الملف السياسي

مسيرة صاعدة قادرة على مواجهة تحدياتها

19 فبراير 2018
19 فبراير 2018

د.صلاح أبونار -

من خلال السياسات التعليمية. تحظى تلك السياسات بتقدير عالمي عام من أرقى المؤسسات. إلا أنها في حاجة للمزيد من استكشاف مطالب سوق العمل سريعة التغير، والارتباط المباشر والقوي بالمؤسسات الصناعية، والبرامج التدريبية لطلابها لمواكبة تطورات سوق العمل، وتطوير سياسات البحث العلمي داخلها.

تأتي الجائزة السامية في دورتها الجديدة، لكي تؤكد على فعل التكريم من جهة، وتعلن مجددا عن رسالتها الحكيمة من جهة أخرى. في فعل التأكيد تعاود الاحتفاء بالبررة من أبناء عمان، الذين أدركوا الرسالة ولبوا الهدف ، وجعلوا من عملهم المخلص برهانا على الانتماء للوطن. وفي فعل الإعلان تعاود التذكير بمركزية مهمة التصنيع في مسيرة البناء الوطني، والمسيرة التي لا يزال عليها أن تقطعها والتحديات التي يتعين عليها أن تواجهها.

استهدفت استراتيجية «رؤية عمان 2020» مواصلة مسيرة التنمية الاقتصادية والإنسانية المستدامة على مدى ربع قرن من الزمان، عبر تقليص متصاعد لدور القطاع النفطي، بالتوازي مع النمو المطرد للقطاعات غير النفطية وعلى رأسها الصناعة، من خلال سياسات التنويع.

وإذا نظرنا الى الصناعة يمكننا رصد تأثير تلك الاستراتيجية عبر مسارين. مسار دعم السياق التنموي العام، عبر سياسات التنمية الإنسانية والمشاركة المجتمعية والتعمين والبحث العلمي واستكمال وتحديث البنى التحتية. ومسار دعم السياق التنموي الخاص، من خلال سياسات الخصخصة،وتقليص الدور الاقتصادي للدولة، و إصلاح السياق المؤسسي والقانوني للاستثمار، والدعم المالي بأدواته المختلفة، وتأسيس المناطق الاقتصادية.

ولقد تمكنت تلك الاستراتيجية من تحقيق جل أهدافها. تخبرنا الإحصائيات ان قيمة الناتج المحلي الإجمالي كانت في عام 1998 19.9 مليار ريال، وارتفعت في عام 2015 إلى 45.5 مليار ريال. وبمنطق المدى الزمني الطويل والطبيعة التناقضية للعملية التنموية، تحقق ذلك من خلال معدلات نمو متفاوتة، أدناها 0.3 %عام 1999، وأعلاها 9.3% عام 2012. وبالتوازي مع ذلك حققت مؤشرات التنمية الإنسانية قفزة هائلة، دفعت تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية لعام 2010 للقول أن عمان حققت أسرع معدلات التنمية الإنسانية في العالم، خلال الأربعين عاما السابقة.

وفي هذا السياق تقدمت مسيرة التنويع الاقتصادي تقدما متواصلا. فيما بين عامي 1998 و2015 انخفضت نسبة مساهمة الأنشطة النفطية في الناتج المحلي الإجمالي من 65.5% إلى 39.6%، بينما ارتفعت نسبه مساهمة الأنشطة غير النفطية من 34.5% إلى 60.4%. وكانت نسبه مشاركة الموارد غير النفطية في إيرادات الموازنة العامة، أقل تعبيرا عن المدى الذي وصل إليه التنويع الاقتصادي، بالمقارنة بنسبه مشاركتها في الناتج المحلي الإجمالي. في موازنة عام 1990 كان إجمالي الإيرادات 1.9 مليار ريال، ارتفعت إلى 14.1 مليار ريال عام 2014. وخلال هذه الفترة كان متوسط مساهمه الإيرادات النفطية في الإيرادات العامة نحو 80.2%، وفي عام 2014 وصلت مساهمه الإيرادات غير النفطية إلى 15.6%، لكنها ارتفعت في عام 2017 إلى 28%، ومن المخطط وصولها في موازنة 2018 إلى 29%.

وإذا ألقينا نظرة مقارنة على مسيرة التنويع ، سنلاحظ أن الصناعة كانت أكثر القطاعات غير النفطية نجاحا. ويبدو ذلك واضحا من عدة مؤشرات.

منها - أولا - مساهمه القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي، التي قفزت من 0.3 مليار ريال عام 1998 إلى 2.6 مليار عام 2015 ، بمعدل نمو وصل إلى 662%. وبمقارنة مساهمته في عام 2015 بمساهمة بقية القطاعات سنجدها المساهمة الأعلى، فلقد كانت مساهمة السياحة 244.7 مليون فقط، ومساهمة تجارة الجملة والتجزئة 2.2 مليار، ومساهمة الإنشاءات 2 مليار، ومساهمة النقل والتخزين 1.7 مليار.

ومنها - ثانيا - نسبة نمو الصناعات التحويلية بالمقارنة ببقية القطاعات. في عام 1999 كانت نسبة نمو الصناعات التحويلية 7.1%،وقفزت عام 2000 إلى 12.9%، ثم إلى 20% عام 2006، وانحدرت إلى 15% عام 2015. وبالمقارنة بالقطاعات الأخرى ، وقفت نسبة النمو في قطاع الإنشاءات فيما بين 1998 و2001 عند 5%، ثم أخذت في الارتفاع لتصل إلى 6% عام 2005، وواصلت الارتفاع إلى 11% عام 2015. وفي قطاع النقل والتخزين، ارتفعت نسبة النمو من 5% عام 1998، إلى 11% عام 2012.

ومنها - ثالثا - مقدار القيمة المضافة في القطاع الصناعي. في عام 2005 وصلت القيمة المضافة إلى 995 مليون ريال بمعدل نمو سنوي 5.6%، ارتفعت في عام 2010 إلى 1523 مليون ريال بمعدل نمو4.7%.

أصدرت وزارة التجارة والصناعة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، تقريرين باللغة الانجليزية عن الصناعة العمانية. أولهما: « المسح الصناعي السنوي لعام 2013:المؤسسات الصناعية الكبيرة والمتوسطة. تقرير إحصائي»، وثانيهما:«تنمية الصناعات التحويلية في عمان:الاستعداد للمستقبل. تقرير تحليلي 2015». ويمكننا بمراجعتهما استخلاص البيانات الأساسية التالية عن وضع الصناعة العمانية.

وصل عدد المنشآت المتوسطة والكبيرة عام 2012 إلى 701 منشأة يعمل بها 71334 عاملا. منها 22 تستخدم اكثر من 500 عامل،و151 تستخدم من 100 إلى 500 عامل، و112 تستخدم من 50 إلى 99 عاملا، و242 تستخدم من 20 إلى 50 عاملا، و174 تستخدم من 10 إلى 20 عاملا. وإذا اعتبرنا أن المنشآت المتوسطة التي يعمل بها من 10 إلى 50 عاملا، سيكون عددها 416 منشأة، وسيقتصر عدد المؤسسات الكبيرة المشغلة لأكثر من مائة عامل على 275 منشأة، وبالتالي ستكون الغلبة للمتوسطة. ولكن إذا نظرنا إلى عدد العمال المستخدمين داخل المشاريع، ستصبح الغلبة للمنشآت الكبيرة، حيث يعمل بها 53373 عاملا، منهم 32600 في الشركات ما بين 100 و500 عامل، و 20773 في الشركات الأكبر من 500 عامل.

ويسيطر العمانيون على ملكية الصناعات العمانية. فالمنشآت التي يمتلكها العمانيون حصرا تستخدم 45831 عاملا، والتي يمتلكونها بالمشاركة مع الأجانب تستخدم 22586 عاملا، بينما المنشآت المملوكة للأجانب حصرا تستخدم 1917 عاملا فقط. وهو الأمر الذي يتسق مع نسبة الاستثمار الأجنبي في الصناعات التحويلية، بالمقارنة مع نسبتها في النفط والغاز. ففي عام 2003 كانت نسبتها 20% ،انخفضت إلى 16% عام 2009، ثم 15.2% في 2012. بينما كانت في النفط والغاز 47.9% في 2003، ارتفعت إلى 52.6% في 2009، وهبطت إلى 49% في 2012.ولكن رغم هذا الانخفاض بالمقارنة بالنفط والغاز، تظل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصناعة أعلى منها في القطاعات الأخرى. ففي عام 2012 كانت في الأنشطة العقارية 6.9%، والإنشاءات 3.6%، والنقل والتخزين2.7%، والفنادق والمطاعم 1.3%، والكهرباء 1.1%. ولهذا التباين دلالة الواضحة، تفيد أن رأس المال العماني كما هو الحال في العالم كله، يميل اكثر للقطاعات الاستثمارية الأسرع عائدا والأقل مخاطرة.

ولاحظ التقرير استئثار أربعة قطاعات بنسبة 87.8% من إجمالي الاستثمارات الصناعية: منتجات خامات التعدين بنسبة 49.4%، و منتجات الكيماويات والبلاستيك والزجاج بنسبة 29.4%. وأشار لدرجة التركز الجغرافي العالية. تستخدم منشآت منطقة مسقط الصناعية 34688 عاملا، ولو طرحنا العاملين في منطقة مسقط الصناعية من إجمالي القوى العاملة في القطاع سيتبقى 37746، يعمل منهم 28768 في ولايات شمال الباطنة وظفار والداخلية، منهم 19818 في شمال الباطنة.

ومع كل تلك الإنجازات المتحققة والإنجازات القادمة وعلى رأسها مشروع منطقة الدقم الصناعية، لا يزال هناك مهام كثيرة أمام الصناعة العمانية. وهنا يظهر السؤال: ماهي المسارات المقترحة من أجل المزيد من التقدم.؟ يبرز المسار الثقافي كأحد اهم تلك المسارات. يأتي ذلك - أولا - من خلال السياسات التعليمية. تحظى تلك السياسات بتقدير عالمي عام من أرقى المؤسسات. إلا أنها في حاجة للمزيد من استكشاف مطالب سوق العمل سريعة التغير، والارتباط المباشر والقوي بالمؤسسات الصناعية، والبرامج التدريبية لطلابها المواكبة لتطورات سوق العمل، وتطوير سياسات البحث العلمي داخلها. ويأتي ذلك - ثانيا - من خلال تطوير الشركات لسياسات البحث العلمي والتطوير. يشيد المراقبون بجهود مجلس البحث العلمي، لكن في المقابل يرصد تقرير الأونكتاد الأخير أن أغلب الشركات العمانية لا تزال في حاجة إلى المزيد من الاهتمام بالبحث والتطوير. ثم يأتي - ثالثا - من خلال السياسات الثقافية العامة، التي تشدد على قيم الابتكار والنظام في العمل والمبادرة والادخار وتقبل المخاطرة، وعدم الاتكال على الدولة والفخر بالمنتجات الوطنية والحرص على استهلاكها. وبالتوازي مع المسار الثقافي يبرز المسار الاقتصادي. ثمة ضرورة للمزيد من الربط العضوي بين القطاع الصناعي وقطاع الإنشاءات، الذي يعتبر من واقع طبيعته أكثر القطاعات غير النفطية قابلية للنمو. عندما نقارن احتياجاته الصناعية الأساسية بالقطاعات الصناعية الأربعة الرائدة، وهي خامات التعدين والكيماويات والبلاستيك والزجاج، سنلاحظ ضعف الصلة التبادلية بينهم قياسا علي حجم الأعمال الإنشائية. ومن نفس المنظور يمكن تحويل قطاع السياحة، إلى قاطرة قوية لتحريك الصناعات التقليدية، إذ احسنا التخطيط للروابط بينهما وعملنا على تطوير إنتاجها مع الحفاظ على طابعها التقليدي. وهناك ضرورة أخرى لانتهاج سياسة تكاملية في التصنيع، بمعنى تبني مجموعة من الصناعات تغذي بعضها بعضا. وتختلف تلك الضرورة عن الضرورة السابقة. فالمقصود هنا هو المواد الخام والمنتجات الوسيطة المكونة للمنتج النهائي. رصد التقريران تراجع أرباح واستثمارات بعض الشركات نتيجة لاعتمادها على مكونات مستوردة في منتجها النهائي، ارتفعت أسعارها نتيجة لتقلبات السوق. والسيطرة الكاملة على إنتاج كافة عناصر ومكونات أي منتج نهائي، هي مهمة من المستحيل إنجازها، من واقع التخصص والخبرات ووجود المواد الخام، وبالتالي فالمطلوب هو تحقيقها في الحدود الممكنة والاقتصادية. ويعي المخطط العماني هذه المشكلة، ويبدو ذلك في إطلاقه لسياسة تنمية المشاريع المكملة الصغيرة والمتوسطة، كما هو في بعض جوانب قطاع النفط. والمطلوب هو دراسة هيكل الصناعات الراهن ومسار نشاطها، لمعرفة الصناعات المكملة الناقصة الصالحة للتوطن.