أفكار وآراء

العالم العربي ...والطريق إلى التنمية الفعالة !!

02 مارس 2018
02 مارس 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لا يمكن للمرء أن يدعي أن الحديث عن الاقتصاد والتنمية هو مجال بعيد عن الحديث في السياسة بحال من الأحوال، فالسياسة والاقتصاد حلقتان متشابكتان ومتداخلتان إلى أبعد حد ومد، وربما كان تناول مسألة التنمية ضرب من ضروب الهروب من الحديث في مآسي السياسة التي تلف العالم برمته في حاضرات أيامناً بنوع عام، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، وما بين المنطقتين يكاد العالم ينفجر انفجارا رهيبا.

لكن لماذا الحديث عن التنمية في هذا التوقيت تحديدا وعن أي تنمية نتحدث؟

يبدو جليا أن شكل الصراعات في القرن الحادي والعشرين سيكون اقتصاديا بأكثر من ميله لأن يضحى صراعا عسكريا، وخير دليل على صحة ما نقول به ما تجري به المقادير ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة وفي زمن دونالد ترامب تسعى لأن تعود واشنطن ومن جديد لتضحى قائدة العالم اقتصاديا، فيما الصين تمضي وراء طريق الحرير لكي تجعل من الاقتصاد درباً للهيمنة على العالم عوضا عن الصواريخ العابرة للقارات، أو السفن والغواصات والطائرات الحربية النفاثة.

هنا يطفو السؤال على السطح ومن جديد: «وماذا عن مآل التنمية في العالم العربي؟

قبل الخوض في عمق المسألة من الجانب الاقتصادي، ينبغي التوقف أمام ركنين أصيلين في الموضوع: تنمية البشر، وتنمية الحجر، فهل من مفاضلة أولية بينهما؟

لا يمكن القطع بان المسألة ضرب من ضروب المفاضلة، لكنها ترتيب أولويات، فالبشر دائما وأبدا يسبق الحجر، فلا نهضة لأمة تقوم على الثروة بل إن العنصر البشري هو من يأتي تاليا بالثروة، واليابان خير دليل، فهي دولة لا تمتلك من الموارد الأولية إلا القليل جدا، لكنها رغم ذلك أضحت اليوم في مقدمة دول العالم المالكة والمبتكرة وبالتالي المصدرة للتكنولوجيا، فيما دول أخرى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا تمتلك من الثروات الطبيعية لاسيما النفط الكثير، وتنظر إليها فتراها متراجعة في سلم النمو والتنمية، سيما وأن عنصرها الإنساني متراجع خطوات عديدة في سياق درجات التطور البشري.

في هذا الإطار لا بد لنا من وقفة مع العملية التعليمية في عالمنا العربي، إذ بدونها لن يكون هناك أجيال قادمة قادرة على التواصل والابتكار والإبداع.

كارثية المشهد العربي التعليمي هي المسؤولة دون أدنى شك عن التخلف الاقتصادي، ذلك أنها عقلية اتباعية وليست عقلية ابداعية، والفارق شاسع ما بين الأمرين، فالاتباع يقطع الطريق على التفكير والبحث في أطر وسياقات «خارج الصندوق».

يحدثنا «باولو فريري» المفكر والمعلم البرازيلي وصاحب النظريات ذات التأثير الكبير في مجال التعليم عن أهمية البحوث التي تولد عقلية إبداعية، وعنده انه ليس هناك شيء اسمه تدريس دون بحوث، وليس هناك بحوث دون تدريس، فكل منهما يعيش في جسد الآخر، ويضيف: «عندما أقوم بالتدريس إنما أواصل البحث وإعادة البحث، وإننى أدرس لأنني أبحث ولأني أتساءل، ولأني أسلم نفسي للتساؤل.

وأنا أبحث لأني ألاحظ أشياء، وألمح خصائص لها، وأثناء قيامي بهذا أقوم بالتدخل وفي تدخلي أعلم وأتعلم، فأنا أقوم بالبحث حتى أعرف ما لم أكن أعرفه من قبل، وحتى أصل وأعلن عما اكتشفته.

وفي ضوء هذه الكلمات الممتلئة بنور المعرفة يصح لنا أن نتساءل في عالمنا العربي عن المساحة المتاحة للبحث وأعمال العقل في النقل بنوع خاص.

والنتيجة المؤكدة أن كارثية المشهد العربي قد بدأت عندما توقف العقل العربي الذي ابدع ابن رشد، وابن سينا، والكندي، وابن عربي، والفارابى، وأبو حيان التوحيدي، وابن حزم الأندلسي، عن الاجتهاد، وإغلاق بابه ، إذ فتح الباب واسعا للرؤى الجامدة وللأصوليات الظلامية، والجماعات الراديكالية التي نعاني منها في العقود الأخيرة، و«داعش» لن تكون آخر طبعة منها، إن استمر باب الاجتهاد مغلقا، ما يعني أن حال ومآل العالم العربي، مفتوح على مصراعية لجهة «الانسداد التاريخي» القاتل حيث الخير في كل سلف والشر في كل خلف.

والمؤكد انه إن اردنا أجيالاً قادرة على التنمية بشكل صحيح في عوالمنا وعواصمنا العربية فلا مجال أمامنا سوى المخاطرة، وتقبل الجديد، ورفض التمييز، ذلك انه مما يتلاءم مع التفكير الصحيح إرادة الدخول في مخاطرة، والترحيب بالجديد الذي لا يمكن رفضه لمجرد انه جديد، كما لا يمكن رفض القديم لمجرد أنه زمنياً لم يعد جديداً، فالقديم يمكن أن يبقى جديداً عندما يظل مخلصا – عبر الزمان – لتجربة الحدس والبصيرة العفوية القائم عليها.

سوف تنشأ في عالمنا العربي تنمية في الحجر إن امتلكنا ناصية تنمية البشر، ذلك أنه مما يعتبر من التفكير الصحيح الرفض الواعي لأي شكل ولكل من أشكال التمييز، فالأفكار المسبقة عن العرق، أو الطبقة، أو الجنس، تسيئ إلى جوهر الكرامة الإنسانية، وتشكل إنكاراً جذرياً للديمقراطية، وحال رفع هذا التمايز الطبقي سوف تنفتح الأعين على مسارب ومسارات للحياة الخلاقة، وللإبداع دون ارتياب من الآخر أو تخوينه لأي سبب من الأسباب.

لكن ماذا عن التنمية في الحجر؟

مرة جديدة لابد من الرجوع إلى التجارب الأممية التاريخية في التنمية وصعود السلم الحضاري، ونحن هنا لا نتحدث عن التجربة أو التجارب الأوربية والتي راكمت نتاج خمسمائة عام من ثروات العالم، أو عاشت عصورا من الصراع الفكري والسياسي قبل أن يطيب لها المقام في مقاعد «عصور النهضة».

إنما نتحدث عن أمم قريبة من شرقنا الأوسط تاريخياً وكذا جغرافياً وديموغرافياً، أمم كانت وإلى وقت لا يتجاوز عدة عقود من الزمن في اسفل القاع الحضاري للمدنية والإنسانية على حد سواء، واستطاعت عبر القيادة الواعية والوطنية القفز على الصعاب، وتقديم نماذج رائدة في عالم التنمية من العالم الثالث إلى العالم الأول.

خذ إليك على سبيل المثال نموذج دولة سنغافورة والتي ظلت حتى وقت استقلالها عام 1965 وخلاصها من الاحتلال الانجليزي دولة تمثل نموذجاً من نماذج التخلف بكل صوره، والسؤال كيف استطاع «لي كوان يو» قائد ذلك البلد ان يحدث معجزة حولت تلك الجزيرة – الدولة لمثال يحتذى في التنمية لكل دول المنطقة، بل لدول العالم النامي بلا تفرقة، ويرتفع متوسط دخل الفرد الحقيقي من ألف دولار وقت استقلالها عن الاستعمار إلى أكثر من 40 ألف دولار حالياً؟

للنجاح ولاشك خطوات لا تخطئها العين يقدمها لنا «لى كوان يو» في سيرته الذاتية، ويمكن لنا أن نسترشد ببعضها أونقتدي بها كلها إن أتسع المجال ، وجميعها تتقاطع حكما ما بين البشر والحجر.

في المقدمة يركز الرجل على مسألة جودة التعليم في كل مراحلة، وبخاصة في مجال التكنولوجيات الحديثة، والتقدم العلمي باستمرار وبلا حدود، ومحاولة جذب العقول العالمية للاستفادة منها في مزيد من التطوير والبحوث، مع تقديم كافة التسهيلات لها.

يتصل بما تقدم حديثه عن البحث بكل موضوعية عن العناصر الموهوبة من ذوي القدرات الإبداعية والصفات القيادية وتعيين أصحابها وترقيتهم في المناصب العليا إذا أثبتوا جدارتهم، وكذا إعداد من سيخلفونهم في هذه المناصب، كما قرر «لي كوان يو» إجراء اختبار نفسي للمتقدمين كما تفعل إدارة الطيران والفضاء الأمريكية (وكالة ناسا) في اختبار رواد الفضاء لضمان خلوهم من السلبيات في الشخصية التي يمكن أن تؤثر على أدائهم في الظروف الصعبة.

هل رأينا إلى أي حد كان نجاح سنغافورة في الوصول إلى درجة عالية غير مسبوقة من التنمية مرتبطا ارتباطا جذريا بالعنصر البشري في تقاطعاته وتجاذباته العلمية والفكرية، قبل اتساقة مع الأجهزة أو المعدات والمباني والمنشآت؟

على أن التنمية تحتاج إلى وصفة قاهرة للفساد ومواجهة حاسمة وحازمة للمفسدين، فهؤلاء سبب رئيس من أسباب التخلف والرجعية التي تعاني منها دول العالم الثالث بشكل كبير، بل أن الدول العظمي في العصور الحديثة لم تعد تعمد إلى الحروب العسكرية لهزيمة أعدائها، بل تذهب في طريق إفساد الحياة داخل دول الضد، الحياة في كل أشكالها ومناحيها بدءاً بالحياة التعليمية، فالسياسية، وكذا الاقتصادية، والإعلامية.

تذكر أضابير العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الاتحاد السوفيتي ، كيف عمل الأولون على انهيار الاتحاد السوفيتي دون إطلاق رصاصة واحدة عليه، ولا نقول مهاجمته بالصواريخ النووية أو القاذفات الفتاكة.... كيف ذلك؟ في حوار لا تنقصه الصراحة بين مسؤول أمريكي كبير وجنرال روسي أكبر قال الأول للثاني لقد كنا نصدر لكم أسوأ القيادات وأفشل الكفاءات ليقودوا بلادكم، وهذا ما جعلها تنهار وتسقط رأساً على عقب.

هنا نجد «لي كوان يو» يشير في تجربته السنغافورية الناصعة والناجحة والمخالفة للتجربة الأمريكية مع السوفيت، إلى انه كان يرفض الخضوع للعواطف في مسائل الفساد، حتى بالنسبة إلى أقرب المقربين إليه، فالفاسد يجب أن يتحمل مسؤولية فساده، ومن الضروري إصدار التشريعات التي تعطي صلاحيات أكبر «لمكتب تحقيقات ممارسه الفساد»، للقيام بالاعتقال والتفتيش واستدعاء الشهود وفحص الحسابات البنكية والضرائب الخاصة بالمسؤولين وعائلاتهم المشتبه في تربحهم من مناصبهم، وقد أعلنت منظمة الشفافية الدولية أن سنغافورة واحدة من الدول الأقل فساداً في العالم. ولعل أحد أهم العوامل التي تضمن تنمية حقيقية غير زائفة حتمية وجود اتساق من العدالة الاجتماعية داخل البلدان والأوطان فبدونها يتسرب اليأس إلى النفوس، وقديماً أوصى الحكيم الصيني كونفوشيوس القائمين على شؤون الرعية بالقول: «لا تخشوا من أن يكون المجتمع بأكمله فقير، إنما الخوف كل الخوف هو أن تزداد الفوارق الطبقية بين سكان الوطن الواحد»..... هذه الفوارق تجعل رؤية الغد سوداوية وضبابية وتمنع الأمل من أن يمضي قدما، وعوضا عنه تدعو اليأس لأن يتسرب للنفوس.

ولهذا فإن واحداً من أهم الشروط الواجب توافرها للحصول على تنمية حقيقية في البشر والحجر العدالة في توزيع الدخل بحيث يعم الرخاء على جميع المواطنين، فيرتفع دخلهم ويعيشون حياة كريمة تتناسب مع اجتهادهم في العمل وإنتاجيتهم المرتفعة، بصرف النظر عن سنهم وأقدميتهم في السلم الوظيفي، مع محاولات جادة للتقريب بين الدخول والتركيز على الطبقات المتوسطة والفقيرة والمشروعات ذات الأيدي العاملة الكثيفة لمكافحة البطالة.

الخلاصة : لا تنمية في الحجر دون تنمية حقيقية في البشر .