1246745
1246745
المنوعات

مسـيرة البشـر من شـواطئ ظفـار إلـى كهــوف أوروبا

11 فبراير 2018
11 فبراير 2018

هـوامـش على اكتشـاف أقدم رجـل أوروبي -

د. هادي حسن حمّودي (لندن) -

* المقدمة الأولى:

كشف فريق من العلماء صورة جديدة لملامح أقدم رجل أوربي معروف. ففي الأسبوع الماضي أعلن خبراء ومتخصصون في الأجناس البشرية أن أقدم رجل أوروبي كان ذا بشرة داكنة اللون وله شعر أسود مجعّد وعينان زرقاوان وثبت لديهم أنه عاش قبل حوالي 10 آلاف سنة، بعد انتهاء العصر الجليدي. وقد عُرف باسم (تشيدر مان) نسبة إلى الموقع حيث عثر عليه في جنوب غرب إنجلترا.

وقال كريس سترينجر مدير الأبحاث في متحف التاريخ الطبيعي في لندن إن عملية إعادة تشكيل وجه تشيدر مان التي أجريت قبل بضع سنوات، أظهرته بشعر أسود وعينين بنيتين لكن مع بشرة فاتحة. ولكن من المفاجئ جدا أن نكتشف أن بريطانيّا عاش قبل 10 آلاف سنة كان يتمتع ببشرة داكنة جدا وعينين شديدتي الزرقة، وأنه وصل إلى شمال أوروبا في نهاية العصر الجليدي.

وقد اعتمدت الأوساط العلمية في المملكة المتحدة، في الوصول إلى هذه النتيجة، على عاملين اثنين هما نوعية المورث النووي (DNA) الجيدة جدا لهيكل عظمي بهذا القدم والتقنيات الحديثة لتحديد تسلسل الجين الوراثي.

وبفضل المعلومات التي تم استخلاصها من المورث النووي وبالاستناد إلى مسح ضوئي للجمجمة، صمّم خبيران هولنديان نموذجا بالأبعاد الثلاثية يبيّن ملامح (تشيدر مان).

* المقدمة الثانية:

تشيدار مان هو أحفور لذكر إنساني وجد في كهف جوج في تشيدار، سومرست، إنجلترا. ويعود تاريخ الهيكل العظمي إلى العصر الحجري الميسوليتي (حوالي 9100 سنة)، وهو أقدم هيكل عظمي إنساني كامل في بريطانيا. واحتفظ به متحف التاريخ الطبيعي في لندن منذ سنة 1903، وقد تم عرضه في معرض تطور الإنسان الجديد في متحف (شيدر مان أند كانيبالس) في قرية شيدر حيث وجد أصلا.

* المقدمة الثالثة

مساء يوم 7/‏‏‏2/‏‏‏2018 تحدث خبراء من متحف التاريخ الطبيعي في لندن وعلماء الأجناس البشرية عبر القناة الرابعة للتلفزة البريطانية، أن أصل الهجرات البشرية تمت من جنوب الجزيرة العربية قبل 40 ألف سنة، واستقرت تلك الهجرات في وادي الرافدين، ومنها لاحقا حدثت هجرات نحو الشرق ونحو الغرب (أوربا) واستقرت في بعض الأرجاء الأوربية قبل 10 آلاف سنة. ومنها هذا الرجل.

* المقدمة الرابعة:

غالبا ما تكون فكرة معينة مستندة إلى ظواهر تعبيرية، وسيلة للوصول إلى نظرية، ثم تكتسب تلك النظرية صفة العلمية بظهور شواهد مادية، إذ إن العقل البشري مبرمج على حاساته الخمس التي تشكل الإدراك، من النظر والسمع واللمس والشم والتذوق.

الموضوع والغاية:

في سنة 1997م أكملت (التاريخ السياسي العماني) في ثلاثة أجزاء. تخصص الجزء الأول منه بالحقب القديمة جدا منذ ظهور الإنسان الأول على سطح الأرض. ولكن نظرا لظروف معينة، صدرت خلاصة للجزء الثاني فقط، سنة 2006، وبعيدها ألقيت محاضرة على هامش معرض مسقط الدولي للكتاب عن ذلك التاريخ، ودعوت إلى دراسة الآثار التي غرقت في البحر أسوة إلى الآثار المستكشفة في البر.

في سنة 2012م صدر كتابي (قصص القرآن من الرمز إلى الواقع) وكان لي فيه أفق أوسع للحديث عن تاريخ نشأة الإنسان والهجرات أين كانت، ثم الهجرات التي حدثت، وكان فيما كتبته مخالفة واضحة لكثير من الآراء السائدة. حيث أخذتني الشواهد إلى ما وصلت إليه. وتمثل المقدمة الثالثة والمقدمة الرابعة المذكورتان أعلاه، خلاصة الرأي الذي ارتأيته. وبحكم عدم توفر أدلة مادية لم أستطع أن أقدم دليلا ماديا لمن لا يريد الاقتناع بمنهج الوصول إلى ما قررت. حتى حدث هذه الأيام ما ذكرته في المقدمة الأولى والمقدمة الثانية، من شواهد علمية، تجعلني أعيد قراءة الموضوع من جديد.

أما عن الموضع الذي ظهر فيه الإنسان الأول، فلا نملك إلا إشارة التوراة أنه كان في (شرقيّ عدن). وأما نظرية النشوء والارتقاء الداروينية فتضطرب في هذا التحديد. وتعددت الاجتهادات، لاحقا، ما بين إنسان الناينتردال في شمال العراق، وإنسان إفريقيا، وغيرها. ولم تقتصر الاختلافات على مكان ظهور الإنسان الأول، بل اختلفوا كثيرا في تاريخ ظهوره.

ونحن، لا تعنينا كل هذه الاختلافات، وإنما سننطلق من نقطة جوهرية اتفقت عليها كل الأطراف، وهي أن ثمة إنسانا ظهر على وجه الأرض هو أب البشر جميعا. تحدد الأديان اسمه بـ(آدم). ويخفق الآخرون في تسميته.

وعلى هذا، فإنّ نظريات الاتجاه القائل بتطور الأجناس لا تستطيع أن تدفع الإقرار بأنّ موطن الإنسان الأول كان (شرقيّ عدن). ونحن حين نقول (شرقيّ عدن) فانّما نستعمل مصطلح القدماء من مفسّري الكتب السماويّة وعلماء الأديان، ومصطلح العلماء المعاصرين، في الوقت ذاته. ولا نرى ما ينقض القول بأنّ (شرق عدن) وهو موضع غير محدّد بدقّة لديهم، لا يعنِي إلا المنطقة الجنوبية من عُمان، إذ إنّ التصوّر القديم لجغرافيّة جنوب الجزيرة العربيّة، كان يضع عُمان في شرق عدن، على ما بيناه في الكتاب المومأ إليه.

وينفعنا في هذا المجال ما ذكرته لورين إيفانز في كتابها المهمّ (Kingdom of the Ark) الذي أصدرته قبل فترة قصيرة وأثبتت فيه التأثيرات الشرقيّة للحضارات الأسكتلنديّة القديمة التي أكّدتها حفريات وكشوف أثريّة عديدة يعود تاريخها إلى عدة آلاف من السنين قبل الميلاد. واسكتلندا كما هو معروف تقع في شمال المملكة المتحدة.

ومن البديهي أن تلك التأثيرات لم تقفز من الشرق إلى اسكتلندا بجسر جوي بل وصلت إليها عبر تواصلٍ جغرافيّ بين تلك المناطق وتجاورها وتحاورها. ولذلك فإننا حين نضع أمامنا حقيقة كون العالم قارّة واحدة قبل انفصالها إلى قارات، ونعود إلى نظريّات تفسير ظهور الإنسان الأول على الأرض، لا نجد مندوحة من الاعتراف بأنّ ذلك الإنسان الأوّل قد ظهر في الإطار الجنوبي من جنوب الجزيرة العربيّة، وفي (شرق عدن) بالتحديد.

ونظرا لما ذهب إليه شرّاح التوراة، وتابعهم مفسرو القرآن الكريم، فقد ذكرت الهند موضعا لهبوط آدم، وكذلك لرسوّ سفينة النبي نوح، ذلك الرسوّ الذي بدأ به الخلق الثاني للعالم بعد الطوفان الذي أراه السبب الرئيس لانزياح القارات، وهي النظرية التي ظهرت للوجود سنة 1912، وتتابعت البحوث حولها.

وكما أفدنا من إشارة موضع هبوط آدم واستقرار الجنس البشري في شرق عدن التي لا تعدو أن تكون شواطئ ظفار، بناء على أن (عدن) لم تكن خاصة بالمدينة المعروفة فحسب، بل كانت منطقة شاسعة تمتد نحو الشمال الشرقي.

أقول: كما أفدنا من تلك الإشارة أفدنا من قصة الطوفان في التنزيل العزيز واستقرار السفينة على (الجودي) الذي فهمه المفسرون بغير معناه اللغوي. ذلك حين ذكروا أنّ (الجوديّ) جبل اختلفوا في تحديد موقعه ما بين قائل إنه في جبال أرارات وقائل أنه في الهند، بل ذهب آخرون إلى القول بأنه في أرمينيا.

غير أننا إذا عُدنا إلى لفظة (الجودي) الواردة في الآية: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(سورة هود 44) سنجدها لفظة عربية صحيحة قديمة تدل على الطريق المستوي الذي زالت عنه المياه. وهي الأرض الرملية الممهدة للسالكين. وجاء في أمثال العرب: (مَن سَلَك الجَدَدَ أمِنَ العثار). ويتطور الجذر (جدد) إلى (جود) فيظهر لفظ (جود) ووصف به الحصان فقيل (جواد) وكذلك الرجل الكريم، وإنّما سُمّي بذلك لسماحته وسهولة مخالطته، تماما كالسهولة الملحوظة في جوادّ الطريق الذي يأمن فيه السائر من العثار. وللآن ما زال العرب يسمّون الطريق الممهّد: جادّة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّه ليس في كل بلدان العالم قديما وحديثا جبل باسم (الجودي). ولا يُعقل أن ترسوّ السفينة على جبل ذلك أنها لم ترسُ إلا بعد أن (غيض الماء) أي: ذهب ونقص وعادت الأرض إلى طبيعتها. فمن الأولى أن يكون رسوّها على شاطئ (جوديّ) أي رملي ممهّد للسالكين. وهناك حيث نزلوا سيؤسسون حضارة جديدة.

وحسبنا، هنا، أن نشير إلى أنّ أوّل نبيّ ظهر بعد نوح، هو النبيّ هود، الذي أرسل إلى قوم عاد في الأحقاف، التي كانت تشكّل جزءا من أرض عُمان، لا من أرض الهند والسند وأرمينيا.

ثم إنّ لفظي (عدن) و(عُمان) بحدّ ذاتهما، يلفتان النظر، فهما دالاّن على الإقامة. فبالنسبة لعُمان، تقول: عَمَنَ في المكان: أقام به. وأعمنَ فلانٌ: إذا أتى عُمان. وندري أن ثمة تسميات لعُمان قيل عنها إنها أكثر قِدَما من لفظ عُمان، كما ندري أن ثمة من قال إنه اسم أحد أولاد النبي إبراهيم الخليل، أو أحد أبناء قحطان كما ذكر ابن خلدون. ولكننا ناقشناها في (قصص القرآن من الرمز إلى الواقع) نقاشا كافيا. كما أننا نرى أن تلك المسميات، إن صحت، لا يمكن أن تبتعد عن معنى الإقامة أيضا.

وكانت عُمان آنذاك، بلادا ممتدّة من شرق عدن، وأحيانا من عدن ذاتها وإلى تخوم البصرة. وربّما وَهَمَ بعض القدماء حين جعلها جزءا من بلاد اليمن، من غير تحقيق كافٍ، مما أثّر على آخرين ممن ظهروا في القرون المتأخّرة، فحاولوا التوفيق بين الأمرين، ولم يُكتب لهم النجاح، لأنّ التوفيق بين الأمرين هو جمع بين متناقضات، بين ادّعاء يعتمد على وهم تاريخي وقع فيه مؤرخ قديم أو جغرافي لم يدقّق في معلوماته، فتابعة اللاحقون، وحقيقة تاريخية وجغرافيّة سياسيّة قائمة فعلا منذ أقدم النصوص المعروفة، ولها من دلالات الألفاظ ركن ركين.

إن تحليل لفظ (عُمان) يقدم مهادا علميا لنظرية نشأة الجنس البشري، ذلك أنّ المعنى الأصيل للفظة عُمان هو (الإقامة). ولنا أن نتساءل: من أين جاء معنَى الإقامة لهذا اللفظ؟ فالإقامة هي الإقامة في أيّ بلد كانت وفي أيّ مكان، فلماذا اختصّت (عُمان) بذلك المعنَى، حتى صار من الجائز أن تقول: عَمَن فلانٌ العراقَ أو بالعراق أي استقرّ به واتّخذه وطنا، ولا يمكنك أن تستخدم أسماء البلدان الأخرى للدلالة على الاستقرار والإقامة في عُمان؟!

إنّ لك أن تقول: أعرق فلان، أي: ذهب إلى العراق أو أقام به، وتمصّر أي أقام في مصر أو سافر إليها، ولا يمكنك استخدام تمصّر فلان أو تشأّم في الدلالة على من أقام في عُمان أو اتّخذها وطنا، أي إنّ اللغة لا تبيح لك أنْ تقول: أعرقتُ أو تمصّرتُ أو تشأّمت إذا سكنتَ عُمانَ، بل هي ألفاظ مختصّة بالعراق ومصر والشام بدلالة الألفاظ ذاتها، وكذا في دلالات أسماء سائر المدن، باستثناء عدن الدالّة على الإقامة أيضا، وما بين (عدن) وعُمان علاقة لفظيّة يتّسع فيها القول، وليس هنا مجال الخوض فيها.

يبدو أن ذلك راجع إلى كونها الموطن الأول الذي نزله الإنسان الأول، وأنه المكان الذي رست فيه سفينة نوح ليبدأ الخلق الثاني للعالم بعد الخلق الأول. ومن هناك بدأت الهجرات، خاصة بعد مرحلة التصحر، وصولا إلى بلاد الرافدين حيث تأسست الحضارات القديمة، ثم تتواصل الهجرات شرقا وغربا، فتعبر بعضها بلاد الأناضول مستقرة في نواح عدة في أوربا، منها هذا الإنسان المذكور في المقدمة الأولى أعلاه.

وإني لأتوقع أن إخضاع الهياكل العظمية المكتشفة في المقابر القديمة في عُمان لتحليل المورثات، وإعادة تشكيل الوجه والجمجمة بالأبعاد الثلاثية، سيجسد هيئة الإنسان في تلك الحقب المتمادية في القِدَم. كما أن البحث عن آثار تلك الحقب في أعماق البحر سيثري الدرس العلمي كثيرا.