المنوعات

إدوارد سـعـيد وفـوّاز طـرابلسـي

25 فبراير 2018
25 فبراير 2018

سـيف الرحـبي -

الكتابة في ضوء غروب العمر أو تحت الهاجس الملح للفناء والاضمحلال بسبب حدث كالشيخوخة أو المرض العضال «المشاعر التي لا اسم لها تمزقنا إرباً»، ينقل ادوارد سعيد في كتابه (الجديد عربيا) عن (دالمار) المتأثر بأدورنو كما هو سعيد الذي لا يترك مناسبة إلا ويفصح عن مشاعر الامتنان «لأستاذه» إنها مسيرة الفكر الخلاّق بروافده ومنابعه التي تغني بعضها في النظر والتجربة.

«عن الأسلوب المتأخر» أسلوب الكارثة لأولئك الموسيقيين والأدباء الذين أبدعوا آثاراً عظيمة تحت وطأة تلك الشروط القاسية، واقتراب شبح الموت، كتب سعيد هذا الكتاب في فترة مرضه ليكون ذلك التماهي المأساوي بين المفكر ومادته، شخوصه ومراياه. وعلى ضغط الحالة الجسدية وآلامها لم ينزل المفكر العربي الأمريكي، إلى سيولة عاطفية، أو استحواذ لشكوى أليمة يمليها الظرف الجاثم، تحت وقع انهيار الجسد، بل ظل على منهجه الصارم، بمرجعياته الثرية قراءة وتقييماً.. كل شيء في سياقه وقيمته، رأيه السلبي في البير كامو ظل كما هو وأكثر.. أولئك الكبار الذين درسهم، وجد فيهم مرآة لذاته الصلبة أمام زحف هوام المرض والموت الوشيك.. بجانب عمقه القصي كتاب ممتع ويأخذك بسلاسة، ليس من غير عناء وكدح في القراءة، دائما الى غاباته الشاسعة، التي تشبه الغابات المطيرة في (بورنيو) المتاخمة لبحر الصين الجنوبي. ذلك الغنى المشترك في الظلال والفجوات، الشذرات والجذور الهرمة بأشجارها المعمرة الضاربة في أعماق الأرض والسماء، في الحياة والموت.. كلما تقطع مسافة في قراءة سعيد وأمثاله أو تجتاز مثيلها في تلك الغابات ، تكتشف أنك لم تغادر بعدُ عتبة الكتاب أو المكان.. هكذا الأعمال العظيمة عبر التاريخ البشري الذي لن يتبقى منه عداها ومقابر مبعثرة في أرجاء هذه الأرض الهرمة..

أشرتُ إلى متعة القراءة والنزهة بين ضفاف هذا الكتاب، على رغم عوالم الموسيقيين المليئة بمصطلحات ومسميات تقنية تصعب على غير المتخصص أحياناً.. فسعيد هو أيضا ذلك الموسيقي نقداً وتنظيرا وممارسة المعروف في الاوساط الغربية.. أسارع في هذه (الشذرة) ان من جعل هذا الكتاب الصعب بمثل هذه المتعة والسلاسة في القراءة، هو المفكر اللبناني (فواز طرابلسي) أحد أصدقاء سعيد. وقد أخبرني ذات زيارة الى سلطنة عُمان، المستشرق الانجليزي الراحل (الفريد هوليدي) الذي كان يختلف مع سعيد حول نظرته الى الاستشراق، أنّ طرابلسي كان زميله في الدراسة في العاصمة البريطانية.. وطرابلسي أحد الحالمين الكبار من جيل الستينيات، بعالم عربي وإنساني أفضل، وممن أفنوا طاقة شبابهم عملاً وكتابة للمساهمة في إخراج دنيا العرب من ظلمة القرون. وحين تطايرت أحلامهم هباء (أتمنى أن تكون الجملة غير صحيحة) واستحالت إلى النقيض الظلامي والطائفي..

في هذا المناخ الكابوسي عكف فواز طرابلسي وأمثاله على الإبداع الفكري والأدبي والترجمة، عبر أدواته المعرفية المؤسسة جيداً. (أمل لا شفاء منه) و(جرنيكا...) مساءلته واستقصاؤه لأحوال السياسة والتاريخ والاجتماع بتجاوز أحوال الجماعات اللبنانية، الى الجزيرة العربية وغيرها..

«عن الأسلوب المتأخر» موسيقى وأدب ضد التيار، ضد تيار المرض والموت وتيار الحياة الأمريكية العربية والبشرية عامة السائد والكاسح... محاولة خلاقة «لترميم حياة خربة» حسب ادورنو، الذي يستلهمه المفكر الفلسطيني مع جرامشي لكن ليس من غير نقد وتمحيص وابتكار.

وهو أيضا (الكتاب) عن أولئك النفر من الاستثنائيين على نمط أسلوب الكارثة، من غير أن يتقدم بهم العمر أو يداهمهم مرض خطير، وإنما إلحاح مأساة الوجود في ماهيتها وجذرها التكويني الرئيس، مثل (موتزارت) الذي يقول:

«بما أن الموت هو الغاية الحقيقية لوجودنا، فقد عقدتُ منذ سنواتي الأولى علاقات حميمة مع أفضل وأوثق صديق للبشرية، بحيث لم تعد صورته تخيفني بل باتت مهدئة ومواسية.. الموت هو المفتاح الذي يفتح الباب لسعادتنا الحقة، لست أخلد إلى النوم كل ليلة دون أن أفكر وأنا لا أزال شاباً، بأني لن أعيش لأشاهد يوماً آخر».

• (مقطع من كتاب : صالة استقبال الضواري .. رحلات وأسفار) .. دار العين.. معرض الكتاب