أفكار وآراء

عودة إلى الحرب الباردة.. مع الطبعة الجديدة لسباق التسلح

10 مارس 2018
10 مارس 2018

د. عبدالعاطى محمد -

أعاد خطاب الأمة السنوي الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أجواء الحرب الباردة التي سادت في ستينات القرن الماضي بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة واستمرت حتى نهاية الثمانينات. اختلفت الظروف والشخصيات وتباعدت السنين ومع ذلك عادت هذه الأجواء مجددا مع استعراض القوة الذي قدمه بوتين في هذا الخطاب.

المشهد الذي أحاط بالخطاب وتابعه العالم على الهواء مباشرة لخص ملامح ما كان يجري تداوله من تحليلات وتوقعات على لسان المحللين والخبراء لمسار العلاقات الروسية الأمريكية منذ الجهود والتحركات الحثيثة التي قادها بوتين على مدى السنوات الأخيرة لاستعادة مكانة روسيا الدولية، وكانت تشير إلى أن الطرفين يندفعان بشدة إلى استدعاء الحرب الباردة مجددا فيما بينهما وتفعيل هذا الاستدعاء على الأوضاع العالمية ككل. ما كان يدخل في نطاق الافتراضات والاجتهادات التحليلية أصبح حقائق قائمة تدلل عليها الكثير من الشواهد بدءا من التسابق على إنتاج السلاح وتصديره، إلى الخلافات الحادة في ملفات إقليمية مهمة أثرت سلبا بالفعل على الأمن والسلام الدوليين وتحديدا في أوروبا والشرق الأوسط. سقطت الخلافات الأيديولوجية التي كانت سببا رئيسيا في الحرب الباردة وقت وجود الاتحاد السوفيتي، ولكن حل محلها الصراع على النفوذ والمكانة الدولية والمصالح إلى حد التناقض، وهي نفس المظاهر التي اتسمت بها علاقات الطرفين في الماضي البعيد، وها هي تتجدد مرة أخرى وإن جاءت بصور وأدوات مختلفة وفقا للمستجدات على الساحة العالمية واختلاف الزمان والقيادات. ولعل أبرز ما كان يميز تلك الحرب هو الضغط من جانب كل طرف على الآخر بالأفكار والاقتصاد والسلاح دون استخدام الأخير، وسعى كل منهما إلى تقسيم العالم ما بين حلفاء وأصدقاء من جهة، وأعداء من جهة أخرى.

الصورة الحديثة للعلاقات بين الطرفين لا تبتعد كثيرا عن تلك القديمة التي كانت سائدة في الحرب الباردة مع قدر قليل من التفاصيل بحكم تباين الظروف ومستويات القوة. ولذلك لم يبتعد عن الحقيقة من تحدثوا عن الحرب الباردة الجديدة بين روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة. لم تكن هذه الحرب معلنة كما كان قائما في الماضي، ولكن عمليا أو فعليا كانت كذلك. فقط لا أحد يدّعي أن العالم منقسم بين الطرفين بل هو متعدد المواقف والتحالفات أو حتى التوافقات فيما يتعلق بسياسات كل منهما. ولكن كل منهما يتصرف اليوم بلغة الحرب الباردة، ولا يتحرج من القول إن من ليس معي فهو ضدي!.

خطاب بوتين وضع حدا للشكوك فيما إذا كانت العلاقات تشهد فعلا صورة جديدة من الحرب الباردة أم لا، وذلك عندما تحدث بلغة التحدي واستعرض مظاهر للقوة المسلحة، ووجه هذا وذاك إلى الولايات المتحدة دون حرج، إضافة إلى كون الخطاب رسالة لعالم اليوم عما يحدد سياسة روسيا ودورها. وأخطر ما في مشهد الخطاب استعراض القوة التي وصفها بوتين بلسانه بأنها القوة التي لا تقهر، وتلك في حد ذاتها كانت من أبرز ملامح الحرب الباردة أو على الأقل أجواء مثل هذه الحرب.

تحدث بوتين عن قدرات بلاده العسكرية وامتلاكها لصواريخ استراتيجية متطورة قادرة على الرد على العدوان على روسيا أو أي من حلفائها ولا يمكن للأمريكيين وقفها.. هي صواريخ لا تقهر على حد قوله. كما عرض لغواصات صغيرة وأخرى تعمل بالدفع النووي، وطائرات أسرع من الصوت تم تطويرها لمواجهة التهديدات الجديدة التي تطرحها الولايات المتحدة، وعن صواريخ عابرة للقارات غير محدودة المدى. والملفت الذي أضفى قدرا عاليا من التحدي والمبالغة في استعراض القوة أن الرجل كان يتحدث عن كل هذا القدر الرهيب من السلاح وخلفه شاشات للعرض توضح ذلك، ثم يلتفت للشاشات ويقول: ها أنا ذا!!.

قال البعض إن الرجل فعل ذلك في سياق الترويج لترشحه لفترة رئاسية جديدة، وهذا وارد بكل تأكيد، ولكن بعيدا عن الهدف الشخصي المباشر، لا يجب التهوين من كل ما ورد في العرض من أن روسيا أصبحت تمتلك أسلحة فائقة السرعة قادرة على الوصول إلى أي مكان في العالم، أي لديها قدرة ردع عسكرية جديدة من نوعها تعلن إطلاق طبعة جديدة من سباق التسلح.

على الفور ردت واشنطن سريعا بالرفض والانتقاد والاستنكار، فقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية: «هذا شيء لا نستمتع بمشاهدته بالتأكيد، لا نعتبر ذلك سلوكا مسؤولا للاعب دولي، إن الرئيس بوتين أكد بذلك ما كانت حكومة الولايات المتحدة تعرفه منذ فترة طويلة والذي كانت روسيا تنكره قبل ذلك».. واتهمت واشنطن موسكو بأنها بذلك تخرق القانون الدولي حول نزع السلاح ولا تلتزم بقواعده فيما يتعلق بتطوير السلاح التقليدي والنووي. وردت موسكو سريعا أيضا بنفي هذا الاتهام وأكدت أنها ملتزمة بواجباتها الدولية.

وكلا التعليقين في الحقيقة متوقعان ولا يشكلان موقفا ذا مغزى، فما أكثرها المواقف التي تكررت فيها هذه المعاني،وبقيت الحقائق كما هي،هناك سباق رهيب بين القطبين لإنتاج السلاح وتطويره وتصديره. وما فعلته روسيا فعلته الولايات المتحدة بكل تأكيد، ولا يمكن تصديق أن كلا منهما كان بعيدا عما يخطط له الآخر، أو لا يريد أن يحقق التفوق عليه.بل هو اتجاه عام تزايدت وتيرته في السنوات الأخيرة برغم كل الدعاوى بأن هناك التزاما بالحد من سباق التسلح. وعودة سريعة إلى مسار مبيعات السلاح في العالم وفقا لتقارير معهد استوكهولم لأبحاث السلام تشير إلى تزايد مبيعات السلاح خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة بشكل غير مسبوق. لن نتحدث عن أرقام المبيعات فالتقديرات فيها مختلفة، وفي الأغلب تظل سرا دوليا خصوصا من جانب كبريات شركات إنتاج السلاح. يهمنا على سبيل التدليل على تصاعد سباق التسلح، قبل ما جاء في خطاب بوتين الذي يعد وحده دليلا كافيا على وجود طبعة جديدة لهذا السباق ستغير كثيرا من الخريطة السياسية في العالم، يهمنا الإشارة مثلا إلى أن النسبة الأكبر في كمية تصدير السلاح وقعت بين عامي 2012 و 2016 وأن روسيا والولايات المتحدة شاركتا معا بنسبة 56%من إجمالي التصدير في العالم، وجاءت الصين في المرتبة الثالثة، تليها فرنسا وألمانيا ولكن بنسب محدودة جدا مقارنة بكل من روسيا والولايات المتحدة. وتشير تقارير المعهد إلى أن الشرق الأوسط استحوذ على النسبة الأكبر في استيراد السلاح العام 2016. مع ملاحظة أن هناك تجارة غير مشروعة للسلاح ضمن هذه النسب.

من السهل تفهم هذا الاندفاع العالمي نحو تجارة السلاح.

وهناك دائما نظريتان في هذا الصدد، أحدهما اقتصادية محضة جوهرها أن تجارة السلاح قاطرة لنمو الاقتصاد، ولذلك يجب أن تستمر بل وتتزايد، فهي صناعة ذات استثمارات ضخمة وتعمل على نمو صناعات عديدة أخرى.ولهذه النظرية رجالها وخبراؤها الذين لا يقتنعون مطلقا بمبدأ نزع السلاح، وإنما فقط بالعمل على الحد من سباق التسلح، بما يعني أن صناعة كهذه لابد أن تستمر مع قدر من القواعد والضوابط. ولا شك أن العولمة ساهمت في تعميق هذه النظرية، لأنها يسرت جدا من فرص إنتاج السلاح من الناحية الاقتصادية، والأهم أنها ساعدت في تطوير السلاح بما أنتج أجيالا جديدة منه أكثر قوة. ولكن النقد الموجه لها هو ببساطة أنه من الصعب التأكد من الوفاء بالالتزامات. والإشارة سالفة الذكر لاتهام واشنطن لموسكو بأنها غير ملتزمة هو مثال على هذا الوضع. وأما النظرية الأخرى فهي أمنية محضة وجوهرها أن السلاح ليس فقط ضرورة لرد أي عدوان، وإنما هو ردع مسبق لمنع وقوع العدوان، وهي النظرية الأكثر رواجا بالطبع.

وأيا كانت وجاهة كل نظرية، لا يمكن إغفال تأثير الأزمات السياسية الإقليمية، ولا الصراع أو التنافس بين القوى الدولية الكبرى على التحكم في مصير العالم. فكلا العاملين يدفعان إلى إيجاد طلب متزايد على التسلح، بمعنى أنه يخلق حالة من الاحتياج المتزايد للسلاح.

ولا شك أن بوتين وهو يتفاخر بما أصبحت تمتلكه بلاده من صواريخ «لا يمكن إيقافها»، كان يضع في حساباته خلافاته مع الغرب في أوكرانيا واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم بكل ما ترتب عليه من توترات أمنية بين بلاده وجيرانه الغربيين دفعت كليهما إلى امتلاك الكثير من السلاح، وكذلك التهديدات الأمنية من حلف الأطلنطي. ولا ننسى أن أهم ما قدم ترامب نفسه به للعالم والناخب الأمريكي هو أنه سيعمل جاهدا على بقاء التفوق العسكري الأمريكي في العالم، ولم يخف بالطبع انحيازه لشركات السلاح لأسباب اقتصادية من وجهة نظره، وللاحتياجات الأمنية الأمريكية، وأكد مرارا على أنه يريد الحلف الأطلنطي متفوقا على روسيا ولكن بشرط مشاركة مالية أكبر من حلفائه الغربيين. ولو نظرنا إلى الشرق الأوسط بكل ما شهده ولا يزال يشهده من حروب أهلية وعدم استقرار(ملفات سوريا وليبيا واليمن والعراق) لتفهمنا الاندفاع المتزايد من دول المنطقة نحو امتلاك المزيد من السلاح. ومن المؤكد أن عرض بوتين لأحدث ما أنتجته الترسانة الروسية من السلاح هو موضع اهتمام بالغ من عديد دول المنطقة في المستقبل القريب، وخصوصا فيما يتعلق بالحصول على الصواريخ التي لا يمكن إيقافها على حد تعبيره.

بقاء الأزمات الإقليمية سواء في الشرق الأوسط أو شرق أوروبا، والتنافس الشديد بين كل من موسكو وواشنطن على إعادة رسم خريطة العالم السياسية أفرزا الطبعة الجديدة من سباق التسلح، ومعها تتزايد الدلائل على أن هناك استدعاء من جانب القطبين للحرب الباردة التي تختلف قطعا عن سابقتها من حيث الشكل ولكنها تمتلك عناصر وقوعها، ويبقى السؤال مفتوحا بلا إجابة محددة عمن سيكونون ضحاياها في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. قلوبنا مع عالمنا العربي المكلوم بالهموم والخلافات ألا يكون من بين الضحايا.