1249244
1249244
إشراقات

خطبة الجمعة تناقش بعض دعاوى الإنسان وتصوراته من خلال سورة البلد

15 فبراير 2018
15 فبراير 2018

لنسيانه حقيقة حاله -

تتناول خطبة الجمعة اليوم (تأملات في سورة البلد) التي افتتحها الله سبحانه وتعالى بقسم عظيم، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة، وقسمه عز وجل بالبلد -أي مكة المكرمة- وعطف ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم عليها فيه دلالة على عظم قدرها وعلو منزلتها، وزيادة تشريف لمكة المكرمة بما أضافه الله عز وجل إليها من نزول خاتم الأنبياء والمرسلين بها، ثم أقسم سبحانه بالوالدية والمولودية، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود، وهو طور التوالد وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصـنعة.

وتنتقل الخطبة من خلال تأملاتها في سورة البلد إلى مناقشة بعض دعاوى الإنسان وتصوراته التي تشي بها تصرفاته، وما ذلك إلا نسيان لحقيقة حاله، من خلقه في كبد وعناء، وانخداعه بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه، فيطغى ويبطش ويسلب وينهب.. والى ما جاء في الخطبة.

الحمد لله الذي أنزل الكتاب، ليتدبره أولو الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، النبي الأواب، صلى الله عليه وسلم وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب.

أما بعد، فيا عباد الله:

أوصيكم ونفسي بتـقوى الله، فاتقوه لتنالوا وعده ورضاه (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، واعـلموا - عباد الله - أن الله سبحانه وتعالى فتح أمام أعـيننا كتابين، أحدهما منظور والآخر مسطور، أما المنظور فهو خلق الله سبحانه وتعالى الدال على وجوده، وأما المسطور فهو كتابه الذي أنزله على عبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، فكما تنظرون بأعـينكم في الخلق المنظور متأمـلين فاسرحوا بقلوبكم في كتاب الله تعالى معـتبرين، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).

أيها المؤمنون:

إن من السور العظيمة، التي حوت معاني عدة، سورة البلد، فقد افتتحها الله سبحانه وتعالى بقسم عظيم، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، وقسمه عز وجل بالبلد -أي مكة المكرمة- وعطف ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم عليها فيه دلالة على عظم قدرها وعلو منزلتها، وزيادة تشريف لمكة المكرمة بما أضافه الله عز وجل إليها من نزول خاتم الأنبياء والمرسلين بها، ثم أقسم سبحانه بالوالدية والمولودية في قوله عز وجل: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود، وهو طور التوالد وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصـنعة. وبعد توالي هذه الأقسام، يا -عباد الله-، يأتي الجواب بتقرير مهم ألا وهو: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ).

أيها الناس:

بعدما قررت السورة الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية تنتقل بكم إلى مناقشة بعض دعاوى الإنسان وتصوراته التي تشي بها تصرفاته، قال سبحانه: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)، وما ذلك إلا نسيان لحقيقة حاله، من خلقه في كبد وعناء، وانخداعه بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه، فيطغى ويبطش ويسلب وينهب، دون أن يخشى ودون أن يتحرج، ظانا أن قدرة الله سبحانه لن تبلغه! وهذا هو حال الإنسان الذي يعيش في غبش من التصور، وفي انحراف عن الجادة، وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان، ثم إنه إذا دعي إلى الخير والبذل (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، وأنفقت شيـئا كثيرا فحسبي ما أنفقت وما بذلت (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)؟ أيظن أنه ليست عليه مراقبة فيما يأتيه وما يذره؟ لقد نسي أن علم الله محيط به، فهو يرى ما أنفق، ولماذا أنفق؟ إنه الغرور بعينه، يخيـل له أنه ذو منعة وقوة، وربما أدى به إلى زعم أن ماله سيخلده (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ).

أيها المسلمون:

لم تقف هذه السورة في مناقشة ذلكم الإنسان عند ذلك الحد، بل جابهته بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، وفي خصائص طبيعته واسـتعداداته، تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، اسـتفـهام إنكار للحال الذي هو عليه، من الغرور والطيـش والاستكبار، على الخالق الغفار، وتذكير بهذه الآلاء والنعم، التي من تأمـل فيها ذهل لبه وحار، كيـف أبدع سبحانه وتعالى خلقها إبداعا عجيبا، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، فلو تفكر الإنسان في عيـنيه وما فيهما من تراكيب وحماية ومنطقة للإبصار، وغدد شتى للترطيب والتطهير، وقنوات لتصريف السوائل، وعضلات تعمل دون أن نشعر، لتتزن العين في حركتها ولتطبق الأجـفان عليها، لو تفكر في ذلك لرأى العجب العجاب من قدرة الخلاق العليم، حقا لا يعرف مقدار نعمة العين إلا فاقد البصر، أما اللسان وما أدراك ما اللسان! فإنه آلة البيان، به يعرب الإنسان عما يختلج في نفسه من معان، مع قيامه بحاسة الذوق وعملية الـبلع والمضغ بمساعدة الأسـنان، ولا يتم نطقه دون الشـفتين؛ فلذا عطف ذكرهما عليه، ثم أودع الله في نفس الإنسان خصائص القدرة على إدراك الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل، إنها آلاء ما بعدها من آلاء، ونعم يسجد العاقل من أجـلها شاكرا، حتى يقتحم جميع العوائق دون رضوان ربه ظافرا، لم لا والله تعالى يقول (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وهما طريقا الخير والشر، فحري به أن يسـلك طريق الخير ويختار، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

عباد الله:

إن ما ركبه الله في الإنسان من آلاء كبرى وما أهـله بها لإدراك الخير والشر، كان عليه أن يسـتعين بها في اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة، العقبة التي يبيـنها الله له في هذه الآيات (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ)، فهي عقبة تأتي صعوبتها من تخاذل النفوس، وتهويلات الشيطان التي يوردها على القلوب، وإغراءات الحياة الدنيا، ولكن المؤمن الذي يسـتمسك بحبـل الله -عز وجل- يعرف كيف يقتحمها (فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ)، بهذه الأعمال يرجو المرء ثواب ربه، ويتقرب بها إليه عز وجل.

فاتقوا الله -عباد الله- وهلموا إلى كتاب الله عز وجل متدبرين معـتبرين، واعملوا به جاهدين مشمرين، لتنالوا رضا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحـبه ومن والاه.

أما بعد، فيا عباد الله:

إن ما قررته سورة البلد من دعوة إلى التكافل الاجـتماعي والتراحم بين أفراد المجـتمع المسلم، إذا أصبح واقعا معايشا بين المسلمين بتعاونهم وتكافلهم وتراحمهم وتناصرهم كانوا كالجسد الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضا، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعندها تنظر إليهم أمم الأرض نظرة إعجاب وتقدير واحـترام، وسيكونون في مقدمة العالم حضارة ورقـيا، وسموا فكريا وأدبيا وأخلاقيا واقتصاديا واجـتماعيا، أما الخلود إلى حال التدابر والتناحر، والتراشق بالتهم، والتنابز بالألقاب السيـئة، فإن الدائرة لن تدور إلا على المسلمين، والعياذ بالله، فلذلك كان لا بد من التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

فاتقوا الله -عباد الله-، وأدركوا معنى هذه الوصايا ومغزاها، وتذكروا أن الصحابة كانوا إذا أراد الواحد منهم أن يفارق أخاه تلا عليه (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وما ذاك إلا لعظم مقامها في قلوبهم، ولوصية الله فيها.

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه، حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.

اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.

اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).