الملف السياسي

إطار أمني متفق عليه.. نفتقده ونحتاج إليه!!

05 مارس 2018
05 مارس 2018

د. عبد الحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استطاع خلال الأشهر التي قضاها في البيت الأبيض ، والتي لا تتجاوز 14 شهرا تقريبا حتى الآن ، أن يثير قلق الكثيرين ، ليس فقط حول مواقف وسياسات القوة الدولية العظمى في عالم اليوم ، بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط وكثير من القضايا الدولية ، ولكن أيضا بالنسبة لعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأقرب في أوروبا الغربية ، وفي حديقتها الخلفية ، أي في أمريكا اللاتينية ومنطقة الباسيفيكي .

غير أن خبرة الأشهر الماضية، وبرغم أنها تظل حديثة وغير ثابتة ليمكن البناء عليها، بقدر من الثقة والاطمئنان الكافي، تشير بشكل واضح إلى أن الرئيس ترامب، الذي تكونت خبراته وثرواته الكبيرة في عالم المال والأعمال والصفقات التجارية، يدير سياسة الولايات المتحدة بنفس الأساليب تقريبا، ولأنه حقق نجاحا كبيرا ومشهودا، بالمعايير الأمريكية بالطبع، فانه يثق في أن ما نجح في مجال المال والأعمال، في السنوات الماضية، يمكن أن ينجح بالضرورة في مجال السياسة والعلاقات بين أمريكا وحلفائها، وبينها وبين غيرها من الدول، في عالم اليوم. ولعل ذلك هو ما يفسر ليس فقط المنطلقات التي ينطلق منها الرئيس الأمريكي، وهي منطلقات محسوبة بمعايير الربح والخسارة بمفهومها الاقتصادي، وحتى المالي الأضيق، ولكن أيضا الأساليب التي يتم اعتمادها والأخذ بها في التعامل مع الدول الأخرى، حتى ولو كانت حليفة، وهى أساليب تقوم على أساس مبدأ أن يدفع ويتحمل كل طرف تكلفة ما يحصل عليه. ومع أن هذا المبدأ يعد صحيحا وعادلا في مجال المال والأعمال والتجارة، بمستوياتها المختلفة، إلا أن الأمر على المستوى السياسي، وفي علاقات الدول مع بعضها البعض، يختلف عن ذلك كثيرا، وهو أمر معروف ومستقر، ليس فقط بالنسبة للولايات المتحدة كقوة عظمى، ولكن أيضا بالنسبة للقوى الكبرى والقوى الإقليمية وحتى الدول الأصغر، في علاقاتها مع محيطها ومع الدول الأخرى من حولها، وذلك لأسباب عديدة، من أبرزها أن السياسة وأن كانت تقوم على المصالح بالتأكيد، إلا أن دائرة المصالح تلك هي دوما أوسع بكثير، وأكثر عمقا في كثير من الأحيان، من مفهوم الفائدة المباشرة، أي المصالح المالية المباشرة، أو الفورية، أو حتى المنظورة، لأن مصالح الدول والشعوب أكبر وأوسع وأكثر شمولا، كما تمتد بالمفهوم الاستراتيجي إلى الماضي والمستقبل، ولا تنحصر فقط في الحاضر الراهن، أو في النظر إلى تحت القدم كما يقال.

وإذا كان من المفروغ منه أن السياسة والمواقف الأمريكية، هي في النهاية حق ومسؤولية الرئيس والمؤسسات الأمريكية الأخرى، إلا أنها تؤثر– بحكم الثقل الأمريكي الضخم– في مختلف القضايا والشؤون الدولية، وبدرجات وأشكال مختلفة، ولذا يهتم الجميع بما يقوله ويعلنه الرئيس الأمريكي عبر تغريداته على تويتر، ومن خلال قراراته الرسمية أيضا، ويبدو أن الأشهر الأربعة عشر الماضية، قد أقنعت عددا غير قليل من حلفاء الولايات المتحدة، بحكم ما حدث خلالها من أحداث ومواقف، بأن الرئيس الأمريكي، في عمله وحرصه على تحقيق المصالح الأمريكية، على النحو الذي يراه، يمكنه أن يعدل، أو يغير حتى بعض مواقفه المعلنة من قبل، فما اعلنه الرئيس الأمريكي بالنسبة لحلف الأطلسي مثلا، وبالنسبة لاتفاقية باريس للمناخ، وبالنسبة للاتفاقيات التجارية مع كندا والمكسيك، ومع دول الباسيفيكي، وبالنسبة للهجرة، وبالنسبة حتى للعلاقات مع روسيا الاتحادية، والآن مع الصين واليابان وأوروبا بالنسبة للجمارك التي فرضها على الصلب والألومنيوم وتحذيره بالرد على أوروبا واليابان في مجال السيارات، إذا هي ردت على الإجراءات التي اتخذها، كل تلك القضايا والمجالات، لم يقف فيها الرئيس الأمريكي جامدا، بل انه اتسم بالمرونة اذا تجاوبت الأطراف الأخرى، ولو مع بعض مطالبه، وعلى نحو يمكنه أن يقول انه حقق فيها مكسبا ما. وفي هذا الإطار فانه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا : إنه مع الوضع في الاعتبار أن الرئيس الأمريكي يريد أن يثبت دوما أن سياسات سلفه، الرئيس باراك أوباما، كانت خاطئة، أو أنها لم تحقق المصالح الأمريكية على النحو الذي يراه ترامب، وانه – أي ترامب – يمكنه تحقيق ما هو أفضل لأمريكا، بدءا من برنامج أوباما للرعاية الصحية – أوباما كير – الذي ألغاه ولم ينجح في تقديم البديل الذي يوافق عليه الكونجرس حتى الآن على الأقل، ووصولا إلى الاتفاق النووي مع إيران، الذي يريد تعديله بشكل ما، فإن الأشهر الماضية، أثبتت بوضوح أن هناك أطرا وقواعد لا يمكن القفز عليها، ولا إلغاءها، أو تجاهلها، من جانب الولايات المتحدة كدولة، وكقوة عظمى في عالم اليوم، وان هناك مسافة بالتأكيد بين رغبة الرئيس الأمريكي بالنسبة لقضية أو موضوع ما، وبين الموقف النهائي للدولة الأمريكية ومؤسساتها المعنية ومنها الكونجرس . فمن المعروف، قانونيا وسياسيا أيضا، أن الرئيس الأمريكي، بسلطاته الكبيرة في النظام الأمريكي، لا يستطيع أن يتنصل، من التزامات تعهدت بها الدولة الأمريكية في اتفاقيات أو معاهدات دولية ملزمة، نعم هو يستطيع أن يدفع موضوعا، أو يؤجل آخر، ويستطيع أن يلوح بإجراءات تنفيذية ما، ولكنه لا يمكنه نقض اتفاقيات ومعاهدات بسهولة، وبدون استشارة الكونجرس وموافقته أيضا، ولعل إدراك هذا البعد هو ما يفسر حقيقة أن الجزع والقلق من سياسات ومواقف ترامب خارج أمريكا أكثر بكثير منها داخل الولايات المتحدة، لأن أمريكا في النهاية دولة مؤسسات، وكفل الدستور الأمريكي توازنا وتكاملا بين السلطات أيضا .

ولعل ذلك هو ما يفسر أيضا أن الرئيس الأمريكي يتحدث دوما عن تعديلات لاتفاقيات قائمة، وليس عن إلغاء تام لها، فالإلغاء أصعب بكثير من إجراء تعديلات، وإذا تمت تلك التعديلات، بأي مستوى يوافق عليه، فان ذلك سيحسب له على المستوى الأمريكي بالطبع، بغض النظر عن أية آثار جانبية لذلك، خاصة فيما يتصل بالمصداقية الأمريكية .

*ثانيا : انه بالرغم من تعدد وتنوع الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين حلفائها في أوروبا واليابان وغيرها، سواء داخل حلف شمال الأطلسي، أو على المستوى الثنائي، إلا انه يمكن القول بأن حبل تلك التحالفات – وفي مقدمتها التحالف الأمريكي الأوروبي والأمريكي الياباني – لن ينفرط، وذلك لسبب محدد هو أن كل من الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا واليابان، قد صاغت منذ وقت مبكر الإطار الأمني لعلاقاتها، والذي انشأ بينها ما يمكن تسميته بإطار الأمن المشترك، أو المجتمع الأمني الواحد، الذي يقوم على مبدأ الضمان الجماعي من ناحية، وعلى انتفاء التهديد من داخله لأي طرف من أطرافه من ناحية ثانية . والى جانب تعميق وتوسيع نطاق الثقة المتبادلة بين أعضاء التحالف، سواء بين ضفتي الأطلسي، أو بين أمريكا وحلفائها في آسيا، فان استقرار الإطار الأمني ومجتمع الأمن المشترك، وحرص كل الأطراف على الالتزام به، هو ما يعطي الفرصة والإمكانية لتفاعل المصالح بشكل أكبر بين أعضائه، بما في ذلك ظهور خلافات تجارية، أو مالية، أو بيئية أو سياسية أو غيرها، لأنها تكون في النهاية خلافات داخل البوتقة الواحدة، ولتعظيم المصالح المشتركة والمتبادلة، فكل الأطراف تدرك أن مصالحها في الإبقاء على الإطار الأمني قويا ومتماسكا .

ولعل ما يساعد على ذلك أيضا أن قيادات الدول المعنية قادرة دوما على التركيز على ما يحقق مصالحها المشتركة، وعزل الخلافات، أيا كانت والتعامل معها بروح وحرص على حلها وعدم التأثير سلبا، أو المناورة بالمصالح المشتركة وتعريضها للخطر لتحقيق مصلحة ذاتية ما أو في ظروف محددة، وهذه مسألة لا تتوفر بسهولة، لكنها تحتاج في الواقع إلى خبرة ونضوج وإلى ثقة متبادلة، وتقدير واحترام للمصالح المشتركة وقناعة عميقة بأهميتها لكل الأطراف، وهو ما وفرته وتوفره العلاقات بين الدول الغربية. ولذا فانه مهما حدثت، أو ظهرت من خلافات فيما بينهم، يظل السياج والإطار ومجتمع الأمن الواحد قائما دون اهتزاز، ودون محاولة لاختراقه، أو تمزيقه من جانب أي من أعضائه، يقينا بأن الخلافات سيتم حلها، وان المصالح المشتركة والمتبادلة هي الأبقى لصالح دولها وشعوبها في النهاية .

في هذا الإطار تبلورت العلاقات ليس فقط في نطاق أوروبا الغربية، بل في النطاق الأوروبي الأوسع في إطار اتفاقية هلسنكي للتعاون والأمن الأوروبي، والتي مهدت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي لتوسيع دائرة الاتحاد الأوروبي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو عام 1990، كما تبلورت العلاقات بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة . وفي الوقت الذي مثل فيه حلف شمال الأطلسي ركيزة الأمن الغربي، واحد ركائز الأمن الدولي منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، فان واشنطن لم تنزعج من محاولات أوروبا الغربية دعم وتعميق تعاونها وعلاقاتها الدفاعية فيما بينها، فقد وافقت أمريكا على احتفاظ كل من فرنسا وبريطانيا بقواتها النووية مستقلة عنها، برغم أن واشنطن تتحمل العبء الأكبر في مسؤوليات الدفاع عن أوروبا الغربية، كما أن محاولات فرنسا وألمانيا تشكيل قوة موحدة – الفيلق الأوروبي - تظل محدودة بحكم محدودية عدد هذه القوة المشتركة، صحيح أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تحدثت عن حاجة أوروبا لان يكون لها دفاعاتها الخاصة، وذلك بعد تكرار ترامب مطالبته للحلفاء بدفع ثمن حماية أمريكا لهم، والمساهمة بنصيب أكبر في نفقات حلف شمال الأطلسي، ولكن الصحيح أيضا أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكل دول أوروبا والشرقية، لا تستطيع الاستغناء عن المظلة الأمريكية الدفاعية، خاصة في مواجهة التهديدات المحتملة لروسيا بوتين . ولذا فانه لم يكن مصادفة أبدا أن تسعى كثير من دول أوروبا الشرقية إلى الانضمام لعضوية حلف الأطلسي، بعد تفكك حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وما تعرضت له جورجيا وأوكرانيا – ضم روسيا لشبه جزيرة القرم - لا يزال ماثلا أمامهم . وعلى ذلك ستظل أوروبا معتمدة على المظلة الدفاعية الأمريكية، وإذا حدث وتم تطوير القوة الأوروبية المشتركة بين ألمانيا وفرنسا، فإنها ستظل محدودة في النهاية، ولن تكون أبدا بديلا لدرع حلف شمال الأطلسي والمظلة الأمريكية، خاصة وان ألمانيا وفرنسا ليستا قلقتين من تهديدات روسية في شرق أوروبا وتحاولان التعامل مع موسكو عبر استيعابها في الإطار الأوروبي الأوسع ومن خلال شبكة مصالح كبيرة ويصعب التخلي عنها من جانب أي قيادة روسية.

*ثالثا: إن النجاح الأوروبي والغربي العام في إيجاد إطار ومجتمع الأمن المشترك، والشعور العميق بالثقة المتبادلة وعدم التعرض لتهديدات من داخل هذا الإطار الذي يحمي ويعزز المصالح المشتركة والمتبادلة هو جوهر الدرس الغربي، الذي نفتقده ونحتاج إليه عربيا، حتى لا تكون خلافاتنا، وحتى الصغيرة منها، سببا في وقف، وحتى تمزيق، كثير من عناصر التعاون والعمل المشترك،التي تمت بعد جهود كثيرة، ومن جانب قيادات مخلصة وجادة في عقود وسنوات سابقة، وتعطيل مصالح الشعوب الشقيقة وتعريضها للخطر الذي يطال الجميع . والمؤكد أن نظرتنا لمصالحنا الفردية والجماعية العربية، ولسبل تحقيقها، وافتراض البعض لإمكانية النجاة بالنفس، إذا غرق الآخرون أو ساعد على إغراقهم، فضلا عن طبيعة مرحلة التطور الاجتماعي والسياسي التي نعيشها، هي المسؤولة عن كثير مما نعاني منه اليوم، بما في ذلك مأساة الهدم الإعلامي للروابط بين الأشقاء، وهل ندرك معنى أن الدول الغربية، برغم خلافاتها العديدة، لم تنحدر إلى ما انحدرنا إليه إعلاميا؟ وبرغم كل مساوئ الواقع العربي إلا أننا لن نيأس ولن نلقي المصالح المشتركة والمتبادلة مع الأشقاء جانبا، لأنها ببساطة طوق النجاة لنا جميعا، مهما شرد البعض أو جمح بعيدا، فالنجاة تظل في إطار الأمن المشترك الذي يجمعنا معا ويطمئننا معا، ويحقق مصالحنا المشتركة والمتبادلة معا أيضا اليوم وغدا، فهل يمكن أن نبنيه؟ .