الملف السياسي

السؤال المُلِحُّ حول آلية إقامة الدولة.. وليس حتميتها

26 فبراير 2018
26 فبراير 2018

عماد عريان -

,, المشهد الإقليمي الملتهب على ساحة الشرق الأوسط في الوقت الراهن يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الطرف الأكثر استفادة من هذا الاقتتال العبثي بين أبناء الوطن الواحد هو إسرائيل كونها المستفيدة على أقل تقدير من تراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات ,,

جملة التطورات السياسية والأمنية الإقليمية التي وقعت خلال السنوات والأشهر القليلة الماضية تؤكد أن إسرائيل ومن خلال حليفتها الكبرى الولايات المتحدة قد نجحت في تحريك بوصلة الأحداث في صالحها وتحقيق ما تعتبره نجاحا يزيد من قدرتها على الهيمنة والسيطرة، ومن بين تلك التطورات بالقطع حالة التفسخ والتشرذم العربي الكارثية والحروب الأهلية الدامية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، ثم الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها واتخاذ إجراءات أخرى من شأنها المساعدة على شرعنة الاحتلال، وتلك تطورات وإجراءات سلبية بكل تأكيد تعمل ضد مصلحة القضية الفلسطينية وتزيحها من مسرح الأولويات على الساحة العالمية.

إلا أن الاعتقاد بصحة هذا التوجه وذلك الاستنتاج هو في حد ذاته خطأ جسيم، سواء لمن يطلقه أو لمن يؤمن به بشكل قاطع، فالظرف التاريخي السيئ الذي تعيشه الأمة العربية وفي خلفيته أحداث « الربيع العربي » ليس مقدرا له أن يدوم ولا يجوز تحميله مسؤولية تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، ومن ثم فالأمر لا يجب أن يكون دافعا للبهجة أو الارتياح لدى الجانب الإسرائيلي الذي يتعامل مع الموقف بمنتهى الانتهازية، ولا دافعا لليأس أو الإحباط لدى الجانب العربي عموما والفلسطيني على وجه الخصوص، فإن نوايا الصهيونية لم تكن يوما طيبة أو إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني ، وعندما كانت كل الظروف الدولية والإقليمية والداخلية على الصعيد الفلسطيني مهيأة للتوصل إلى تسوية سلمية ووضع حد لهذا الصراع المرير فان الجانب الإسرائيلي لم يتصرف بإيجابية أو مسؤولية وفعل عكس ذلك تماما لتدمير كل فرص السلام ووضع المنطقة على بارود متفجر بشكل دائم.

وإذا ما كان السؤال حول ضرورة قيام دولة فلسطينية باعتبارها مفتاح السلام والاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط ، فذلك بكل تأكيد أمر مؤكد ، فلا سلام ولا استقرار ولا تنمية في المنطقة بدون إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ، وبذلك فالتساؤل حول دور الدولة الفلسطينية في سلام المنطقة أمر بديهي ومتفق عليه منذ سنوات بعيدة وأصبح على وجه التقريب حتمية لا بد منها ، فليست إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والاستقلالية على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مجرد حق طبيعي تمليه المسوغات القانونية وتعززه الأسانيد السياسية ، أوتدعمه الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية فحسب ، بقدر ما تمثل ضرورة استراتيجية ملحة كونها تشكل ركيزة أساسية للأمن والاستقرار والتنمية ، ليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط ، وإنما أيضا على صعيد العالم بأسره.

فمنذ أن شرعت العصابات الصهيونية في بسط سيطرتها وفرض أمر واقع على أرض فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني خلال النصف الأول من القرن الماضي على النحو الذي أوصل الأمور إلى مواجهة عسكرية بين تلك العصابات التي تحولت بمرور الوقت إلى جيش نظامي متزايد العدد والعتاد والقدرات القتالية من جهة، وبين جيوش عدد من الدول العربية على الجهة الأخرى في عام 1948، انزلقت منطقة الشرق الأوسط إلى أتون مستعر من التوترات والنزاعات والأزمات التى نسجت خيوط واحد من أطول وأعقد وأخطر الصراعات الممتدة التى أطبقت على التاريخ البشري الحديث ، بعدما امتدت أصداؤه المدوية وآثاره الموجعة لتلقي بظلالها الكئيبة على العالم أجمع ، وفي ضوء هذه الحقائق أكدت مرجعيات عديدة أن قيام الدولة الفلسطينية هو أساس التسوية وسبيل الاستقرار في المنطقة ، وهناك اعتراف دولي ضخم بالدولة الفلسطينية ويتم التعامل معها بالفعل بوصفها كيانا مستقلا في عديد من الدول والهيئات على الصعيد العالمي ولكن ما ينقص هو « الاعتراف الأممي الشامل » الذي يمنح الدولة الفلسطينية شرعية دولية تساعد على تطبيع وضعها الكوني.

ولسنوات عديدة ظل حل الدولتين هو التصور الأمثل لقيام الدولة الفلسطينية إلى أن تراجعت عنه واشنطن ووضعت إسرائيل في سبيل تنفيذه عراقيل جديدة ، لتعود القضية الفلسطينية على وجه التقريب إلى المربع الأول بحثا عن تصورات أو آليات جديدة لقيام الدولة المنشودة ، وهو السؤال الأكثر إلحاحا في الوقت الراهن؛ ما هي آليات إنشاء الدولة وما شكلها وحجمها وفرصها في الحياة والاستمرار؟ لعل ذلك هو ما دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) إلى التأكيد على إلغاء الشكل الأحادي لرعاية عملية السلام وفض الارتباط مع الولايات المتحدة بعدما هدمت قضايا الحل النهائي وأزاحت ملف القدس من طاولة المفاوضات.

وفي هذا السياق جاء خطاب (أبومازن) قبل أيام أمام مجلس الأمن الدولي، وعرض خلاله خطة للسلام تعالج من وجهة نظره المشاكل الجوهرية التي تسببت بفشل مساعي السلام على مدار عقود ، فأوضح عباس أن الخطة تدعو إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في منتصف العام الجاري ، بحيث يستند لقرارات الشرعية الدولية، ويتم بمشاركة دولية واسعة تشمل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة ، على غرار مؤتمر باريس للسلام أو مشروع المؤتمر في موسكو ، كما دعا له قرار مجلس الأمن 1850.

واستبق ( أبومازن) مثل هذا المؤتمر بتحديد أجندته في ضرورة أن يكون من مخرجات المؤتمر قبول دولة فلسطين عضوا كاملا في الأمم المتحدة ، والتوجه لمجلس الأمن لتحقيق ذلك وتبادل الاعتراف بين دولة فلسطين ودولة إسرائيل على حدود عام 1967 وتشكيل آلية دولية متعددة الأطراف تساعد الجانبين في المفاوضات لحل جميع قضايا الوضع الدائم حسب اتفاق أوسلو ، وتنفيذ ما يتفق عليه ضمن فترةٍ زمنيةٍ محددة ، مع توفير الضمانات للتنفيذ . مؤكدا أن الخطة تتضمن أيضا توقف جميع الأطراف خلال فترة المفاوضات عن اتخاذ الأعمال الأحادية الجانب، خاصة تلك التي تؤثر على نتائج الحل النهائي ، وعلى رأسها النشاطات الاستيطانية في الأرض المحتلة عام 1967 وبما فيها القدس الشرقية ، وتجميد القرار الذي يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووقف نقل السفارة الأمريكية للقدس.

وعاد ( أبومازن ) مجددا إلى ضرورة تطبيق مبادرة السلام العربية، كما اعتمدت باعتبارها جزءا من مبادرته الجديدة وعقد اتفاق إقليمي عند التوصل لاتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتأكيد على الأسس المرجعية لأي مفاوضات مقبلة بالالتزام بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ، بما يشمل قرارات مجلس الأمن 242، و338 وصولا للقرار 2334 ، ومبادرة السلام العربية، والاتفاقيات الموقعة، مشيرا إلى ان من هذه الأسس مبدأ حل الدولتين ، دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية لتعيش بأمن وسلام ، إلى جانب دولة إسرائيل على حدود الرابع من يونيو عام 1967، رافضا في الوقت ذاته الحلول الجزئية والدولة ذات الحدود المؤقتة وقبول تبادل طفيف للأرض بالقيمة والمثل بموافقة الطرفين.

وفي قراءة تحليلية لما طرحه الرئيس الفلسطيني من مقترحات يمكن القول أنها لم تخرج عن الثوابت العربية والفلسطينية المعلنة منذ سنوات بعيدة وأنها تدور في فلك المرجعيات التي تحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وبتعبير آخر يمكن القول أن خطة ( أبومازن ) للسلام ، ودعوته لمؤتمر دولي جديد لبحث التسوية سوف يضيف مرجعية جديدة للمرجعيات السابقة، ولكن تبقى المشكلة الأساسية في غياب الآليات الكفيلة بتنفيذ هذه الأفكار الرائعة ، فضلا عن غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الدولية القادرة على وضع هذه الأفكار أو المبادرة موضع التنفيذ ، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة التي يبدو أنها على استعداد تام لتبني المشروع الإسرائيلي بالكامل مهما كانت الإشارات الصادرة عن البيت الأبيض بشأن أفكار جديدة للسلام وضرورة التفاوض من جديد في إطار « صفقة القرن » المبهمة ، فالمشكلة لم تكن يوما فكرة إقامة الدولة الفلسطينية في حد ذاتها مثلما سبقت الإشارة ولكن حول كيفية قيامها ، خاصة في ضوء الرفض الإسرائيلي المزمن والذي تبدى مجددا في تجاوزات المندوب الصهيوني لدى مجلس الأمن تعقيبا على مبادرة أبو مازن بقوله « إن الرئيس الفلسطيني هو أكبر عقبة في طريق السلام ، بل هو المشكلة ذاتها» على حد تعبيره الفج.