randa2
randa2
أعمدة

عطر: صورني!

07 مارس 2018
07 مارس 2018

رندة صادق -

[email protected] -

العولمة أفرزت معرفة وأفرزت كذلك تفاهة، أفرزت تواصلا، وأفرزت عنصرية، العولمة غيّبت قيما وأنتجت قيما أخرى، غيرت عادات لتدخل عادات غريبة، العولمة قلبت موازين العقل ليحل مكانها مفاهيم دخيلة ضيقة على المجتمع أو فضفاضة على أبعاده.

“ثورة رقمية” بكل ما في الكلمة من معنى، الثورة تعني تغيير في هرمية تفكير الشعوب ونشر فكر جديد يسود المجتمع بداية ثم يكرس كواقع على الناس تبنيه والتعامل معه، كل هذا لا يمكن وضعه في خانة الأمر العصيب أو السيئ، ولكنه أوجد إشكالية مجتمعية أثرت في بنيته الذهنية وفي أيدلوجياته، ولم تسلم منها ثقافتنا عن ذاتنا.

نحن اليوم نعيش ونتنفس ونشتري ونبيع ونحلم ونحب وننتظر أن نتزوج وننجب على صفحات التواصل الاجتماعي، لقد نشأ مجتمع جديد، كان يُنظر إليه فيما مضى، كمجتمع افتراضي، أما اليوم كرّس كمجتمع بديل، بعد أن تسلل الى حياتنا الحقيقية عبر هواتفنا الذكية، التي أصبحت امتدادا لجسدنا وكأنه قد نبت ليدنا جهازا يُحضر لنا العالم ويأخذنا الى عوالم أخرى، لقد تخلى الناس عن اللحظة الخاصة في يومياتهم، ليستبدلوها بتواصل بلغ حد على الواعين فيه إطلاق صفارات الإنذار، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وان كان ذلك “حلم إبليس بالجنة”، عمت الفوضى الوقت، وأصبح الإنسان يحتاج في اليوم الواحد لأكثر من أربع وعشرين ساعة ليتلقى (اللايكات) ويرد على الـ(الكومنتات)، حتى باتت التهنئة والتعزية وفعل المجاملة وكل المواقف اليومية، نشاط على الـ”سوشيل ميديا “وبرعاية مجهولين.

كل هذا يبدو جيدا أمام جملة “صورني” التي اكتسحت ألسنة الناس في كل المناسبات، نعم نحن بعصر الصورة، حيث تفوقت الصورة على الكلمة، وتراجعت اللغة لتسكن ظل المعرفة، وقفزت الصورة لتحتل وعي الناس وتؤثر في رؤيتهم عن ذاوتهم، بداية كان الأمر ممتعا بالنسبة الى جموع الناس، لقد أصبحوا قادرين على أرشفة اللحظات المهمة في حياتهم ومشاركتها مع من يحبون، لكن اليوم تحول الأمر ليصبح هستيريا، وكأن الناس فقدت السيطرة على عقلها ولم تعد تدرك حدودها، جنون الصورة أصاب الكبار والصغار، لكن هذا الجنون أضعف المضمون على حساب المشهدية، فبات هناك حرب الصورة، حيث يتحضر أهل المشهد بكل ما يملكون من عضلات لبلوغ الصفوف الأمامية والتقاط إنجازات الحدث، وان لم يكونوا مشاركين أو صانعين للحدث، فنجد ملاكمة سرية تنطلق بالخفاء أو غمز ونقد على من لم يمنح الآخر مساحة ليبرز في الصورة، ولخصت الصورة المشهد الثقافي ببضعة وجوه تشارك لكي تحصد “ابتسم لتطلع الصورة حلوة” أما في المحصلة، فلا فكر ينمو ولا تغير يحدث ولا إضافة اجتماعية تظهر، عقم ثقافي وشلل في حركة العقول.

حين تتجول على صفحات البعض تجد الحدث أكبر منهم والصورة أهم من حالتهم، ومع هذا يبتسمون وكل ما في نيتهم مثلا أن يقولوا: ”أيها الفيسبوكيون انظروا انا كنت هناك “. وأزيد ان البعض لا يهمه المشهد ولا من في الصورة ولا الحدث ولا كل ما يدور، بل يكبر الصورة ليرى نفسه، فإذا كان هو يظهر بمظهر جميل وجذاب يوافق ويبدي انبهاره في روعة الصورة، أما لو لم يكن موفقا في اللقطة، يغضب ويتهم المصور بأنه لا يتقن التقاط الصور. ومن غرائب هستيريا صورني “فم البطة”، حيث تظن النساء أنهن يبدون ك”جنيفير لوبيز” أو “أنجلينا جولي” وطبعا لا يمكنني أن أتجاهل الفوتوشوب الذي غرر بعقل المرأة، فظنت أنها تملك بشرة مخملية لا شوائب فيها، ولم يحفر العمر أثلامه في جبينها وابتسامتها الهوليودية شمس لا تغيب عن متابعيها، الأمر يتفاقم والحل برده الى الحياة السوية التي قد تعيد الأمور الى نصابها.