أفكار وآراء

الرأي العام ..عندما يتصدى لغياب الأمن وشح الموارد

17 فبراير 2018
17 فبراير 2018

د. عبدالعاطى محمد -

إن مناخ الاضطراب والتوتر السائد في المنطقة العربية يعبر عن مرحلة استثنائية انتقالية وليس وضعا دائما لا فرار منه، وذلك لأن الأمور التي قادت إلى غياب الأمن يمكن معالجتها سواء فيما يتعلق بقيام المؤسسات الشرعية بدورها المعتاد والتخلص من الكيانات البديلة عبر حلول سياسية عاقلة وحكيمة للأزمات السياسية المرتبطة بها، أو بتكثيف الجهود للقضاء على الإرهاب.

وسط المناخ العام الذي يسود المنطقة العربية وأبرز ملامحه التوتر والفوضى، يعيش الرأي العام العربي صراعا ذاتيا بين التوسع في التعبير عن الرأي إلى حد الحمى، والتمسك بواجبات المسؤولية الوطنية. ويلعب كل من الشعور بالافتقاد للأمن من ناحية، والمعاناة من شح الموارد من ناحية أخرى، دورا رئيسيا في إيجاد هذه الحالة. ثم كلما تم العمل على تجاوز كل من السببين، تغيرت الصورة إلى الأفضل.

لسنا في جزيرة منفصلة بالطبع بل في جزء مهم وحيوي من عالم اليوم نتأثر بما يجري فيه من صراعات شتى وبما يترتب عليها من تهديدات ومخاطر على حياتنا الخاصة والعامة، وفي الوقت نفسه نؤثر فيه من خلال العلاقات التي تم بناؤها عبر الزمن. وفي ظل التشابك الوثيق أضحت الهموم مشتركة تقريبا، فقط تتباين أشكال ووسائل التعامل مع هذه الهموم وفقا لتباين القدرات.

وإذا كان الحديث في هذا المقام عن الرأي العام باعتباره أول الحواجز الطبيعية التي تتلقى التهديدات من ناحية، وأولى منصات المواجهة الصحيحة من ناحية أخرى، فإن الحكمة تقتضى ألا يجزع الرأي العام من ظروف العصر المتغيرة بحدة، ولا يهرب منها لأنها أصبحت واقعا معاشا في دوائر المعمورة الأربع، حيث كل من الجزع والهروب يعمقان من المحن والآلام التي تطاردنا، وإنما الحكمة تقتضى الوقوف على الأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذا الوضع والعمل على التغلب عليها بما لدينا من قدرات وطنية مختلفة.

وإذا كانت ذاكرة الأمة هي مصدر المناعة ضد التهديدات، وقوة الدفع لإدارة ظروف الحاضر والتخطيط للمستقبل، فإنها تتشكل عبر التفاعل الوثيق بين مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام. وهي وثيقة الصلة بالتنمية البشرية التي تعد الأساس في بناء أية تنمية حقيقية وشاملة ومستدامة. فالأمر يتعلق بالأساس بالإنسان أو المواطن صاحب الاستثمار الحقيقي. هو اللبنة التي يتشكل منها الرأي العام وتصوغ توجهاته ومواقفه. وصحيح أنه ليس متخذ القرار ولكنه جزء لا يتجزأ من صناعة القرار. وفي عالم اليوم ازداد هذا الدور إلى حد كبير.

وقياسا بما كان عليه الحال في عقود عديدة مضت، لم يعد الرأي العام العربي بعيدا عن صناعة القرار والتأثير في الأحداث بفعل الآليات التي أتاحها العصر في مجالات المعرفة والحصول على المعلومات والتفاعل مع بعضه البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتقوم ذاكرة الأمة في هذا الوضع بدور البوصلة التي توجه المتلقي نحو الطريق الصحيح خصوصا وأن ما أصبح متاحا في الفضاء الإلكتروني فيه من الخير مثلما فيه من الشر.

في وضعنا المعاصر هناك نزعة عارمة من جانب قطاعات عريضة من الرأي العام وخصوصا من الشباب للإقبال على ما يتيحه الفضاء الإلكتروني بكل ما فيه من خير وشر، وذلك ليس من باب الفضول ولا الرغبة في المعرفة فقط، وإنما للتعبير عن الرأي، وفي الوقت نفسه هناك نزعة لا تقل عنها قوة مؤداها الحرص على واجب المسؤولية الوطنية، والأخير شعور تلقائي دفين يقفز دائما إلى ذهن المتلقي وكأنه جرس إنذار ينبهه إلى تعرضه لخطر ما يجب أن يتجنبه. ولا يخفى أن المعنيين بالتنشئة الاجتماعية والسياسية أو التنمية البشرية بوجه عام تنبهوا لهذا وذاك ولكنهم أعربوا عن القلق من خطر تحول الرغبة في التعبير عن الرأي إلى حمى للتعبير، وتحول الإحساس بالمسؤولية الوطنية من واجب ملزم إلى لا مبالاة أو أمر يمكن التضحية به. وأصبح القلق شعورا عاما لدى كثيرين من المعنيين بالتعليم والثقافة، ولكنه أشد وأكثر وضوحا عند المعنيين بالإعلام لأمر بسيط هو أن التعبير عن الرأي من صميم مهمة الإعلام. هنا لم يعد خافيا أن حالة الاضطراب الناتجة عن الأزمات العربية والصراعات الإقليمية والدولية أثرت بشدة في عدم التمييز بين الخبر والرأي حتى كاد الرأي يصبح هو الخبر!، وعندما تشتد الرغبة في التعبير عن الرأي فإنها تجنح إلى حد الحمى فيختلط الحابل بالنابل وتضيع الحقيقة.

وسط هذا المناخ الذي يتسم بالاضطراب والتوتر ولا يقف عند مستوى الشأن العام بل امتد إلى الشأن الخاص تعددت الأسباب والاجتهادات لتشخيصه ولتفسيره، ولا شك أنها كلها جيدة ومعقولة وقد انحصرت معظمها في وجود الأزمات التي تمر بها الأمة العربية منذ نحو 7 سنوات، ولأنها باتت لسان حال الجميع تقريبا، فلا حاجة للتذكير بها. ولكن بقدر أعمق من التأمل فإن ما يتم تداوله من آراء وتحليلات هو نتائج لأسباب أخرى تتركز في سببين عريضين لا نبالغ إذا قلنا إنهما يضمان مختلف الأسباب المتداولة. وترجع أهميتهما ليس لاعتقادنا فقط أنهما أصل الداء الراهن، وإنما لأنهما يجيبان على السؤال الأهم، ألا وهو: هل الوضع الراهن استثنائي أو مؤقت يمثل مرحلة انتقالية فرضتها ظروف بعينها، أم هو وضع دائم لن يتغير؟.

السببان الرئيسيان هما غياب الأمن وشح الموارد. فأما عن غياب الأمن فقد نجم عن عدم جاهزية المؤسسات الشرعية الموكول لها الاستخدام المشروع للقوة وحدها في القيام بدورها الجاد لمنع مظاهر عدم الاستقرار والفوضى. من تحقق له هذا الوضع نجا مؤكدا من كل الجوانب السلبية التي يتسم بها المناخ العام السائد في المنطقة، ومن قصر اكتوى بنيران هذا المناخ. وفي غياب عدم جاهزية المؤسسات الشرعية هذه ظهر البديل مما لا تغفله العين طوال السنوات الماضية وتمثل في وجود كيانات غير شرعية ومن خارج المؤسسات الشرعية أصبح لها دور في القيام بمهمات الأمن.

ولأن المنطقة العربية ذات طبيعة «فسيفسائية» حيث التباينات العرقية واللغوية والدينية وتاريخها لا يخلو من صراعات دموية ترتبت على هذا الوضع ، كل لأسبابه المباشرة في زمانه، فقد كان من السهل ظهور «كيانات الأمن البديلة» عند سقوط أو انهيار الأجهزة الأمنية الشرعية. ومما زاد من حدة المشكلة أن التدخلات الخارجية لعبت دورا مؤثرا في دعم هذه الكيانات وبالنتيجة تعميق الشعور بغياب الأمن في مناطق عربية عديدة.

وربما كان من السهل في نظر البعض استعادة التوازن الأمني ولو بعد فترة وجيزة, ولكن فوجئت المنطقة بما يشبه الانشطار في عوامل التهديد الأمني عندما ضرب الإرهاب في أكثر من مكان وفرض نفسه تهديدا حقيقيا، وأصبح في ذاته هما للجميع يحتاج إلى جهود مكثفة مختلفة الألوان للقضاء عليه. وعلينا أن نتخيل الفارق بين مواطن ينعم بالأمن والاستقرار وأخر يفتقده.

الأول هادئ وواثق من نفسه لأنه مطمئن على حاضره ومستقبله، ولذلك لا يلقى بالا بما يتعرض له يوميا من معلومات وأنباء مضللة وسيئة ولا يقف إلا عند المفيد فقط ،ذاكرة الأمة عنده حاضرة وقوية تمنحه المناعة، ولكنه بجانب ذلك يشعر بالأمن على نفسه ووطنه. وأما المفتقد للأمن فإنه مستسلم تلقائيا لكل ما يتلقاه من شرور ومعلومات مضللة وربما ينجذب لها لعله يجد فيها ما ينجيه مما يحياه من قلق، وليس من المنتظر أن يكون هذا المواطن إيجابيا مقبلا على الحياة ومستثمرا في خيراتها حيث لا ثقة لا في الحاضر ولا في المستقبل.

وأما السبب الرئيسي الثاني فهو شح الموارد، فرغم أهمية تلبية الاحتياجات السياسية وكذلك الانخراط فيها على أساس أنها هي التي يمكن أن تصلح الحال، تتراجع هذه الأهمية في قائمة الأولويات كلما كانت الأوضاع الاقتصادية للفرد جيدة أو مطمئنة.

وفي الظروف المعتادة تجرى ممارسة السياسة بسلاسة وهدوء كلما كانت الأوضاع الاقتصادية جيدة. وكثير من الاحتجاجات التي مرت بها المنطقة نجمت أساسا من ضوائق اقتصادية بالدرجة الأولى، واختفت مع حل ما هنا أو هناك لهذه الضائقة أو تلك.وإذا كانت هذه الحقيقة منطبقة على الدول الميسرة في عالم الغرب المتقدم، فالمؤكد أنها أشد انطباقا على الجاليات العربية التي شهدت ضوائق اقتصادية وعجزت عن حلها.

وفقا لهذين السببين فإن مناخ الاضطراب والتوتر السائد في المنطقة العربية يعبر عن مرحلة استثنائية انتقالية وليس وضعا دائما لا فرار منه، وذلك لأن الأمور التي قادت إلى غياب الأمن يمكن معالجتها سواء فيما يتعلق بقيام المؤسسات الشرعية بدورها المعتاد والتخلص من الكيانات البديلة عبر حلول سياسية عاقلة وحكيمة للأزمات السياسية المرتبطة بها، أو بتكثيف الجهود للقضاء على الإرهاب. وشح الموارد يمكن معالجته بحسن إدارة الموارد العامة وعدالة توزيع الثروة، وما هو مؤكد من خلال التجارب التاريخية أن الشعوب تستشعر الواجب الوطني بشكل أكبر في ظروف شح الموارد شريطة أن تجد مصارحة وشفافية وضرب بيد من حديد على أيدي الفساد. مع توافر هذا وذاك تتشكل قاعدة عريضة من الرأي العام المتفاعل إيجابيا مع تحديات العصر، الهادئ والواثق من حاضره ومستقبله مهما كانت حدة المخاطر.