الملف السياسي

إدارة السياسة الخارجية العمانية : دروس عربية

12 فبراير 2018
12 فبراير 2018

د. صلاح أبونار -

الجهود العمانية الساعية للتهدئة وبناء الثقة بين الطرفين، من خلال التوسط للإفراج عن محتجزين أمريكيين لدى إيران. ونجحت فعلا في الوصول لتفاهم بين الطرفين، بمقتضاه عادوا إلى وطنهم خلال عامي 2010 - 2011، وفي المقابل تمكن الوسيط العماني من إقناع أمريكا بالإفراج عن عالم إيراني في 2013.

يلفت الانتباه عند مراجعة دراسات السياسة الخارجية العمانية، من أول دراسة جوزيف كششيان المبكرة الصادرة عام 1995، حتى الدراسات الحديثة مثل دراسة جيفري لوفيفر، إجماعها على أمرين. الأول: استقلالية السياسة العمانية وبراجماتيتها، وتوازنها ودقة حساباتها. والثاني قدرتها على استباق حسابات اللحظة، عبر التخطي الشجاع والمتدبر لحالة إجماع عربي سائدة، ستأتي التطورات لتثبت عقمه السياسي وأسسه الواهية. الأمر الذي يجعل مسيرة السياسة الخارجية العمانية، مادة ممتازة لرصد وتحليل خبرات سياسية ثرية، قادرة على منحنا الكثير من المفاتيح والأدوات، الصالحة لتخطي مأزق النظام العربي الراهن.

تشكلت مسيرة السياسة العمانية المتميزة تحت تأثير مجموعتين من العوامل. تتصل الأولى بمقومات التكوين التاريخي العماني، بما حملته من خبرات تاريخية مارست تأثيرها الطبيعي على صانع القرار.

تحتل عمان موقعا استراتيجيا، في منتصف الطريق البحري التجاري القديم الرابط بين شرق وجنوب آسيا وأوروبا. وهكذا كانت طوال تاريخها قوة أساسية من قوى تجارة الشرق عبر موانئها وأساطيلها. يخبرنا اجارتاسيس عام120 قبل الميلاد، ان سفن العمانيين وصلت إلى شواطئ الهند. وتخبرنا مصادر صينية ترجع للفترة ما بين 206 قبل الميلاد و97 بعد الميلاد، أنها كانت تتاجر مع شواطئ الصين الجنوبية. وتخبرنا المصادر التاريخية ان عمان كانت في القرن الثاني الميلادي تمتلك ثاني أسطول بحري في العالم. وتخبرنا المدونات الإسلامية ان البحارة العمانيين تولوا قيادة بعض اهم حملات البحرية الإسلامية في عهد الأمويين.

وكان لتلك الخبرة التاريخية المتميزة تأثيرها عبر ثلاثة مسارات. أولها: انه جعلها قادرة على التقدير الصحيح، لخصوصيات التوازنات السياسة والإقليمية الحاكمة لمحيطها الجغرافي المباشر. وثانيها: انه جعلها اكثر انفتاحا على العالم الخارجي، واكثر تفاعلا مع الثقافات الخارجية، وبالتالي اكثر تقديرا لتعدد المصالح وتنوعها، وبالتبعية القدرة على الجمع والموازنة بينها. في القرن الثامن عشر زار الرحالة ريموند ولسند مسقط، ودون ان مسقط مدينة منفتحة على شعوب العالم، وان هذا الانفتاح إحدى سمات العمانيين الثقافية. وثالثها: ان وعيها التاريخي لتقلبات موازين القوى البحرية، بما يصحبها من صعود وتوسع يليه انحسار، جعلها شديدة التحسب تجاه تطلعات السيطرة الأجنبية، واكثر حرصا على استقلالية قرارها السياسي الخارجي.

ومن جهه ثانية لا تندرج الدولة العمانية في خانة الدول الجديدة، فهي ليست من نمط الدول الإفريقية التي نشأت في سياق المشروع الاستعماري الغربي، أو رداء سياسي حديث لتجمعات من نوع ما كما حدث في بعض المناطق العربية. إذ تشكل الدولة العمانية الحديثة امتدادا لدولة قديمة، عرفت مثل كل الدول فترات ازدهار ووحدة وتوسع تعقبها فترات ضعف وتفكك، وفي ظلها انتجت تراثها الحضاري الثري على مدى قرون.على امتداد دولة النباهنة 1154-1624، مرورا بدولة وامبراطورية اليعاربة1624 - 1741، حتى تأسيس دولة وامبراطورية البوسعيد من 1744، ساهمت عمان في تشكيل تراث الحضارة الإسلامية. مساهمة بدأت بجابر بن زيد بكتابه الديوان، ووجدت رمزها الأمثل في مساهمة الفراهيدي في علوم اللغة، وابن ماجد في علوم البحار.

وكان لهذا تأثيره في تشكيل السياسة الخارجية العمانية. أدرك صانع القرار الحكيم ان عليه ان يقرأ دروس تلك الخبرة، وإخضاعها للتأمل والتعلم على ضوء معطيات الواقع الحديثة. وفي سياق هذا التعلم احتلت عمان مكانها الطبيعي، قوة من حقائق الجغرافيا والتاريخ والتوازنات الإقليمية، في حاجة إلى الموازنة والتعايش وليس العداء والإقصاء. كما أدرك انه ليس فقط بصدد إطلاق نهضة تاريخية حديثة، بل أيضا إحياء لتراث حضاري ثري، الأمر الذي حصن القرار بأقصى درجات التدبر والمسؤولية .

سنجد المجموعة الثانية من العوامل في السياق الإقليمي العربي. تميز هذا السياق بدرجة عالية من الصراعية، وفي الكثير من الصراعات كان مستوى حدة الصراع أعلى بمراحل من حدة تناقض المصالح المفجرة للصراع، وتبني الكثير منها خيارات صفرية، الأمر الذي أدامها لفترات طويلة استنزف موارد هائلة. والأخطر استقطابها في إطار سياسات هيمنة جديدة أطلقتها قوى إقليمية كانت من قبل مكتفية بأدوارها المحدودة، وصراعات القوى الدولية من اجل السيطرة على المنطقة وإعادة تنظيمها، أو استعادة نفوذ فقط في سياق تطورات سابقة. ولقد وعت السياسة العمانية تلك الحقيقة، وأدركت ضرورة تبني رؤية سياسية تجنبها التورط في هذا السياق،عبر الامتناع عن المشاركة في صراعات تستنزف قدرات وموارد أطرافها، أو الوقوع في شراك الاستقطاب الإقليمي والدولي للأزمات. والأهم تمكنها من التعامل الإيجابي مع الأزمات، عبر إقامة قنوات الحوار والوساطة، واقتراح حلول تغلب التهدئة والخيارات التوسطية.

وسنجد نماذج لتلك الرؤية العمانية البناءة، في سياساتها الخارجية تجاه ثلاث أزمات إقليمية.

نرصد النموذج الأول في أزمات الصراع العربي - الإسرائيلي، وبالتحديد الأزمة الناتجة عن زيارة الرئيس السادات لإسرائيل. انتقل الصراع بعد الزيارة إلى مرحلة جديدة تماما، يهمنا منها الفترة الممتدة من الزيارة في نوفمبر1977، حتى توقيع اتفاقية السلام المصري - الإسرائيلي في مارس 1979. تعاملت السياسة العمانية مع تلك الفترة تعاملا إيجابيا ميزها عن اغلب التفاعلات العربية. فلقد أدركت بعمق ان الأمر لا يشكل مجازفة شخصية للرئيس السادات، بل مقدمات مرحلة جديدة قادت إليها تحولات واسعة وعميقة، في ظلها يفقد الكثير من السياسات القديمة صلاحيته السياسية. وهكذا خالفت الإجماع العربي في قمة بغداد 1979، التي قررت تعليق عضوية مصر ونقل جامعة الدول العربية إلى تونس. وستواصل موقفها حتى تجيئ التطورات لتثبت صحته، عندما بادر العراق ذاته بالسعي لعودة مصر في قمة عمان 1987، ثم اكتمل التراجع عام 1990 بقرار عودة الجامعة إلى القاهرة.

وسنجد النموذج الثاني في السياسة العمانية تجاه ايران. انطلقت هذه السياسة من رؤية واضحة، تفيد أن إيران كانت طوال تاريخها إحدى القوى الإقليمية الأساسية، الأمر الذي يفرض التعامل معها عبر الشراكة والتعاون، وليس العداء والحصار.

وتكتسب تلك الضرورة خصوصية عمانية من واقع الشراكة في مضيق هرمز. لا يفصل شواطئ الدولتين سوى 21 ميلا، وتعبر مياهه ما لا يقل عن 35% من تجارة البترول العالمي، واغلب مياهه الصالحة للإبحار تقع في المياه الإقليمية العمانية. ومن تلك الرؤية تفرعت عناصر أساسية. أولها: الحرص على انتهاج سياسات محايدة في مواجهة الأزمات مهما كانت حدة استقطابها. تجلي هذا الحياد في الحرب العراقية - الإيرانية 1980 -1988، ولم يكن حيادا سلبيا بل حيادا إيجابيا، في ظله حافظت على علاقة إيجابية بين طرفي الحرب، والتمسك بالحياد تجاه سياسة الاحتواء الأمريكي المزدوج لإيران والعراق 1993، ثم قانون العقوبات الليبية - الإيرانية 1996.

وثانيها: الجهود العمانية الساعية للتهدئة وبناء الثقة بين الطرفين، من خلال التوسط للإفراج عن محتجزين أمريكيين لدى إيران. ونجحت فعلا في الوصول لتفاهم بين الطرفين، بمقتضاه عادوا إلى وطنهم خلال عامي 2010 - 2011، وفي المقابل تمكن الوسيط العماني من إقناع أمريكا بالإفراج عن عالم ايراني في 2013.

وثالثها: دور الوساطة التفاوضية بين الطرفين، ونجد ابرز نماذجه في المباحثات التمهيدية للاتفاق النووي الإيراني. كتب ريتشارد شميرير سفير أمريكا السابق في عمان 2009 -2012، مقالة نشرها في دورية ميدل ايست بوليسي الأمريكية، رصد فيها بتقدير عال ملامح الدور العماني كما عايشه. يخبرنا شميرير ان الوسيط العماني لم يكن ناقلا لرسائل بين قوتين استحكم العداء بينهما، بل مستكشفا لرؤى الطرفين وراصدا للعناصر الذاتية والموضوعية فيها، مقيما لإمكانيات التقارب ومقترحا لها. ويخبرنا باحترام عميق كيف اظهر الوسيط العماني تفهما عاليا للمخاوف الإيرانية تجاه أمريكا، وكيف شرح بموضوعية العناصر الذاتية فيها ومدى صدقها الذاتي بمعزل عن صدقها الموضوعي، وضرورة أخذ هذا التناقض مأخذ الجد في الحساب. وكيف اظهر لهم دور الكرامة والاعتداد بالذات في اتخاذ القرار الإيراني، والحدود التي ستسمح بها بالتنازل في الملف النووي. ونوه ان التقديرات العمانية يمكننا اكتشاف تأثيرها، في تصريح أوباما لتوماس فريدمان عشيه توقيع الاتفاق:« علينا ان نضع انفسنا في مواقعهم لكي ندرك معاناتهم، علينا ان نتذكر تاريخنا معهم».

وسنجد النموذج الثالث في السياسات العمانية، تجاه الأزمات العربية المحتدمة في سوريا واليمن وليبيا وقطر. نعثر في تلك السياسات على عدة سمات، تميزها بقوة عن اغلب السياسات العربية. امتنعت السياسة العمانية عن ممارسة أي تدخل يمكن ان يؤججها، بمناصرة طرف ضد آخر عبر وسائل الدعم التي اتبعتها الدول العربية، أو عبر المشاركة في الحصار السياسي والاقتصادي.

لم ينتج عن هذا النمط من التدخل سوى تصعيد الصراعات، واستدعاء المزيد من الفاعلين الخارجيين إلى ساحتها، وفقدان الفاعلين الإقليميين لإمكانية الإحاطة بالأزمة. كما امتنعت أيضا عن المشاركة في التدخل العسكري المباشر كما حدث جزئيا في ليبيا، وكما اتخذ شكله الواسع والمقنن في اليمن. ولكن الموقف العماني لم يقتصر على الامتناع الإيجابي، بل اتسع للمشاركة الإيجابية. مشاركة اتخذت شكل الحرص على الاحتفاظ بقنوات اتصال جيدة مع أطراف الأزمة، بما يوفر القدرة على المبادرة السياسية حين يصبح ذلك ضروريا أو ممكنا.

وهكذا سنجدها الدولة الخليجية الوحيدة، التي حافظت على علاقتها بالسلطة السورية على مدى سنوات الأزمة، وقطر في ذروة الحصار. ثم انتقلت تلك المشاركة إلى شكل الدور التوسطي في التفاوض بين الفرقاء، سواء عبر تنظيم واستضافة المفاوضات أو عبر لعب دور الوسيط التفاوضي.