أفكار وآراء

أيام فوضى الشبكات .. هل أصبحت معدودة؟!

04 مارس 2018
04 مارس 2018

أ. د. حسني نصر -

يبدو -والله اعلم- أن أيام فوضى حرية التعبير غير المسبوقة التي شهدها العالم مع قدوم شبكات التواصل الاجتماعي في مطلع الألفية الحالية أصبحت معدودة، وذلك بعد أن تزايدت في السنوات الأخيرة القيود التي تفرضها الدول والمنظمات الإقليمية وشركات الإنترنت، وبمسميات مختلفة، على محتوى هذه الشبكات، وآخرها مهلة الثلاثة أشهر التي منحها الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي للشركات الكبرى العاملة في هذا المجال مثل جوجل ويوتيوب وفيسبوك وتويتر، لإحراز تقدم ملموس في إزالة المحتوى المتشدد بسرعة أكبر (خلال ساعة من الإبلاغ عنه)، أو مواجهة تشريعات قد تسنها الدول الأوروبية لإجبارها على القيام بذلك.

هذه المهلة التي تعود لأكبر تجمع ديمقراطي عالمي، لا تنفصل عن جهود سابقة كثيرة للتحكم في المحتوى غير الملائم المنشور على شبكات التواصل الاجتماعي سواء من خلال التشريع الذي لجأت إليه دول كثيرة، أو من خلال تعقب المستخدمين، واعتقالهم ومحاكمتهم بدعوى نشر محتوى مناهض للأنظمة أو يمثل تحريضا على الكراهية والعنف والإرهاب.

ولعل هذا التوجه العالمي المتزايد نحو مراقبة الشبكات هو ما يدفعنا إلى القول إن أيام الحرية الفضفاضة التي منحتها تكنولوجيا الاتصال الجديدة للبشر سوف تنتهي أو على الأقل سوف ينخفض سقفها قريبا، في ظل استمرار وتزايد الضغوط على شركات الإعلام الاجتماعي من حكومات عديدة في العالم لضبط حرية الرأي والتعبير من أجل مواجهة المتطرفين وإزالة المحتوى الإرهابي والعدائي والدعاية التي تبثها التنظيمات الإرهابية.

ما تريده المفوضية الأوروبية من شركات الإنترنت خلال المهلة يتمثل في أمرين، الأول إزالة محتوى الكراهية أو العنف الذي ينشر على الشبكات خلال ساعة واحدة فقط من الإبلاغ عنه، والثاني اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأكد من عدم انتشار هذا المحتوى بأي شكل من الأشكال. باعتراف المفوض الرقمي في الاتحاد الأوروبي في البيان الصحفي الخاص بالمهلة التي أشرنا إليها، والذي نشر الجمعة الماضية، فإن شركات الإنترنت الكبرى أبدت تعاونا كبيرا وأزالت كمًّا كبيرًا من المحتوى الذي يحرّض على الكراهية والعنف في السنوات الأخيرة، وعلى سبيل المثال فإن منصة تويتر أعلنت أنها ألغت أكثر من نصف مليون حساب بسبب قيام أصحابها بالترويج للإرهاب، وفي ديسمبر الماضي كشفت شركات جوجل وفيسبوك وتويتر وميكروسوفت عن مبادرة لتبادل المعلومات فيما بينها، تلتزم من خلالها بالعمل معًا لتشكيل قاعدة بيانات تجمع فيها الفيديوهات والصور التي تروج للإرهاب وتعطي كل منها بصمة رقمية مميزة، وعندما تقوم شركة ما بوضع فيديو أو صورة في هذه القاعدة فإن الشركات الأخرى تلتزم بمنع نشرها على منصاتها.

ورغم الجدل الذى أثارته مهلة الاتحاد الأوروبي الجديدة لشركات الإنترنت، خاصة من جانب الجمعيات الحقوقية مثل جمعية الحقوق الرقمية الأوروبية التي تعارض هذا التوجه، فإن القواعد التي أعلنها الاتحاد الأوروبي يمكن أن تكون مفيدة أيضا إذا أحسنا استغلالها لإزالة محتوى الكراهية والتحريض على العنف ضد المسلمين الذي تعج به شبكات التواصل الاجتماعي.

وإذا وضعنا في الاعتبار أن خطاب الكراهية والعنف لا يصيب أوروبا وحدها بل يصيب أيضا دولا عربية وإسلامية عديدة، فإننا يجب أن نرحب بكل محاولة لوقف هذا الخطاب ومنع أصحابه من استغلال هذه المنصات المفتوحة للتحريض على الشعوب والمجتمعات على أسس دينية أو عرقية أو طائفية. فقط نريد أن نتأكد أن القواعد ستكون عالمية وتطبق على كل محتوى الشبكات دون تفرقة، إذ لن يكون هناك أي معنى لمنع وإزالة خطابات الكراهية المتشحة بالإسلام والموجهة للغرب، والسماح في الوقت نفسه بنشر خطابات الكراهية الكثيرة الموجهة للإسلام والمسلمين.

في تقديري، إن أهم الإجراءات العملية التي طلبتها المفوضية الأوروبية من شركات الإعلام الاجتماعي تتمثل في قيام هذه الشركات بوضع قواعد سهلة وشفافة للإبلاغ عن المحتوى غير الملائم وسرعة التعامل مع هذه البلاغات واتخاذ قرارات إزالة هذا المحتوى خلال ساعة واحدة. والمأمول في ظل القواعد الجديدة التي سيراقب الاتحاد الأوروبي تنفيذها أن يكون الرد سريعا خاصة في البلاغات الخاصة بخطاب الكراهية والتحريض على العنف والإرهاب والقتل على الهوية والانتماء السياسي والسباب المنتشر بكثرة على شبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، والتي أصبح يتنافس على نشرها مثقفون وأساتذة جامعات وسياسيون يدعو بعضهم بصراحة إلى قتل كل المنافسين السياسيين وإعدامهم حتى دون محاكمات قضائية.

ويلزم الاتحاد الأوروبي الشركات أيضا باستخدام برامج آلية (خوارزميات) للكشف السريع عن المحتوى الذي يحرّض على العنف والإرهاب ثم إزالته ووقف تبادله وانتشاره ومنع إعادة نشره مرات أخرى.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى قيام جوجل منذ منتصف العام الماضي باستخدام برامج فلترة لكشف وإزالة محتوى الكراهية والإرهاب من على منصتها الشهيرة للفيديو «يوتيوب». وتتبع منصة يوتيوب استراتيجية تقوم على استخدام الفلترة الآلية إلى جانب الفلترة البشرية وذلك لمتابعة الكم الهائل من المحتوى الذي ينشره المستخدمون عليها والذي يصل إلى 400 ساعة فيديو كل دقيقة. ووفقا لتصريحات نُشرت للمتحدث الرسمي باسم يوتيوب في مطلع أغسطس الماضي فإن الطريقة الآلية لمراقبة المحتوى نجحت في إزالة كمٍّ كبيرٍ من المحتوى الذي يتضمن تحريضا على الكراهية والعنف والإرهاب بصورة أسرع ودقة أكبر، مقارنة بالمراقبة البشرية، إذ تضاعف عدد الفيديوهات التي تتم إزالتها، ونجحت البرامج الآلية في حذف 75 بالمائة من الفيديوهات غير المناسبة دون ورود أي بلاغات عنها من المستخدمين.

والواقع أننا اذا أضفنا ما قام به الاتحاد الأوروبي إلى ما سبق أن أعلنته وزارة الداخلية بالمملكة المتحدة منتصف فبراير الماضي، عن نجاح تجارب استخدام برنامج للذكاء الاصطناعي، أطلقت عليه اسم (ايه آي) في كشف نحو 94 بالمائة من المحتوى الدعائي لتنظيم داعش، وبنسبة نجاح بلغت 99.99 بالمائة، نستطيع أن نقول إن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي لن يكون بمقدورهم في المستقبل نشر وتبادل المحتوى الذي يروج للإرهاب أو يحض على الكراهية والعنف، كما كان الحال سابقا، إذ تتمتع تكنولوجيا المراقبة الجديدة ليس فقط بالقدرة الدفاعية التي تقوم على مراجعة وحذف المحتوى بعد النشر، بل أيضا بالقدرة الاستباقية التي جعلت بالإمكان تحليل المقاطع الصوتية ومقاطع الفيديو خلال عملية تحميلها علي هذه الشبكات، ووقف عملية التحميل من الأساس.

خلاصة القول إن علينا أن نستفيد كعرب ومسلمين من هذا التوجه العالمي نحو ضبط استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لمواجهة خطابات الكراهية والعنف والعنصرية الموجهة لنا عبر هذه المنصات، وذلك من خلال نشر الوعي بين المستخدمين، لاستخدام ما تتيحه شركات الإنترنت من إمكانات كبيرة وسهلة للإبلاغ عن المحتوى المسيء، بالإضافة إلى امتلاك الدول التكنولوجيات والخوارزميات الجديدة التي تساعدنا في تعقب هذا المحتوى والإبلاغ عنه ومنع نشره وتبادله كما فعلت المملكة المتحدة.