الملف السياسي

الخيارات الفلسطينية من أجل تخطي المأزق الراهن

26 فبراير 2018
26 فبراير 2018

د.صلاح أبونار -

في 16 مارس 2015 وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحدث، فقال:» إذا انتخبت لن تكون هناك دولة فلسطينية، وفي هذه المرحلة وفي المستقبل المنظور علينا أن نفرض سيطرتنا على الأرض.» وفي 6 ديسمبر 2016 وقف الرئيس ترامب في حديقة البيت الأبيض، معلنا قرار نقل السفارة الأمريكية الى القدس، ومعه إعلان وفاة ضمني لحل الدولتين. وفي 15 فبراير 2017 أقر ترامب بما هو ضمني في قرار القدس، بتصريحه خلال مؤتمر صحفي مع نتنياهو: » انظر الى حل الدولتين وحل الدولة الواحدة معا، وسوف افضل الحل الذي يفضله الطرفان، ويمكنني أن أتقبل مع أي منهما.»

ولكي ندرك جسامة تلك التحولات علينا ان نتذكر مكانة خيار الدولتين في التعامل الدولي مع الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. شكل هذا الخيار صلب هذا التعامل على مدى ثلاثة عقود، واذا اكتفينا بأخذ مؤشرات عامة من عام 2016 واوائل 2017، سنلاحظ ما يلي. في بيان الرباعية الدولية الصادر في يوليو 2016 تكرر ذكر خيار الدولتين 15 مرة، و6 مرات في قرار مجلس الأمن 2334 في ديسمبر 2016، و 24 مرة في خطاب جون كيري عن السلام في الشرق الاوسط في ديسمبر 2016، و9 مرات في الإعلان المشترك لمؤتمر باريس للسلام 15 في يناير 2017.

ومع ذلك علينا ان ننتبه اننا أمام إعلان وفاة متأخر. فعلى الرغم من مكانته المركزية التي اشرنا اليها، كان هذا الحل ومعه خيار اوسلو قد انتهى عمليا منذ عقد من الزمان وفقا لتقدير بيري كماك، وفقا لتقدير يزيد صايغ.

في صيغته التي ارتضتها الشرعية الدولية ومعها الشرعية الفلسطينية والعربية، كان حل الدولتين يعاني من تناقض فادح . كانت الوثائق الدولية المحددة لأساسياته، تشدد على مقولات: الأراضي المحتلة، وحدود 1967، وحق تقرير المصير، والدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة. بينما كانت اسرائيل، ومن خلفها امريكا بالتأييد الصريح او الامتناع عن الضغط او ترك الأمور للتفاوض المباشر، يخفضان سقف الإجماع الدولي لدرجة كبيرة. فتصبح القدس خارج نطاق المباحثات، وحدود 1967 قابله للتفاوض، والدولة منتقصة السيادة والقدرة العسكرية، والمستوطنات باقية مقابل عمليات تبادل اراض وهمية. ويقودنا ما سبق الى نتيجة مضمونها ان اعلان الوفاة الاخير، لا يشكل في جوهره إعلانا لوفاة حل الدولتين في حد ذاته. بل إعلانا لوفاته في صيغته التي توافقت عليها الشرعية الدولية، لصالح صيغة أخرى إسرائيلية حصرا. ليست فقط تلك التي قاتلت إسرائيل من اجل تخفيض سقف الإجماع الدولي اليها، بل ايضا ذات سقف أدنى كثيرا والتي تطرح الآن تحت هذا المسمى التجاري:» صفقة القرن» .

وسوف نجد علة تلك التحولات في اربع مجموعات من العوامل.جاءت الاولى من الأزمات العربية الراهنة، التي قادت الى انهيار دول كتلة الحزام الشمالي العربي ومعها دورها في موازنة حركة الصراع، وتراجع الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي لصالح صراعات اقليمية وعرقية، والتراجع الحاد لمكانة القضية الفلسطينية في الوعي الجماعي العربي. وجاءت الثانية من أزمات الداخل الفلسطيني، ونعني بها ركود عمليات تغيير النخب القيادية، وتحلل إشكال التعبئة السياسية القديمة، والانقسام العلماني - الاسلامي الحاد الذي تطور الى درجة الانقسام الجغرافي والمؤسسي، والفشل الإداري الواضح لمؤسسات السلطة الوطنية، والإرهاق الشديد الذي حل بالقواعد الفلسطينية في أعقاب عقود من التمرد والعصيان.وجاءت الثالثة من داخل إسرائيل، واتخذت أساسا صورة عدم استقرار هوية النخب الحاكمة، وصعود التيار الديني المحافظ وتراجع التيار اليساري، والتأثير الحتمي لذلك على الإدارة الإسرائيلية للصراع. وجاءت الرابعة من السياقين الاقليمي والدولي، فالتحولات الجارية الآن في نمط الأدوار الإقليمية والدولية في المنطقة، خلقت بؤر صراعية أخرى استقطبت عمل الفاعلين الاقليميين، ودفعت بالصراع الفلسطيني - الاسرائيلي بعيدا عن بؤرة النظام الاقليمي العربي، وغيرت انماط التحالف والدعم مع طرفي الصراع، وقلصت مساحة الضغط على اسرائيل.

كيف يمكن مواجهة المأزق الفلسطيني الراهن؟ في الربع الاول من 2017، زار فريق من مؤسسة كارنيجي الضفة الغربية وغزة، وهناك رصد الوضع ميدانيا واجرى مقابلات مع 58 قائدا فلسطينيا موزعين بين اغلب القطاعات واجيال مختلفة، في محاولة لرصد وعي الفلسطينيين بسبل الخروج من المأزق، ليخرج منها بتقريره » إحياء الوطنية الفلسطينية.» كيف يفكر الداخل الفلسطيني؟ سجل التقرير التراجع الحاد في التوافق على طريق اوسلو. في مسوح سابقة قال 65% من عينة الضفة وغزة، انهم لايعتقدون الآن بإمكانية تطبيق حل الدولتين، وفي العينة التي التقوها رأى 30% منهم نفس الرأي، مقابل 24% يرون إمكانيته. وفي مواجهة هذا التراجع تظهر في الساحة الفلسطينية خمسة خيارات بديلة، ليست على ذات الدرجة من الحضور والتبلور. خيار الدولة الديمقراطية الواحدة متعددة الاديان والقوميات، وخيار المقاومة السلمية، وخيار المقاومة المسلحة، وخيار المجتمع المدني، وخيار المقاطعة الاقتصادية. يبدو خيار الدولة الواحدة خافت الحضور. لم يحظ في القياسات الاخيرة على اكثر من 18% ، واقرب ما يكون الى تصور استراتيجي بعيد المدى. ولا يحظى خيار المقاومة المسلحة بأي دعم حقيقيي، ولم يشر إليه من العينة التي قابلها فريق البحث سوى شابين. فالمجتمع الفلسطيني لا يزال يعاني خسائر الانتفاضة الثانية، ولم يعد إلى ثقته القديمة بجدوى هذا الخيار. ولكن التقرير يضيف ملاحظتين مهمتين. اولهما ان نيران هذا الخيار لا تزال تحت الرماد داخل فئات شابة ويائسة، ويمكن في ظل أزمة معينة ان تشتعل وتتحول الى تيارجماهيري، وهو ما حدث بشكل جنيني في هبه خريف 2015.وثانيهما انه على الرغم من عدم ترحيب القيادات الكبرى بهذا الخيار، يمكن لحساباتهم ان تتغير مستقبلا وفقا لمسار الصراع وتوازنات القوى الفلسطينية. يكمل خياري النضال الحقوقي والمقاطعة الاقتصادية بعضهما، ويحظيان بأقوى تأييد داخل الفئات الشابة النشطة في مؤسسات المجتمع المدني. يرى انصاره ان فكرة تغيير السلطة اضحت حاليا بعيدة المنال، وان الاقرب منالا وتأثيرا على الحياة اليومية هو النضال ضد السلطة الاسرائيلية، لانتزاع اكبر قدر من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية، وضمان الخدمات وإيقاف عمليات مصادرة الأرض. ولكن هذا الخيار يواجه مشاكل حادة، فهو يفتقر للبنى المدنية المؤسسية القادرة على توسيعه وإكسابه القدرة على الضغط المنتظم، وهو عاجلا أم آجلا سيقع في مشكله تكريس شرعية الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي في تناقض مع تيار الوطنية الفلسطينية التقليدي.

ومن ضمن الخيارات الخمسة تبدو المقاومة المدنية السلمية هي الاقوى حضورا . رصد قياس حديث ان 62% من عينة الضفة وغزة، يؤيدونها في ظل شلل عملية اوسلو. ويمتلك هذا الخيار جاذبية واسعة، من واقع ما حققته الانتفاضة الاولى، والتراث المجيد لتجارب المقاومة المدنية . ولكن التقرير ينبهنا لمشاكله الحادة، فلكي ينطلق ويمارس قدراته على الفعل يجب عليه انجاز عدة مهام. إنهاء الانقسام السياسي الراهن وبناء إجماع وطني جديد، وإعادة بناء قواعده ومؤسساته المدنية القادرة على التعبئة المنتظمة على مدى زمني طويل، وإصلاح مؤسسات السلطة الوطنية.

والأمر المرجح ان التفاعلات الجارية الآن في الداخل الفلسطيني في مواجهة أزمة خيار اوسلو، سينتهي امرها الى توافق وطني واسع وجديد يتبنى خيار المقاومة المدنية السلمية بعناصره وشروطه السابقة، عبر مزجه بخياري الحقوق المدنية والمقاطعة الاقتصادية. والمرجح ايضا ان حظوظ خيار المقاومة المسلحة في الانبعاث على المدى القريب والمتوسط ضعيفة جدا، في ظل الخلل الجسيم في توازن القوى.

إلا أن التحدي الذي تواجهه الإرادة الوطنية الفلسطينية الآن، يشير الى ضرورة صياغة رؤية تاريخية جديدة للقضية الفلسطينية والمواجهة مع اسرائيل ، اوسع من الرؤية السياسية المسيطرة الراهنة. وهو أمر بالتأكيد في حاجة الى حوار واسع، لكن تحضرنا هنا ثلاثة عناصر أساسية. يتعلق العنصر الاول بفلسطيني اسرائيل.

يكتسب الوجود الفلسطيني في اسرائيل ثقلا اجتماعيا متزايدا، نتيجة لمعدلات نموهم وتعليمهم العالية. ويتحول تدريجيا الى قوة سياسية مستقلة، حققت في انتخابات الكنيست الاخيرة 12 مقعد لتصبح الكتلة الثالثة، وعلى مستوى اوسع يظهر الفلسطينيون مؤشرات واضحة على قوة وعيهم الوطني، رغم عمليات الأسرلة المتواصلة. وهو ما يفرض ضرورة صياغة استراتيجية للتواصل معهم. استراتيجية طويلة المدى لاتسعي لتوظيفهم سياسيا، بل لدعمهم في معركة البقاء الثقافي والتماسك الاجتماعي، وخلق صلات عضوية بينهم وبين محيطهم الحضاري العربي، والحفاظ على الكتلة الحضارية للشعب الفلسطيني، وهو ما يعني في نهاية المطاف المساهمة في عملية التطويع التاريخي لإسرائيل.

ويتعلق العنصر الثاني بفلسطيني الشتات. هنا يتعين التفكير في كيفية صياغه هياكل تنظيمية جامعة ومرنة، تنظم الوجود الجماعي للتجمعات الفلسطينية، وتربطها بالمصادر الاصلية الحافظة لتراثها، وتقوم بحماية اصول ومصادر الثقافة الفلسطينية، وتؤسس لنسق من مؤسسات الدعم المتبادل والجماعي. فالشعوب حضارات وثقافات وطنية وتراث، وليست فقط ارضا و اقليما ودولة وجيشا. والعائد التاريخي هنا واضح، ولكن العائد السياسي حاضر ايضا وبقوة. ففي فترات الجزر الوطني سيتحول هؤلاء الى عمق تاريخي قادر على استيعاب الانتكاسات السياسية ومداواتها، وفي فترات المد وبناء الدولة سيصبح هؤلاء مصدرا للموارد والصلات والخبرات والبشر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هذه الصلات العضوية والحية، هي وحدها القادرة على منح حق العودة حضوره السياسي الحي والفعال.

ويتعلق العنصر الثالث بصياغة رؤية جديدة للصراع مع اسرائيل. رؤية لا تتعامل مع الصراع من منظور سياسي جزئي وصفري، بل من منظور تاريخي طويل المدى. وفقا لها - اولا - يدار الصراع عبر بناء البشر، وتشييد مؤسسات المشاركة الاجتماعية، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، والتقدم العلمي والاقتصادي، وتعميق التوافق الاجتماعي. ووفقا لها - ثانيا - وعي اسرائيل كوجود تاريخي، تشكل وصعد و سيطر عبر عملية تاريخية ساهمت فيها تيارات وتدفقات تاريخية ممتدة ومتناقضة، سيوضع في حجمه الحقيقي عبر عملية تاريخية نقيضة وتراكمية من نفس النمط. ومن شأن وعي من هذا النمط، ان يتيح الحس التاريخي اللازم للفهم الصحيح للأحداث ، ويكسبنا القدرة على التخطيط بعيد المدى.