الأخيرة، نتيجة قرارها بفتح الحدود أمام اللاجئين في عام ٢٠١٥ ، مما تسبب في دخول قرابة المليون لاجئ إلى ألمانيا.

هذا القرار تسبب أيضا في صعود اليمين الراديكالي ، ذي الجذور النازية ، ممثلا في حزب البديل من أجل ألمانيا ليصبح ثالث أكبر حزب داخل البوندستاج (البرلمان الاتحادي) لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.

وبأداء ميركل وحكومتها اليمين الدستورية أمام البوندستاج في ١٤ مارس الجاري، فإنه من غير المتوقع أن تكون الحكومة الجديدة بقوة سابقتها، لكنها ستركز بدرجة أكبر على تأمين الرخاء ، وفرص العمل ودمج اللاجئين وإصلاح الاتحاد الأوروبي.

وساهم في ذلك نتيجة انتخابات سبتمبر الماضي غير الحاسمة، والتي حصل فيها الحزبان الكبيران ( تكتل المحافظين بزعامة ميركل و الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة مارتن شولتز) على أسوأ نتيجة لهما منذ عام ١٩٤٠ ، بينما فاز اليمين الراديكالي ، ذو الجذور النازية ، بالمركز الثالث وهبط الحزب الديمقراطي الحر إلي المركز الرابع.

وهكذا واجهت ميركل ، رغم فوز تكتلها بالمركز الأول ، صعوبات غير مسبوقة في تشكيل الحكومة، حيث فشلت مفاوضات تشكيل ائتلاف مع الديمقراطي الحر والخضر (مفاوضات جامايكا)، ولم يعد أمامها إلا الاستمرار في الائتلاف مع الاشتراكيين الديمقراطيين ، حتى لا تضطر إلى تشكيل حكومة أقلية أو إجراء انتخابات جديدة.

في البداية كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي مترددا ، في الائتلاف مجددا ، مع تكتل المحافظين، لكنه وافق في النهاية، بعد اتفاق الطرفين حول سياسات الطاقة والمناخ والعمل، وحصول الحزب الاشتراكي على وزارات الخارجية والمالية والعمل، وكلها ذات صلة بعملية إصلاح منطقة اليورو، بالإضافة إلى فرض قيود على الهجرة.

وهي قيود طالب بها أيضا الحزب الاجتماعي المسيحي ، شريك ميركل في تكتل المحافظين، بحيث لا يزيد عدد اللاجئين الجدد عن ٢٠٠ ألف لاجئ سنويا، خاصة وأن تلك القضية سوف تفرض نفسها في انتخابات ولاية بافاريا، الخريف المقبل.

يذكر أن عدد المهاجرين في ألمانيا يقدر حاليا بنحو ٨٪ من عدد السكان، بل إن عدد الأعضاء المهاجرين أو من أصول مهاجرة ارتفع داخل البوندستاج الألماني، من 21 عضوا في عام ٢٠٠٩ إلى ٥٨ عضوا في عام ٢٠١٧.

صفقة ميركل مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي كانت مكلفة ، فقد اضطرتها للتراجع عن سياسة الباب المفتوح للهجرة، والى تقديم تنازلات فيما يتعلق بسياسات الطاقة والعمل والضرائب، والتخلي عن وزارات رئيسية ، وأهمها المالية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي حصل على ست حقائب وزارية.

وفي المقابل تعرض الاشتراكي الديمقراطي نتيجة ائتلافه مع ميركل لانقسامات داخلية ، بين مؤيدي التحالف مع ميركل ، و بين شباب الحزب الرافض، كما اضطر مارتن شولتز زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين للتخلي عن رئاسة الحزب لتولي وزارة الخارجية.

ومن المتوقع ان يختلف الشريكان في الائتلاف مستقبلا ، حول عدد من القضايا ، خاصة مع إصرار الحزب الاشتراكي الديمقراطي على تغيير نظام التأمين الصحي تدريجيا ، وبشكل جذري لحماية الطبقة المتوسطة.

لكن ميركل سوف تركز خلال ولايتها الرابعة على تطوير الوضعية الاقتصادية الأقوى لألمانيا ، التي يعيش فيها ٧٪ من سكان العالم وتنتج ٢٥٪ من الناتج المحلي العالمي، وبما يسمح لحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشريكه في كتلة المحافظين الحزب الاجتماعي المسيحي بالاستمرار في قيادة البلاد.

وبالتأكيد سوف يساعدها في تحقيق ذلك ما حققته من انجازات جعلت معدل النمو الاقتصادي هو الأسرع منذ سبع سنوات، بينما سجل معدل البطالة انخفاضا بمستوي قياسي، حيث بلغ ٥.٤٪، وتجاوز فائض الميزانية ١.٢٪ من الناتج المحلي، مما يعني قدرة الحكومة الجديدة علي الإنفاق.

لكن حكومة ميركل الجديدة سوف تواجه تحديات ، أبرزها تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على السيارات وواردات الحديد والصلب الأوروبية، مما سيلحق ضررا بالغا بألمانيا باعتبارها الدولة الأوروبية الصناعية الكبرى. وتخطط ميركل للتحول نحو الصين واليابان ، باعتبارهما حليفين في التجارة الحرة، لكن تنامي قوة الصين الاقتصادية ، يشكل هو الآخر تحديا للصناعات الألمانية، مما سيدفع الحكومة الجديدة بالتعاون مع قطاع الأعمال الألماني لوضع سياسات تستهدف حماية الشركات الألمانية.

وعلى الصعيد الأوروبي تخطط ميركل للتعاون مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتعزيز منطقة اليورو، على الرغم من خلافاتهما حول كيفية تحقيق ذلك ، وتحفظ ألمانيا على تقاسم المخاطر التي تتعرض لها البنوك الأوروبية.

ومن الواضح أن المستشارة الألمانية لا تحبذ إجراء تغييرات جذرية ، قد يعارضها الحزب الاشتراكي الديمقراطي شريكها في الائتلاف، لكن التقدم نحو اتحاد مصرفي أوروبي قد يشكل خطوة مرضية. ومن المتوقع أن تقوم ألمانيا وفرنسا بالإعلان خلال أسابيع عن مبادرات جديدة لدعم وتطوير الاتحاد الأوروبي مما يسمح له بالتعامل مع قضايا الهجرة والأمن والتجارة والمناخ ومواجهة التهديدات الحمائية من جانب الولايات المتحدة.

ومن جانبها تسعى بريطانيا للحصول على دعم ألمانيا لخروجها من الاتحاد الأوروبي، من خلال اتفاق تقدم فيه برلين للندن اتفاق تجارة فريد من نوعه ومصمم خصيصا لها لدعم التبادل التجاري بين البلدين. بالتأكيد هناك جدول أعمال كبير وشاق ، ينتظر الحكومة الألمانية الجديدة ، والتي ستبدأ عملها رسميا منتصف مارس الجاري لكن تركيز ميركل خلال ولايتها الرابعة والأخيرة ، سوف يكون على تأمين الرخاء وفرص العمل ، في بلد يحتل الترتيب السادس عشر ضمن البلدان الأسعد عالميا خلال عام ٢٠١٧ ، بعد أن وصل مستوى الرضا عن الحياة فيه إلى مستوى متقدم وضعه في هذه المرتبة المرموقة .