أفكار وآراء

الآمال التي خابت

14 فبراير 2018
14 فبراير 2018

مصباح قطب -

لا يوجد في الوطن العربي ما يشبه موقع “بروجيكت سنديكيت” الشهير ، والذي اصبح منصة مهمة لكبار الكتاب في العالم المختصين بقضايا الاقتصاد والتنمية ومكافحة الفقر والتصحر والاختلالات البيئية وتغيرات الطاقة وأسواق العمل والاستهلاك والتطورات التكنولوجية وانعكاسها على المنافسة الاقتصادية ، ونماذج السياسات المختلفة لدول من أرجاء الكون وعوامل التقدم أو التخلف إلى آخره . ومنذ ثلاثة اشهر بدأ منتدى بحثي إقليمي للشرق الأوسط إطلاق بوابة شبيهة باللغة الانجليزية ، وهو يخطط  كما يقال لإصدار قسم منها باللغة العربية ، وقام بالفعل باختبارات للنماذج المقترحة له ويشرف على القسمين أحد ابرز الاقتصاديين العرب وهو من تونس الشقيقة .

وفى ظني فإن إطلاق تلك المنصة بالعربية ، إذا حدث ، سيكون ، أو يجب أن يكون، حدثا جللا لأنها ستترجم أيضا أعمال كبار الاقتصاديين المرتبطين بشبكة الباحثين الدوليين والعرب والإقليميين التي يتعامل معها المنتدى البحثي المشار إليه ، وتدل النماذج الأولى التي تعرفت على عناوين بعضها عن مستوى مشوق من الكتابات يثير العقول والأخيلة ويدفع بقوة تجاه البحث عن حلول وسياسات جديدة لمواجهة التحديات التي نعيشها أو تعوقنا ، وإطلاق طاقات المنطقة ودولها . ومبدئيا فقد فتنني بشكل خاص مقال حول ما اسماه كاتبه “ اليد الخفية واليد المرئية” في الصين وفيه تحليل بالغ العمق للكيفية التي صنعت بها الصين تقدمها وكيف أفادت من كل من حيوية السوق أو اليد الخفية التي تحركه وفقا للنظريات الكلاسيكية حول تطور الرأسمالية وكون السوق يصحح نفسه ، واليد المرئية التي تعني التدخل القصدي العلني والذي تقوم معه الدولة بمنح حوافز مدروسة للغاية لصناعات وقطاعات بعينها عملت وتعمل تحت عين الدولة أو بمساهمات منها وضمان دفعها إلى أن تحتل مكانة متقدمة في التنافسية العالمية كشركات أو قطاعات الخ .

وفي الأيام الأخيرة وضمن المتابعة المستمرة لجديد موقع “بروجيكت سنديكيت”، وجدت مقالا يستحق العناية أيضا للاقتصادي الكبير “ جيفرى ساكس “ ، ومنه خرجت بجديد لم اكن أتنبه إليه أو بالأدق لم أكن أؤمن به كصاحب توجه ناقد لدور للخيار الرأسمالي العولمي الراهن .

فقد دعا الاقتصادي العالمي “ ساكس” في مقاله والذي عنوانه “ على البنك الدولي أن يعود الى رسالته “ .. دعا البنك الدولي الى اتباع نهج جديد لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بدلا من تبني طريقة تجعل البلدان الفقيرة غارقة في الديون، وبتفصيل آخر طريقة تدفعها الى مزيد من الاعتماد على “وول ستريت “ - حي المال والبنوك -  لتمويل احتياجاتها الأساسية والمشاريع المطلوبة لإخراج السكان من الفقر وتحسين الخدمات العامة الأساسية .

وطالب “ ساكس”  البنك الدولي بالاعتماد على شركاء موثوقين من القطاع الخاص والمجتمع المدني والجامعات لتحقيق أهداف الألفية على غرار تجارب مكافحة الإيدز وتطعيم الأطفال ومقاومة السل والملاريا التي تمت في أوقات سابقة ( قبل 2005 ) وكان هو طرفا فيها ومعه رئيس البنك الدولي الحالي نفسه ، وجامعة هارفارد ، وصناديق مستقلة أسستها شركات عالمية شهيرة ، واعتبر ساكس ان نتائج خطة البنك الدولي لمكافحة الفقر ورفع مستوى خدمات التعليم والصحة مخيبة للآمال حتى الآن.

أكد “ ساكس”  في مقاله أن البنك الدولي كان قد اعلن أن مهمته هي القضاء على الفقر المدقع في جيل واحد وتعزيز الرخاء المشترك وهي أهداف متفق عليها عالميا لكن البنك يفتقر إلى استراتيجية تنمية مستدامة تلبى ذلك بل ويتحول الآن إلى وول ستريت - حي المال -  لإرضاء ساده السياسة في واشنطن. استخلص ساكس عدة دروس من النجاح الكبير السابق - مع القطاع الخاص - في مكافحة الإيدز في هايتي والسل في مناطق أخرى ، أولها ان القطاع الخاص شريك مهم، من خلال توفيره العقاقير المحمية بموجب البراءات بتكلفة الإنتاج في حالات الاحتياج مضيفا أن شركات الأدوية اعترفت بأن التمسك بحقوق البراءات بشكل مطلق، هو بمثابة أمر بالإعدام لملايين الفقراء ، وبالتالي قدمت تنازلات مهمة ساعدت على إنقاذ آلاف الأرواح .

وبالإضافة الى ذلك فهناك أهمية كبيرة للأعمال الخيرية الخاصة، بقيادة بيل جيتس وزوجته ميلندا - وغيرهما - والذي ألهم الآخرين للمساهمة فيما يقوم به صندوقهما .

وأوضح ان تمويل مكافحة الإيدز في هايتي او في افريقيا اتخذ شكل منح مباشرة، وليس قروضا من وول ستريت. ولم يكن ينظر إلى مكافحة الإيدز في البلدان الفقيرة على أنه استثمار مدر للدخل يحتاج إلى هندسة مالية براقة ، وألعاب تمويلية مصرفية وغير مصرفية ، وتم اعتباره منفعة عامة حيوية تطلبت من الخيرين والبلدان ذات الدخل المرتفع تمويل العلاج المنقذ للحياة وللفقراء من الموت. وأخيرا يؤكد ساكس ان من الدروس القيمة والتي يجب ألا تغيب عن البال أن أخصائي الصحة العامة المدربين قدموا جهودا كبيرة وببراعة لافتة وقدموا مع الجهد أمثلة على نكران الذات والتفاني جنبا الى جنب مع نماذج من الاحتراف والاستقامة . ان دور كل فني وعالم وعامل ومشرف ومحاسب في مثل هذا النوع من العمليات حيوي للغاية . هذه هي الخلاصة . كما أن الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز ، كما يقول ساكس كمثال ، لا يملأ جيوب الوزراء الفاسدين أو يقدم التمويل التجاري  للامتيازات النفطية أو صفقات الأسلحة  ويطبق الصندوق العالمي معايير صارمة وتقنية دقيقة للصحة العامة وهو يمارس حوكمة رفيعة وشفافية عالية .

أكد ساكس أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما لا يرغب  في معرفة مسؤوليات حكومته تجاه أهداف التنمية المستدامة ولكن مهمة رئيس البنك الدولي هي تذكيره هو والكونجرس الأمريكي بتلك الالتزامات. انتهى كلام الرجل الذى كان كبير باحثي البنك الدولي قبل ان يستقيل ويقدم أعنف نقد لسياسات البنك الدولي منذ سنوات ، وهو أستاذ التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة . ما أود التوقف عنده هو ان برامج العناية الصحية او التعليمية او البيئية وأي برامج خاصة بمكافحة الفقر وتحسين جودة الحياة للفقراء تقودها الشركات الخاصة الكبيرة او العالمية يمكن بالفعل ان تؤدى الى نتائج افضل بكثير من الأعمال البيروقراطية باستخدام نفس كمية الأموال. وكما قلت فأنا متابع جيد وناقد مستمر للرأسمالية جديدها وقديمها لكن واقعيا اعرف وأشاهد كيف ان برامج من هذا النوع أتت بنتائج اكثر فاعلية وجودة بكثير مما تقوم به الحكومات من خلال وزارات التخطيط والمالية والتنمية المحلية والتضامن الاجتماعي في الدولة - أي دولة حولنا على الأقل - ذلك ان القائمين على الأعمال من العاملين بالصناديق التي تقودها قيادات شركات عالمية كبيرة يعملون بخيال مختلف ووفق نهج ريادة الأعمال الذي يعيشونه في مؤسساتهم او الابتكارات التي هم ملزمون بالاستمرار فيها ليظلوا منافسين في شركاتهم ايضا حيث انهم يستخدمون نفس الروح الابتكارية حين يقومون بعمل اجتماعي من النوع الذي أشرت اليه . أحيانا تبدو لغتهم - المعولمة - غريبة على الواقع المحلي وعلى السكان الذين يعلمون معهم ولهم  واحيانا يكون بعض ما يسعون اليه ليس من أولويات المكان او ليس من أولوياته بهذه الطريقة لكن النتائج في المحصلة افضل وسلامة الإنفاق أعلى . وبطبيعة الحال هناك من يقومون بأعمال اجتماعية ممولة ومرعية من صناديق شركات وأصحاب شركات خاصة كبيرة او متوسطة  وقد لا يكونوا ممن سددوا الذرائب كما يجب او من يقومون بها للوجاهة او لتبييض وجه الشركة او لمآرب أخرى، كل ذلك وارد لكن العمل بالكيفية التي شرحها ساكس خلاق فعلا وأتصور ان مؤسسات مجتمع مدني عالمي من هذا النوع يجب أن تتزايد وان تخصص لها الدول نفسها موارد - جنبا الى جنب مع ما يرد إليها من تبرعات - وتعهد اليها بإنجاز مهام متفق عليها وذلك لتسريع إنجاز أهداف الألفية .