أفكار وآراء

إعادة التأهيل الرقمي

25 فبراير 2018
25 فبراير 2018

أ.د. حسني نصر -

هل أصبحنا في حاجة إلي إنشاء مصحات وعيادات نفسية لعلاج أبنائنا من إدمان الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي؟

أهمية طرح هذا السؤال في هذا التوقيت تنبع من حقيقتين، الأولى تتمثل فيما نراه يوميا في منازلنا ومدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا من إقبال غير طبيعي من الشباب ذكورا وإناثا على استخدام الإنترنت ومنصاتها الاجتماعية والاتصالية ولساعات طويلة، وهو ما يرشح أعدادا كبيرة منهم للانضمام إلى قوائم المصابين بما بات يعرف بإدمان الإنترنت، ويجعلهم بالتالي عرضة للإصابة بالأمراض النفسية وأمراض الانسحاب الاجتماعي الناتجة عن هذا الإدمان. أما الحقيقة الثانية فتتمثل في زيادة التوجه العالمي نحو البحث عن علاج لهذا المرض إلى حد قيام بعض الدول مثل أستراليا والصين وإيطاليا واليابان، بالاعتراف رسميا به كمرض نفسي يستحق المصابون به أن تقدم لهم الدولة العلاج، بل إن دولة مثل كوريا الجنوبية أصبحت تعتبر إدمان الإنترنت «قضية صحية عامة»، وتلزم المستشفيات الحكومية بتقديم العلاج اللازم للمصابين للتخلص من السموم الرقمية. ويدعم هذا التوجه التقرير الموسع الذي نشرته اذاعة «بي بي سي» الجمعة الماضية عن عشرات المصحات والعيادات المتخصصة في علاج إدمان الإنترنت التي تم إنشاؤها في الولايات المتحدة الأمريكية على مدى السنوات الخمس الماضية لتقديم العلاج للشباب الذين يقضون نحو 20 ساعة يوميا في استخدام الشبكة وما يتصل بها من شبكات على شاشات أجهزتهم الذكية.

ويشمل العلاج في هذه المصحات والذي يستمر لمدة 45 يوما على الأقل، وقد يمتد إلى 60 يوما ، كما تقول «بي بي سي» ، حظر استخدام الهواتف النقالة، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والأجهزة اللوحية، وعدم السماح بتصفح الشبكات الاجتماعية، أو تطبيقات الرسائل الفورية، أو المحتوى الإباحي، والخضوع لجدول زمني صارم للاستيقاظ، والدراسة، وتناول الوجبات الغذائية، والمشاركة في جلسات العلاج الفردية والجماعية، والهدف هو تحسين الصحة الذهنية و«إعادة برمجة» الأطفال والمراهقين بحيث «يمكنهم إعادة بناء علاقتهم بالتكنولوجيا وإعادة التواصل مع الأصدقاء والعائلة والدراسات والمهام الخاصة بهم دون الاتصال بشبكة الإنترنت».

يبدو مصطلح «إعادة البرمجة» مناسبا ومشابها لمصطلح «إعادة التأهيل»، الذي اعتدنا أن نطلقه على أشياء أخرى كثيرة مثل إعادة التأهيل الحركي بعد العمليات الجراحية وإعادة التأهيل النفسي بعد المرور بأزمة نفسية حادة، أو إعادة التأهيل المهني أو الوظيفي لدمج خريجي بعص التخصصات غير المطلوبة لسوق العمل، وبإضافة كلمة «الرقمي» إليه فإن« إعادة التأهيل الرقمي» يعني باختصار شديد علاج الأشخاص المصابين بإدمان الإنترنت وإعادة دمجهم في الحياة الواقعية بعد أن أصابتهم الرقمية بالانعزال، والحياة معظم الوقت في الواقع الافتراضي.

والواقع أن إعادة التأهيل الرقمي يرتبط بظاهرة جديدة أو إن شئت مرضا جديدا عرفته البشرية في السنوات الأخيرة، هو إدمان الإنترنت الذي اتسع ليشمل كل أشكال الإفراط المرضي في استخدام منتجات ومستحدثات الشبكة العنكبوتية، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات النشر . هذا الإفراط يعتبره علماء النفس وعلماء الاتصال شكلا من أشكال الإدمان الذى يشبه إلى حد كبير أشكال الإدمان الأخرى كإدمان الكحوليات أو إدمان المخدرات. ورغم الاهتمام البحثي المتزايد بـ «إدمان الإنترنت» من جانب باحثين من تخصصات عديدة، فان المصطلح نفسه لا زال غير محدد بشكل واضح ويواجه نوعين من التحديات، الأول يتعلق بالأنشطة التي يمكن أن تشكل إدمانا للمستخدم على الشبكة، والثاني يشير إلى أسباب الإدمان على الإنترنت كوسيلة اتصال. ولا يقتصر الاهتمام بالآثار السلبية لاستخدام الإنترنت على بحوث إدمان الإنترنت، وظهر اتجاه بحثي جديد يربط الإنترنت بتأثيرات نفسية سلبية أخرى مثل الإصابة بالاكتئاب والنزوع نحو الانتحار. ويستند هذا الاتجاه على فكرة أن الاستخدام الكثيف للإنترنت قد يؤدي إلى تبديد الوقت الذي كان من الممكن للفرد قضاؤه مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء، وهو ما يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي ويقلل بالتالي من أنماط مهمة للدعم الاجتماعي ويؤدي للإصابة بالاكتئاب؛ ففي عام 2011 حلل باحثان من جامعة نوتنجهام ترينت بالمملكة المتحدة 43 دراسة سابقة حول هذا الموضوع، وخلصا إلى أن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي يعد مشكلة صحية عقلية «قد» تتطلب علاجا، وأكدا أن الاستخدام المفرط له صلة بمشكلات في العلاقات مع الناس، وتراجع التحصيل الدراسي، وقلة الانخراط في مجموعات وأنشطة بعيدا عن الإنترنت. وهنا ربما تكفي الإشارة إلي الأمراض النفسية الكثيرة الناتجة عن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، والتي استخلصتها الكاتبة جيسكا براون في مقال نشرته مؤخرا على موقع بي بي سي فيوتشر، وهي التوتر، واعتلال الحالة المزاجية، والشعور بالقلق والاضطراب، والشعور بالاكتئاب، واضطرابات النوم، وإضعاف الثقة بالنفس، وزعزعة العلاقات الاجتماعية الطبيعية، والحسد، وزيادة الشعور بالعزلة والوحدة.

نعم هناك انقسام بين الباحثين حول وصف الإفراط في استخدام الإنترنت بالإدمان، إذ يرى بعض الباحثين في الاتصال أن الأمر لا يعدو كونه اعتمادا متزايدا على الإنترنت ليس إلا شأنه في ذلك شأن الاعتماد على وسائل الإعلام الأخرى، ولا يمكن مساواة هذا الاعتماد المرتبط بالخدمات والاشباعات التي تقدمها الوسيلة الجديدة بالإدمان على المخدرات أو القمار أو الكحوليات . ويرى بعض خبراء الطب النفسي أن إدمان الإنترنت ليس مرضا في حد ذاته، ولكنه مثل الحمى يمثل عرضا لأمراض نفسية أخرى مثل الاكتئاب وجنون العظمة. صحيح أن إدمان الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لم يصنف بعد في كثير من دول العالم كخلل مرضي، وصحيح أن اعتباره نوعا من أنواع الاضطراب العقلي لا يزال موضع جدل علمي، ومع هذا فإن الأمر المؤكد أن هناك حاجة ملحة لعلاج المدمنين أو المفرطين في استخدام الإنترنت وإعادة تأهيلهم للتعامل بعقلانية ورشد مع العالم الرقمي. وتجدر الإشارة هنا إلى بحث مهم أجراه مركز أبحاث وسائل الإعلام والتكنولوجيا والصحة بجامعة بيتسبرج بالولايات المتحدة الأمريكية حول العلاقة بين الوسائل التكنولوجية والصحة النفسية. ورغم أن الباحثين انطلقوا من فرضية تعادل التأثيرات التي تقول إن مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر سلبا وإيجابا على الاكتئاب، أي أنها قد تخفف من الاكتئاب حينا، وقد تزيد من حدته حينا آخر. فإن البحث الذي شمل نحو ألفي شخص، كشف أن هذه المواقع تؤثر بالسلب فقط على الاكتئاب. بمعنى أنه كلما زاد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، زادت احتمالات الإصابة بالاكتئاب والشعور بالقلق والعزلة الاجتماعية.

أيا كان موقفك من الآثار الإيجابية والسلبية للإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وحتى تنتبه المؤسسات الصحية المختصة في السلطنة إلى خطورة إدمان الإنترنت على مستقبل الصحة النفسية للأجيال القادمة، مثلما تنبهت إلى ذلك مؤسسات مشابهة في دول عربية أخرى مثل الجزائر والإمارات، وتبدأ في توفير مراكز لعلاج هذا الإدمان، وتقديم العلاج المناسب له قبل فوات الأوان، فقد حان الوقت للاعتراف لنفسك ولمن حولك بأن الإفراط في استخدام هذه الشبكات أصبح يمثل شكلا من أشكال الإدمان، والتسليم بأن الأمر يحتاج إلى علاج وإعادة تأهيل رقمي سواء لك أو لمن ترعاهم من الأطفال والمراهقين الذين يعانون من أعراض هذا الإدمان.