1251101
1251101
المنوعات

بين سيرته الذاتية وفيلم فرنسي عن سنواته الأخيرة - رينوار.. السعادة في صحبة النساء والطبيعة

15 فبراير 2018
15 فبراير 2018

القاهرة - الشربيني عاشور -

يبدأ الفيلم الفرنسي «رينوار» بمشهد ركوب الموديل الجديدة آندري (الممثلة الفرنسية كريستا ثريت) دراجتها الهوائية في طريقها إلى منزل الرسام بيير أوجست رينوار (الممثل ميشيل بوكيه) في منطقة «كوت دازور» الفرنسية للعمل كموديل جديدة للرسام.

هذا المشهد الافتتاحي وإن كان يجسد دخول الموديل إلى عالم الفنان سواء في الفيلم أو في حياته الشخصية، إلا أنه أيضا يمثل دخولنا نحن كمشاهدين إلى أحداث الفيلم التي ستأخذ مسارين، يمتدان من البداية إلى المشهد الحميمي الأخير الذي يعانق فيه رينوار الأب رينوار الابن.

المسار الأول: إطاري يستعرض شغف رينوار الرسام بالموديل الجديدة التي كانت آخر ملهماته بعد أن أغرم بصفاء بشرتها، وتألق لمعان الضوء عليها. أما المسار الثاني فيتناول قصة الحب التي تنشأ بين رينوار الابن الجريح القادم من المعركة (الممثل فنسنت روتيرس) والموديل آندري.

وآندري في الواقع هي الممثلة «آندري كاترين هيلسنج» التي كانت آخر ملهمات رينوار الأب والتي تزوجها رينوار الابن فيما بعد، ومثلت في خمسة من أفلامه قبل أن ينفصل عنها، لتختفي بعد ذلك من حياته وتموت في الظل بينما يلمع هو كمخرج سينمائي، وينتقل للعيش في هوليوود.

يتناول الفيلم السنوات الأخيرة من حياة الرسام الفرنسي تحديدا سنوات الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) التي توفي رينوار بعد نهايتها بعام في الثالث من ديسمبر 1919.

وخلال هذا المقتطف العمري من السيرة الذاتية يعكس الفيلم فلسفة رينوار في الفن، وجانبا من حياته العائلية وشغفه الذي لا يهرم بالرسم على الرغم من معاناته من مرض الروماتيزم والتهاب المفاصل الذي أقعده على كرسي متحرك في سنواته الأخيرة. فبالرغم من إنهاك المرض لقواه البدنية لم يتوقف رينوار عن العمل/‏‏ الرسم لآخر لحظة في حياته. وهو ما عبر عنه الفيلم في أكثر من مشهد حيث تقوم الخادمة بغسل يديه وربط فرشاة الألوان بين أصابعه التي لا يستطيع تحريكها. (مات رينوار في اليوم نفسه الذي انتهى فيه من العمل في آخر لوحاته وكان عمره آنذاك 78 عاما). لقد كان هذا شيئا طبيعيا لرجل قال عن نفسه: «كنت لا أدع أبدا يوما يمر دون أن أرسم على صفحة دفتري شيئا ما حتى ولو كان مجرد تفاحة». كما أن تعبيره التحقيري «مجرد تفاحة» يضيء جانبا آخر من قناعاته الفنية، وهو غرامه برسم الأشياء الحية، الذي عبر عنه الفيلم في حوار رينوار مع «آندري» وحكايته الساخرة لها عن صديقه الفنان الذي يخشى رسم الموديلات النسائية ويستعيض عنهن برسم التفاح أو المانيكانات الخشبية، أما هو أي رينوار فيرسم أشياءَ من الحياة.

ومن بين التقاطات الفيلم لتفصيلات حياة رينوار وقناعاته الفكرية والفنية تلك التفصيلة التي تعبر عن القناعة بإمكانية معرفة شخصية الإنسان من منظر يديه وحركتهما، إن كان طيبا أو شريرا. ففي المشهد الذي تدخل فيه الموديل «آندري» على رينوار يطلب منها أولا أن تريه يديها، وعندئذ يبتسم ويوافق على أن تعمل معه. لقد فهم شخصيتها إذن!

وعبر مساري الفيلم تجري معادلة فلسفة رينوار في الرسم موضوعيا، إذ يلعب الضوء والظل دور البطولة في المشاهد الخارجية والداخلية على السواء. فالفنان الذي تتبع قطرات الضوء وانعكاساتها على الأجساد، وضحى في سبيل ذلك بالتحديد الصارم للخطوط في معظم مراحله الفنية، أصبح علامة بارزة في المذهب التأثري أو الانطباعي في الفن التشكيلي. وهو ما أكده مخرج الفيلم «جيل بوردو» عبر زخم من المشاهد خاصة تلك التي جرى فيها تثبيت الكاميرا على المناظر الخارجية في الطبيعة والموديلات النسائية بمزرعة رينوار التي بنى فيها منزلا لعائلته. حتى بدت اللقطات ذاتها صالحة لأن تكون لوحات تشكيلية ينقصها توقيع رينوار نفسه.

وكما كان رينوار في الواقع فهو في الفيلم، محاط بالعائلة أو ما تبقى منها بعد وفاة زوجته، وانتقال ابنه الكبير «بيير» للعيش بعيدا، كما كان محاطا بالخدم ومساعديه وهم جميعا من النساء اللاتي أقمن على خدمته، وبعضهن عملن أيضا كموديلات في لوحاته.

لقد استعان رينوار بالخدم بعد مرضه وملازمته للكرسي المتحرك، وقد اختار أن يتشكل فريق مساعديه وخدمه من النساء فقط، فهن ما قد كان يجد السعادة في صحبتهن. «أحببت النساء حتى قبل أن أتعلم المشي ... إنهن يضفن قيمة حقيقية على الأشياء». ويقول جان في كتابه عن (رينوار أبي) ترجمة عباس المفرجي: « ... والنساء قابلن محبته بالمثل». لذلك امتلأت تكوينات المشاهد في الفيلم بالنساء العاملات في بيت رينوار، كما امتلأت بهن لوحاته.

وإذا كان رينوار في أعماله الفنية قد أعرض عن تصوير المآسي والمشكلات الاجتماعية في زمنه. سواء بولعه بنثر الألوان المبهجة في لوحاته التي تراوحت بين الأحمر الوردي والأخضر والأزرق السماوي فقد لمس الفيلم هذا البعد في فلسفته الحياتية في المشهد الذي يحاول فيه أن يثني ابنه جان عن قرار العودة إلى المعركة.

كان جان قد أصيب في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، وعاد إلى منزل والده، وهناك التقى «آندري» للمرة الأولى، وعندما استشفى قرر أن يرجع إلى جبهة القتال مرة ثانية.

لقد آمن رينوار بناء على تأمل ذاتي كما يقول جان في كتابه عن أبيه بأن الحرب تسفر عن موت الشجعان، بينما تترك الأوغاد ينعمون بمفاتن الحياة ومباهجها. وهو ما ينسجم مع فلسفة رينوار في الحياة، تلك الفلسفة التي عبر عنها بنظريته التي شبهها بالفلينة الطافية على سطح المياه.

لقد كان رينوار قدريا يؤمن بأن الإنسان يجب ألا يتحدى القدر، وأن يساير الحياة بترك نفسه عائما في تيارها «مثل فلينة في مجرى نهر».

إنها الفلسفة التي تردد صداها في اتجاه رينوار الفني باعتباره واحدا من أبرز رموز المدرسة التأثرية أو الانطباعية. وهي المدرسة التي آمن روادها بصيرورة الحياة وتجددها، وأن اللحظة التي تمر لا يمكن تكرارها، وبتعبير هيراقليطس فـ«إن الإنسان لا ينزل النهر مرتين». لذلك حاول التأثريون القبض على اللحظة الطبيعية التي تمر بهم. والإمساك بها في اللوحة كما أثرت فيهم أو انطبعت في أذهانهم. إنهم في الحقيقة متأثرون بالطبيعة التي وجدوا في أحضانها أنفسهم، وما تفتحت عنه زهور إبداعاتهم.

وهكذا تنساب مشاهد الفيلم في انتقاء مفاصل حياة رينوار بنعومة وهدوء كالضوء عندما يمر على الأشياء فيمنحها وجودا مختلفا في كل لحظة. تماما لقد كانت سيرة رينوار بعيدة عن الصخب غارقة في الهدوء والولع بالرسم والضوء وبهجة الحياة.