الملف السياسي

أزمة التحالف الأطلسي بين السياسة والاقتصاد

05 مارس 2018
05 مارس 2018

د. صلاح أبونار -

يبدو التحالف الأطلسي أو بعبارة أخرى:العلاقات الأوروبية الأمريكية، وكأنه يمر بأزمة شاملة ومصيرية. واقع الأمر ان هذا التحالف، يمر بأزمة حقيقية إلا أنها ليست بتلك الحدة والشمول الذي تبدو عليه.

فهي أزمة متفاوتة الحضور من مجال لآخر، وتحظى بدعم متفاوت القوة من مؤسسات صنع القرار الأمريكي الأساسية، وحضورها الإعلامي في بعض تجلياتها اعلى بمسافة من حضورها الفعلي، وفقدت بعض اهم تجلياتها على امتداد عام ترامب الرئاسي الاول. وفي هذه الحدود ماهي أنماط حضورها وقوتها والتفاوتات الحاصلة بينها؟

ثمة توافق على وصف هذا الاتجاه بالنزعة العزلوية او الانسحابية، يصاحبه توافق آخر حول كونها تمثل التجلي المعاصر للنزعة الجاكسونية، احدى اربع نزعات انتظمت المسار التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية.

تنسب الجاكسونية الى الرئيس السابع اندرو جاكسون. وهي داخليا نزعة شعبوية معادية للمؤسسات، تناهض سياسات الرفاهية والسلطات الفيدرالية، وتناصر دعم الطبقة الوسطى. وخارجيا تنظر للعالم بشك كعالم خطر ومعادٍ، وتسعى الى اندماج منتقى ومحدود في الشؤون العالمية، ولا تؤيد التجارة الحرة وتراها طريقا لفقدان الاستقلال الاقتصادي، وقليلة الاهتمام بالقانون الدولي، ولا تتسامح مع القيود الدولية علي القوة الأمريكية، وبالتالي لا تهتم بقيم التوازن الدولي.

سنجد المجال الأول لتوترات العلاقات الأطلسية في العلاقات التجارية. تتجلي تلك التوترات عبر ثلاثة مظاهر. يتعلق اولها بالعقوبات الأمريكية الجديدة ضد الصين، الهادفة للحد من التوسع التجاري الصيني المطرد. والتي تجلت في قرار أواخر يناير بفرض رسوم جمركية عالية، على واردات أمريكا من ماكينات الغسيل وألواح الطاقة الشمسية، والذي سيكون له تأثيره الواسع على الواردات من الصين. والقرار قيد الإعداد بفرض رسوم جمركية عالية، على الواردات الصينية من الصلب والألمنيوم. وهي قرارات تثير ثائرة الاتحاد الأوروبي، لأنها مضرة بمصالحة وستشعل حربا تجارية . والأهم ان الاتحاد يرى حماية نفسة من التدفق التجاري الصيني، عبر الالتزام بالتعددية التجارية التنافسية التي تمكنه من الاستفادة من مزاياه المقارنة، وتوسيع وإصلاح أحكام اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، بينما تفضل أمريكا اللجوء الى الحمائية والصفقات والترتيبات الثنائية.

ويتعلق الثاني بالعقوبات الأخيرة ضد روسيا في 21 فبراير، والتي طالت 33 شركة مرتبطة بصناعات الدفاع الروسية. سوف تثير العقوبات الأخيرة، الملزمة للشركات الأوروبية، خلافات واسعه مع الاتحاد الأوروبي . خلال زيارته الأخيرة لموسكو صرح وزير خارجية بلجيكا، ان الاتحاد الأوروبي لن يلتزم بالعقوبات الجديدة. والأرجح ان الوزير يبالغ، وان الاتحاد سيضطر للالتزام بدرجات متفاوتة، سيترتب عليها خلافات مع واشنطن. يمكن لدول مثل بولندا ودول بحر البلطيق، ان ترحب بلا تحفظ بالعقوبات تبعا لتاريخها الصراعي الطويل مع روسيا. ولكن دول مركزية مثل فرنسا والمانيا والنمسا، ستتعامل مع العقوبات بدرجه تحفظ عالية، تبعا لكثافة علاقاتها الاقتصادية مع روسيا في مجال الطاقة بالتحديد.

و يتعلق الثالث والاهم بقرارات أمريكية قادمة بالتأكيد، ستخلق معها أزمة حادة في العلاقات التجارية بين الطرفين. في حوار تلفزيوني لترامب في أواخر يناير على هامش مؤتمر دافوس، صرح: » لدي مشاكل كثيرة مع اوروبا فيما يتعلق بالتجارة، قد تتحول الى شيء كبير،يلحق ضررا كبيرا بهم.» وأضاف شارحا: « كان أمرا شديد الصعوبة ان تدخل سلعنا اسواقهم، بينما تدفقت سلعهم علينا بضرائب زهيدة للغاية.» اعتبر المراقبون تصريح ترامب تهديد مباشر بإجراءات تجارية عقابية واسعة، لمواجهه فائض التبادل السلعي مع أوروبا الذي وصل عام 2016 إلى 115.3 بليون يورو. هذه المحاولة لن ينصاع لها الاتحاد الأوروبي ببساطة، لأنها تقوم على قراءة خاطئة لأسباب هذا العجز الكبير، ولأن تعديله يقتضي إعادة صياغة كاملة للقواعد المنظمة للتجارة داخل الاتحاد الأوروبي، ولان الأمر لا يرتبط بسياسات تفضيلية مخططة، بل بقواعد تنظيمية مقبولة مثل تقييد استيراد المنتجات الغذائية الأمريكية المعدلة جينيا لاعتبارات السلامة. والأمر المؤكد أنها ستطلق عاصفة تجارية بين الطرفين، في توقيت حرج ينذر بمواجهة مع روسيا.

وإذا انتقلنا الى مجال العلاقات السياسية الأطلسية،سنجد توترات مماثلة باتت تتغلغل في نسيج تلك العلاقات. في فبراير انعقد مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن، الموازي الأمني العالمي لمؤتمر دافوس. وبعد ان عبر تقريره السنوي عن انزعاجه من التطورات السلبية الى باتت خلال السنوات الأخيرة، تهدد مؤسسات ومعايير ما يدعوه « النظام الدولي الليبرالي»، ابدى انزعاجه الشديد من الدور الذي تلعبه الإدارة الأمريكية الجديدة في خلخلة أسس هذا النظام. وينقل نيكولاس بيرنز، الوكيل الأسبق للخارجية الأمريكية، هذا التحليل الى نطاق العلاقات الأطلسية. كتب في هذا الصدد ان ترامب هو أول رئيس أمريكي بعد الحرب الثانية لا يخاطب الحلفاء الاطلسيين كقائد للتحالف الغربي، تربطه بهم علاقة شراكة استراتيجية، بل في الأساس كمنافسين اقتصاديين، الأمر الذي أوجد شقوقا عميقة في العلاقات الأطلسية.

وإذا نظرنا الى مستوى النظام الدولي سنجد مؤشرات هذا الدور، في التعامل مع النظام الدولي ليس من منظور الجماعة العالمية ، بل من منظور حالة الطبيعة التي تتنافس فيها الدول كل من اجل مصلحتها. والانسحاب من بعض التوافقات الدولية مثل اتفاقية باريس للمناخ، والضغط على مؤسسات الأمم المتحدة عبر تخفيض المساهمة المالية، والخروج عن الإجماع الدولي في قضايا محورية مثل قضية القدس. أما إذا نظرنا الى مجال العلاقات الأطلسية، فسوف نلاحظ الحماس الصريح لصعود الشعبوية الأوروبية، بكل ما تحمله من عداء لمؤسسات المجتمع الليبرالي. والفتور الواضح تجاه مشروع الاتحاد الأوروبي، فهذا الاتحاد لا ينظر إليه كوحدة تعمل على ازدهار القارة واستقرارها، بل كاداه لألمانيا وكمنافس اقتصادي جائر للولايات المتحدة. وهكذا امتدحت بريطانيا لخروجها من الاتحاد، وجري تشجيع دول أخرى على اتباع خطى بريطانيا، وكادت الإدارة الجديدة ان تعين تيد مالوخ المعروف بعداءة للاتحاد سفيرا لها لدى الاتحاد. وهناك ايضا العلاقات السلبية مع المانيا اللاعب الرئيسي في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعني تجاهل علاقات القوة داخله، والأخطر إعاقة مطالبة أوروبا بتقليص اعتمادها الدفاعي على أمريكا، لأن هذا المطلب في حاجة الى المانيا قوية وأوروبا متوافقة، وليس المانيا ضعيفة واوروبا منقسمة.

إلا أننا لو انتقلنا الى الأمن الجماعي الاطلسي سنجد صورة مختلفة. ووراء الاختلاف سنكتشف دور البنتاجون،وتصاعد الصراع العالمي مع روسيا، وحالة العداء الأمريكي العام الراهن لها. ماهي مؤشرات هذه الصورة؟ في ديسمبر الماضي صدرت استراتيجية الأمن القومي الجديدة، وفي يناير صدرت استراتيجية الدفاع الوطني الجديدة، و كلاهما يحمل رؤية استراتيجية للأمن الأطلسي تختلف حسب تحليل ايرك براتبيرج في مؤسسة «كارنيجي» ، عما ظل ترامب يتحدث عنه على مدار عامه الأول. في هذه الاستراتيجية تراجعت خطورة الإرهاب الدولي، وأصبحت روسيا والصين التهديد الأساسي للأمن العالمي. وفي الاستراتيجيتين سنجد دعما حاسما لتحالفات أمريكا الامنية والدفاعية، وهكذا ترددت كلمة حلفاء في استراتيجية الأمن 78 مرة، وهو معدل يتخطى كثيرا مرات ذكرها في استراتيجية أوباما. وفي هذا الإطار قدمت الاستراتيجيتان دعما واضحا للناتو، فهناك التزام واضح بالمادة الخامسة، ولا تزال هناك مطالبة لأوروبا بالوفاء بتعهداتها الأمنية برفع إنفاقها الدفاعي الى 2% من الدخل القومي ولكنها مطالبه غير مصحوبة بأي إملاءات. وبالتوافق مع ما سبق ارتفع الإنفاق الأمريكي الدفاعي في أوروبا بمقدار 1.4 بليون دولار.