randa2
randa2
أعمدة

عطر : في درجي سر

21 فبراير 2018
21 فبراير 2018

رندة صادق -

[email protected] -

كانت تطرز الوقت بقليل من الانشغال المفتعل، تنحني تارة إلى الأمام، وأخرى تتكأ على حافة الغربة، يسقط منها ظلها على تلك البقعة التي اختارت أن تختبئ بها من ضجيج الجنون والتوحش المستعر، خارج أسوار روحها كانت تريد سلاما حقيقيا، تريد غيمة لا تمطر إلا لها، ومدينة لا تشتهي إلا خطواتها.

على أرصفة الأيام تحلت بصمت لا يستكين، فالله سبحانه وتعالى معها يؤنس برحمته ألمها وخوفها، هي أصغر بكثير من الخوف وأقل بكثير من التحدي، امرأة بلا وجه ووجه بلا اسم، ظل حكاية لأنها لم تكن يوما حكاية، كانت سلام عابر لصخب التناقضات وفوضى الأطماع، لم تشغل جغرافية معينة، ولم تضيع الوقت في مناحرات مع بنات جنسها، أو مع من حولها، لم تلتقط أنفاسها من روتينها اليومي، فما زال لديها طفل ينمو من خلال اهتمامها وحنانها، فاجأها الرحيل، لذا لم تتمكن من أن تدرك ان العالم استيقظ صباحا ليقول لها: “إلى اللقاء أيتها النسمة”.

هناك حيث هي ممدة يدرك الغرباء وحدهم موتها، أما هي لم تعد ابنة التفاصيل، فقد انطلقت في رحلة نخمن أبعادها ولا ندرك حقيقتها الغامضة. هي ليست هي، وجهها شاحب وثغرها يحتفظ بابتسامة لم تكتمل، باتت لا تشبه هؤلاء الذين يسكبون الدمع فوق حضورها الأخير، حتى ابنها الصغير لم يصدق أنها المرأة نفسها التي كانت تضمه قبل ساعات لم تكمل دورة النهار،” الأمهات يمتن يا صغيري”.

حزنت السماء فظلت تمطر طيلة الوقت، ومع هذا، الموت لا يعني وداعا بل عليه أن يزين بجملة “إلى اللقاء” ولكن أيها القارئ ماذا يعنيك ان أنقل لك حزني على امرأة كانت تشكل ذرة منثورة على هذه الأرض؟ أنا أكتب عنها لنفرح معا بأن هذا الكون الملوث لم يمس تلك المرأة، لنفرح أن الربيع آت وان الحكايات، حكايات ولادة وموت، وأن الحب سيكون هناك في دورته ليعش بقلب أمّ أخرى، وأن هذا العالم لم يوجد للموت بل للحياة، اذا لماذا نحتشد لنحزن حزنا جماعيا وننقب في دواخلنا على كل الراحلين الذين غادروا بعُجالة ونحن لم نقل لهم أننا نحبهم؟

في درجي سر لا بد أن أبوح به، وأن أخبر كل من تسنى له أن يعرفني أو يعرفها، إننا أمهات قبل كل شيء والأمهات لا يغادرن بل يسكن الذاكرة. هي دورة حياة فيها كل شيء: حب لم يكتمل، مراهقة لم تنضج، وعشق للهواء، لماء للبحر اللازوردي، لذلك الشفق المائل لحمرة مثيرة وشغف بيوم جديد بنا أو من دوننا فليس هذا المهم، المهم حقا إننا كنا هنا أطعمنا الضوء غزلنا، وبثثنا لليل الساحر أشواقنا، هي حياة يا سادة فلماذا نحتفل بالموت؟ لماذا نجتمع لنعدد مزايا الرحيل، هيا لننهض كما تفعل الطبيعة بلا رهبة من الشمس ولا قلق من عواصف الشتاء وجنون الرعد وغزارة المطر أو لهيب الصيف الحارق، تلقائية الأشياء تجعلنا نعي أن من رحلوا كان لا بد أن يرحلوا، وأن علينا ان نتنشق الكثير من الهواء وأن نغير مفهوم الرحيل وأن نعلم الأجيال القادمة أن الموت انتقال من مكان الى مكان لا أكثر ولا أقل .

في درجي سر الرحيل أخشى أن أجاهر به، فأتهم بالجنون وإنني امرأة سوداوية لا تنظر الى الحياة بل تنتظر الموت، أخشى أن أحاكم من مجتمع لا يرغب في تلقائية المعنى الحقيقي للحياة والانتقال، مجتمع تمكن مع مرور الأيام من وضع طقوس لما بعد الموت تلزم الناس بلون للحداد ونوع للحديث، وأطر للحركة، فينشغل الأحياء بتطبيق الأعراف، أما الفقيد الذي أصبح مرحوما هو في زاوية التفاصيل.

أرغب في البوح بأني غاضبة لأن الموت أصبح مجرد تقليد وإرث للتفاصيل، لا وقت فيه للتأمل بفلسفة الحياة والموت.